وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فرص المراجعة التاريخية على ضوء ثورة ديسمبر والسلام في السودان
نشر في السوداني يوم 31 - 10 - 2020

قال البروفيسر السنغالي الشيخ أنتا ديوب، وهو واحد من أهم المؤرخين والمفكرين الثوريين الأفارقة، وقد نال درجة الدكتوراه من جامعة السوربون في رسالة حول أصول الحضارة الإفريقية السوداء القديمة لوادي النيل وقد أطلق عليها لأهميتها الفائقة "إنجيل التاريخ الإفريقي" قال "إننا عندما نتحدث عن أجدادنا السود الذين يعيشون غالباً في إفريقيا السوداء ومساهماتهم في علوم الرياضيات والفلك وعلوم التقويم عموماً والفنون والأديان والزراعة والنظام الاجتماعي والطب والقراءة وفنون العمارة وهم مهندسو العمارة الأوائل الذين استطاعوا بناء أهرامات يبلغ وزنها أكثر من 6 ملايين طن وما كان لذلك أن يتم لعمال غير مهرة، إننا حينما نقول ذلك لا نتنكر لمساهمات الآخرين كما عليهم أن لا يتنكروا لمساهمات الأفارقة السود وإننا في ذلك نسعى إلى المصالحة الإنسانية" بروفيسور أنتا ديوب في كتابه "أصل الحضارة الإفريقية: خرافة أم حقيقة".
العرب الموجودون في إفريقيا يفوق عددهم العرب المتواجدون في آسيا وهي حقيقة جديرة بالتأمل ولا تؤشر إلى مؤشر الجغرافيا فحسب بقدر ما تشير على نحو أكثر أهمية إلى التفاعل الثقافى والاجتماعي والإنساني والتاريخي بين العالمين الإفريقي والعربي والعلاقة بينهما معضلة من معضلات سودان اليوم في تناول قضايا البناء الوطني.
قال ألبيير كامو المثقف والمفكر والمتمرد عن المناهج التقليدية "إن مناهج التفكير التي تدعي قيادة عالمنا باسم الثورة قد أصبحت في الحقيقة عقائد جامدة وليس تمرداً أو ثورة".
إن الثورة الحقيقية هي وحدها من تستطيع هدم المجتمع القديم وبناء مجتمع جديد وفق منظور تاريخي قائم على المراجعة والنظرة النقدية لكامل التاريخ وما تمخض عنه من تناقضات في بناء المشروع الوطني، وتظل قضية المواطنة بلا تمييز هي إحدى القضايا الرئيسية التي دون حلها لن نستطيع بناء دولة حديثة وسلام دائم وديمقراطية وتنمية مستدامة في السودان.
وثورة ديسمبر 2018 المجيدة تشكل فرصة فريدة للمراجعة التاريخية لا سيما وأن خطابها السياسي اتجه نحو الاحتفاء بالتنوع والاعتراف بالآخر وربط قضية الديمقراطية والسلام والعدالة كحزمة واحدة ويمكن القول بثقة ودون تردد إن خطاب الثورة في جوهره هو خطاب "السودان الجديد" الذي يجعل من المراجعة التاريخية أمراً ضرورياً للوصول للمشروع الوطني الجديد.
إن المراجعة التاريخية التي نعنيها تقوم على الحقائق والبعد المعرفي والمنظور المتكامل لتاريخنا الوطني والبحث عن مشروع وطني ديمقراطي قائم على المواطنة بلا تمييز والاعتراف بالمساهمات التاريخية لجميع أقوام السودان وبالتنوع التاريخي والمعاصر وبالآخرين وحقهم في أن يكونوا آخرين في إطار مشروع ديمقراطي منحاز للفقراء والمهمشين وفي مقدمتهم النساء.
حروب السودان الحالية التي بدأت منذ أغسطس 1955 بتوريت في جنوب السودان واستمرت حتى يومنا هذا أكتوبر 2020 في ظل أنظمة منتخبة وشمولية واتفاقيات سلام ثم حرب وثورات تطيح بالشموليات مع استمرار الحرب ولأول مرة في ثورة ديسمبر تتبدى للعيان إمكانية أن تؤسس الفترة الانتقالية للديمقراطية والسلام معاً وتهديمها كحزمة واحدة وقد استخلصت الحركة الجماهيرية أهمية الربط بين الديمقراطية والسلام والعدالة في شعارها الفريد "حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب" ويرجع الشعار بجذوره إلى مساهمات حركة الطلبة الجنوبيين في إطار السودان الموحد وبتأثير قوى من مفاهيم ورؤية السودان الجديد.
فى عام 1988 م. وفي معسكر (نرويجان) بالقرب من مدينة كبويتا بشرق الاستوائية، استدعاني الشهيد الدكتور جون قرنق دي مابيور في إحدى الأمسيات الخريفية وسماء الاستوائية لا يتوقف عن مخاطبة الأرض بالغيث وكنت قد التحقت برئاسته المتحركة قبل مدة وجيزة وأعطاني وثيقة كان قد كتبها عشية اتفاق أديس أبابا في مارس 1972 معترضاً على ذلك الاتفاق وقد أورد حيثيات دقيقة تدعم اعتراضه مما أغضب جوزيف لاقو قائد الأنيانيا الأولى وجعله يطلب من جعفر نميري عدم استيعاب جون قرنق في القوات المسلحة، وأنه إذا إستوعبه سيكون ذلك مجازفة منه، وذكر لي دكتور قرنق أنه قد فقد هذه الوثيقة منذ سنوات ولكن صديقه البروفيسور دومنيك أكيج محمد أستاذ الهندسة في جامعة فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية هو من احتفظ بها وأرسلها له مجدداً، ثم عرج على منظوره التاريخي للقضية السودانية ولموضوعة "السودانوية" واستشهد بالبروفيسور والمفكر السنغالي الشيخ أنتا ديوب وكانت تلك هي المرة الأولى التي تعرفت فيها على مساهمات الشيخ أنتا ديوب ذات الصلة الوثيقة بالتاريخ السوداني. ولاحقاً في القاهرة التقيت الدكتور الراحل محي الدين صابر الذي عاصر البروفيسور أنتا ديوب في جامعة السوربون وقد أهداني أحد مجلدات الشيخ أنتا ديوب وعلى غير عادة الصورة المرسومة لمحي الدين صابر في مخيلة الكثيرين حول اهتماماته فإن الدكتوراه التي نالها كان موضوعها عن قبيلة الزاندي بجنوب السودان. إن المراجعة التاريخية تستدعي من الأكاديميين/ات السودانيين/ات الحفر والنحت في التاريخ السوداني والعلوم الإنسانية للمجتمعات السودانية مما يجعل منظورنا السياسي مستنداً على المعرفة بتاريخنا ومجتمعنا.
المراجعة التاريخية تحتاج إلى القراءة والإلمام الدقيق بالتاريخ السوداني نفسه قبل أن نشرع في مراجعته، يجب أن نطلع على تاريخ البلاد التي نريد أن نقوم بمراجعة تاريخيها فإذا لم نحط بدراية وعمق بتاريخها لن نستطيع أن نقوم بمراجعته.
إن لم نكن نعلم من أين جئنا، لا نستطيع أن نحدد بدقة إلى أين سنتجه ونبحر في لجة قضايا الماضي وتعقيدات الحاضر وستأخذنا رياح وعواصف وتيارات العالم المضطربة لا سيما وأن العولمة قد فرضت شروطاً جديدة للتطور تزهق أرواح الثقافات والتفرد الذي تحظى به كثير من المجتمعات وتقدم لها بدلاً من تميزها التاريخي الوجبات السريعة والروشتات المعدة والمصنعة بعيداً عن حياض ثقافاتها وتربتها الوطنية الأمينة.
هنا نحن أمام تفاعل وطني وتفاعل خارجي، نأخذ ونعطي والتاريخ هو محور مهم في عملية التشكل والبناء الوطني وتيارات ما بعد الدولة الوطنية وما بعد الكولونيالية والاستعمار الحديث. إن السفن التي لا تربط في المراسي تأخذها تيارات المياه الجارفة بعيداً عن سواحل الرسو وهكذا المجتمعات التي لا ترتبط بمراسي تاريخها. ومن هنا تكمن أهمية التاريخ وضرورة مراجعته كواحد من أعمدة البناء الوطني والشخصية السودانية التي يرجع تاريخها إلى ما يزيد عن 7000 عام من التشكل والصيرورة التاريخية المستمرة. والمنظور التاريخي التقدمي بغرض توحيد الضمير الوطني وبناء مشروع وطني قائم على المواطنة بلا تمييز يجمع ولا يفرق ويصون ولا يبدد هو واحد من أعمدة فكر "السودان الجديد" وإحدى المساهمات الرئيسية للدكتور جون قرنق دى مابيور أتيم.
السؤال المحوري هنا، ما هي أهم الخصائص والملامح التاريخية للسودان؟
السودان بلد فيه تنوع تاريخي وتنوع معاصر، هذه هي الخصائص الرئيسية التي يجب أن يبنى عليهما المشروع الوطني، والمشروع الوطني منذ استقلال السودان في 1956 لم يأخذ في اعتباره خصائص السودان المهمة وهي التنوع التاريخي والتنوع المعاصر، والتنوع التاريخي في تاريخ السودان يرجع إلى أكثر من سبعة آلاف عام وهو جزء من تاريخ حضارات وادي النيل القديمة وهي حضارات إفريقية سوداء وهي الحضارات التي قامت على ضفاف وادي النيل والسودان في قلب هذه الحضارات، وفي حضارات وادي النيل القديمة لعب السودان دوراً محورياً وساهم في تطور العلوم والهندسة وغيرها وهنالك دلائل مثبتة من كثير من المؤرخين والباحثين والدارسين بأن الأهرامات قد بدأت في شمال السودان ثم انتقلت إلى مصر، والأهرامات المصغرة هي التي كانت بدايات بناء الأهرامات والتي انتقلت لاحقاً شمالاً إلى مصر، والسودان كان مشاركاً فعلياً في نهضة حضارات وادي النيل وحكمت الأسر السودانية مصر القديمة، وقد بدأت ديانات التوحيد في وادي النيل، واخناتون هو الذي بدأ توحيد الديانات، وفي السودان أقامت المسيحية دويلات وممالك حكمت السودان لأكثر من 1000 عام (المغرة وعلوة وسوبا) ولا زالت كثير من الطقوس والعادات والموروثات ترجع للعهد المسيحي، والعذراء نفسها رسمت كامرأة سوداء في كنيسة (فرس) التي غمرتها مياه السد العالي وقد قام الملك زكريا بن جرجة، أحد الملوك المسيحيين السودانيين العظماء، بزيارة بغداد في العهد العباسي، ولا زال الناس حينما يولد طفل جديد في بعض مناطق السودان يرسم صليبا من الكحل على جبهته وفي الأعراس يذهب بالعرسان إلى النيل وتقام له طقوس أقرب أو شبيهة بالمعمودية على ضفافه، والحاكمية دوماً للنيل الخالد، والإسلام انتشر على مدى تسعة قرون وأول دولة إسلامية كانت في 1504 السلطنة الزرقاء وسميت بالسلطنة الزرقاء لأن الناس الزرق كانوا هم الطبقة العليا وهذه السلطنة قامت نتيجة للتحالف التاريخي بين عمارة دنقس وعبد الله جماع (الفونج والعبدلاب) واستمرت وحكمت السودان لمدة 317 عاما وكذلك سلطنات الفور والمسبعات والبلويين في شرق السودان وغيرها، إن الإسلام السوداني ذو خصائص سودانية شربت من الحضارات والثقافات والطقوس السودانية وأثرها القوي على الطرق الصوفية براياتها المطرزة بالنذور الإفريقية وقد انتشر الإسلام في شمال السودان على مدى تسعة قرون بالموعظة الحسنة لا بسيوف الجهاد وإراقة كل الدماء، تم ذلك من اتفاقية البقط في عام 641 م إلى قيام السلطنة الإسلامية الأولى في سنار في عام 1504 م.
شهد السودان القديم تطور الكثير من العلوم والفنون وتجذر المعرفة وكان أبادماك هو إله المعرفة عند النوبيين القدماء وكانت مروي هى بيرمنجهام إفريقيا التي علمت العالم صهر وتطويع الحديد وهذا التنوع التاريخي لم يعط أي حيز في بناء المشروع الوطني والاعتراف بأثره في تكوين الشخصية الوطنية ولا في أجهزة الإعلام ودور الوعي والمعرفة والمناهج بعد خروج الاستعمار، والمشروع الوطني حصره الآباء المؤسسون للدولة السودانية الحديثة في معياري "العروبة والإسلام" وتجاهلوا المعايير الأخرى وهذا واحد من العيوب الرئيسية في المشروع الوطني لما بعد الاستقلال والتي يجب أن تصحح عبر ثورة ديسمبر واتفاق جوبا لسلام السودان من خلال منظور وطني جديد، أيضاً السودانيون أو السودان في شكله الحديث قبل انفصال جنوب السودان كان به أكثر من 570 قبيلة وأكثر من 130 لغة مثل لغات البداويت والفور والدينكا والنوير الذين يطلقون على لغتهم "توك ناس" أي حديث الناس وهي لغات أقدم من اللغة الإنجليزية وبعض من اللغات الحية في عالم اليوم، والتنوع المعاصر لم يعط الأهمية التى تليق به.
نقطة أخرى مهمة في هذا السياق سبق أن ذكرتها منذ سنوات في مقابلة صحفية في بداية 2011 م وفي مقالات أخرى إن الانتقاص من تاريخ السودان هو الذي انتقص من جغرافيته ووحدته وهو الذي أدى إلى ذهاب الجنوب، وبعد ذهاب الجنوب الذي تمخضت عنه دولة جنوب السودان قلت إن ذلك لن يؤدي إلى حل وسيكون هناك "جنوباً جديداً"، وأن الانتقاص من تاريخ السودان هو الذي انتقص من جغرافيته ووحدته وهو الذي سينتقص من جغرافيته مرة أخرى حال استمر ذات نهج المشروع الوطني القديم، فالجغرافيا والتاريخ يسيران في تناغم واتحاد وتنافر أيضاً إذا كانت الرؤية رؤية غير منسجمة مع التاريخ والجغرافيا والتنوع، ولذلك فالمراجعة التاريخية تحتاج إلى مرجعيات تاريخية وأن نرجع ببصرنا إلى بدايات التاريخ المعروف لهذه البقعة الجغرافية المسماة السودان الآن، أيضاً يجب أن نبحث في المسكوت عنه في الكثير من ملامح تاريخنا السياسي الحديث وأن نتناول قضايانا بشكل جاد.
"الرق وجذور أزمة البناء الوطني
من مخلفات الماضي التي لعبت، من بين أشياء وعوامل أخرى، دوراً رئيسياً وخطيراً في تشكيل جذور أزمة البناء الوطني حملات الاسترقاق المكثفة في فترة الحكم التركي المصري والمهدية ضد سكان مناطق بعينها ومساهمة بعض الوطنيين السودانيين كوكلاء محليين في هذه الحملات. ومع الإقرار بأن الرق ظاهرة عالمية في التاريخ الإنساني وموجودة منذ عهد الفراعنة والممالك النوبية القديمة وكذلك في سلطنتي الفونج والفور وفي الجنوب وكل المجتمعات التقليدية، إلا أنه كان يمارس في نطاق تقليدي محدود، التطور النوعي الذي حدث في فترة الاستعمار التركي المصري هو أن ظاهرة الرق تحولت إلى ممارسة منهجية واسعة النطاق كصناعة وتجارة تدر الدخل ومرتبطة بالنهضة الصناعية في الغرب وموانيه الكبرى وشخصياته التي راكمت ثروات من خلال تجارة الرق، وما "هوبكنز" إلا ما ظهر من جبل الجليد، وتحولت كذلك إلى ممارسة مؤسسية بمعنى أنها مرتبطة بسياسة الدولة ومؤسساتها الرسمية كأحد الأهداف الرئيسية لغزو السودان (جلب العبيد والذهب). أدى هذا الانتشار الواسع في ممارسة الاسترقاق ومشاركة سودانيين فيه إلى بذر أخطر بذور الانقسام والغبن في المجتمع السوداني، وما تزال تركة الرق تلعب دوراً في إعاقة عملية البناء الوطني وفي تغذية النزعات العنصرية ومظاهر الاستعلاء الإثني، وتعود إليها جذور بعض التفاوتات الطبقية الموجودة اليوم في المجتمع السوداني. ولا يمكن مواجهة ظاهرة العنصرية الموجودة في السودان وتحقيق التصالح الوطني دون العودة إلى التاريخ وفتح الملفات المسكوت عنها. فلا يمكن تحقيق مصالحة وطنية حقيقة إلا عبر القراءة الموضوعية لتاريخ السودان وإعادة كتابته، خاصة فترة تجارة الرق والجراحات العميقة التي خلفتها في قضايا البناء الوطني ووحدة السودانيين ونظرتنا لبعضنا البعض. كما ساهم هذا الإرث في تقسيم قوى التغيير وتعطيل عملية توحيدها في معركتنا لبناء مجتمع جديد معافى.
إن دراسة تلك الفترة والكشف عما جرى فيها والإدانة الواضحة والانتقاد الشفاف لتلك الممارسات التي حفلت بها ومخلفاتها اللاحقة ومكافحة العنصرية الحالية التي تمخضت عنها هي واجبات يجب القيام بها من أجل مستقبل التعايش بين السودانيين. ولن يتم كل ذلك إلا من خلال تبني مشروع وطني لبناء سودان جديد يعترف بالتنوع الإثني والثقافي والديني وحقوق المواطنة المتساوية، وتحويلها من كارثة إلى منفعة وذلك بتبني الدولة لسياسات واضحة لمكافحة مختلف أشكال العنصرية والتمييز من خلال مناهج التربية والتعليم والإعلام وبناء ثقافة مجتمعية متكاملة تحترم الكرامة الإنسانية وتعلي من قيم المساواة بين البشر دون تمييز، وإصدار التشريعات الصارمة لمكافحتها.
علينا أن نواجه ماضينا بجرأة لنصنع ما هو أفضل بمستقبلنا، فتأريخ السودان يحتاج إلى إعادة قراءة وكتابة مبنيّة على الحقائق تعترف بمساهمات كافة الشعوب السودانية وكافة الأخطاء والجرائم التاريخية.
فالتاريخ وتجارب بناء الأمم تعلمنا بأن الهويات المتصارعة التي انتجت العنف والانقسام يمكن أن تصبح هويات متحدة ومتآلفة إذا ما تمت إعادة تعريف وإعادة بناء الدولة بطريقة تجعلها تعبر عن كل مكونات المجتمع.
ومن ضمن هذه المراجعة الدقيقة لتاريخنا القديم والمعاصر لا بد من وقفة خاصة عند ثورة 1924 لا سيما ونحن على أعتاب الذكرى المئوية لهذه الثورة المجيدة التى تجاوزت عالياً جراحات تجارة الرق، خاصة الآن جاءت فرصة جديدة ليس للمراجعة التاريخية فحسب بل لبناء مشروع وطني جديد بعد ثورة ديسمبر المجيدة، ودون بناء مشروع وطني جديد ستنتهي الثورة مثل ما انتهت ثورة أكتوبر 1964 وثورة إبريل 1985، هذه البلاد تحتاج إلى مشروع وطني جديد والمشروع الوطني الجديد يقوم على المراجعة التاريخية.
إن ثورة 1924 هي أهم حدث في تاريخ السودان الحديث أقام فعله في محاولة جريئة للقطيعة مع الماضي والمراجعة التاريخية وإعلاء رايات "السودانوية" وهي العروة الوثقى لبناء مستقبل مشترك للشعوب السودانية وتوحيد السودان على أساس من الأخوة الشريفة.
ما هو الهدف من المراجعة التاريخية؟ إن الهدف الرئيس هو الوصول إلى مشروع وطني جديد جامع وبموجبه سيتم بناء سودان جديد مختلف كلياً، وبإحداث قطيعة كلية مع ما مضى من نظرتنا السابقة وأن نرتكز على التنوع والتعدد التاريخي والمعاصر لبناء دولة جديدة قائمة على العدالة وقائمة على الانحياز إلى الفقراء والمهمشين.
حدثان مهمان يستدعيان المراجعة التاريخية وهما انفصال الجنوب والإبادة الجماعية، هذان الحدثان يتطلبان مراجعة المشروع القديم والذي أثبت فشله والوصول إلى مشروع وطني جديد يقوم على المواطنة بلا تمييز، في المراجعة التاريخية أكبر قضية اسقطتت وأهملت من كل الحكومات الوطنية هي قضية المواطنة بلا تمييز، ويجب بناء دولة ديمقراطية قائمة على العدالة والمواطنة كأهم قضية منذ استقلال السودان لم تراع من كل الحكومات التي أتت وذهبت.
وإنهاء حروب الريف والعدالة الاجتماعية والسياسية والثقافية يجب أن تكون في قلب المشروع الوطني وأن يتناول هذا المشروع البعد الثقافي وهو أمر مهم للغاية الوصول إلى مشروع جديد جامع لأن الأزمة الوطنية أزمة مركبة وفى عمقها قضية المواطنة وقضية الاعتراف بتعدد الثقافات. والمشروع الوطني الحالي بانت ملامحه في ثورة ديسمبر وفي هتافات الشهداء وهذا المشروع يجب أن يعيد الوجه المنتج للريف والتنمية الريفية ويقضي على التنمية غير المتوازنة ويربط ربطا عضويا بين الريف والمدينة وينقل المدينة إلى الريف لا الريف إلى المدينة وحروب الريف أتت نتيجة للفقر والفقر أدى إلى تهميش الآلاف والتهميش وإفقار المواطنين أدى إلى اتجاههم للحروب للدفاع عن أرضهم وثقافاتهم في وسط النهب والافقار الذي مارسته الطفيلية المتسربلة بالدين، والنظام الذي سقط هو نظام فاشي بامتياز حاول أن يمتص من الناس مواردهم وثرواتهم وثقافاتهم وهويتهم حتى يخضعهم إلى أبارتايد سياسية ودينية.
في الأخير يجب على المراجعة التاريخية أن تشمل الاعتذار على الحروب واعتذار الدولة السودانية التي حاولت إخضاع الكثير من السودانيين/ات ضد رغبتهم/اتهن وحاولت أن لا تعترف بتعدد الثقافات وقامت الحروب في أشياء لا يمكن أن تصدق في الألفية الثالثة مثل رغبة الناس في الحديث بلغاتهم وأن تكون لغاتهم وذواتهم معترف بها وأن تكون المواطنة المتساوية هي أساس الحقوق والواجبات الدستورية، فالمراجعة التاريخية تستدعي أن نراجع كل هذا التاريخ الطويل الذي أدى إلى الحروب وتدمير الموارد والنسيج الاجتماعي.
إن حل قضية الدين والدولة على نحو صحيح وفى إطار عملية شاملة نحو بناء دولة حديثة تبلغ ذروتها باعتماد المؤتمر الدستوري لمشروع وطني جديد أمر مهم لا بد منه في إطار المراجعة التاريخية كما أن قضية الترتيبات الأمنية شديدة الصلة والارتباط ببناء الدولة المدنية وبانعكاس التنوع داخل مؤسساتها وفي مقدمتها القوات المسلحة السودانية والنظامية الأخرى ودون حلها يظل المشروع الوطني مختلاً وغير منتج.
المراجعة التاريخية ستساعد على نحو مقدر في التوجه نحو بناء "اتحاد سوداني" بين دولتي السودان مع احتفاظ كليهما بسيادتها، يقوم على روابط النسيج الفريد للعلاقة بين الدولتين والمصالح الاستراتيجية بينهما.
أخيراً إن ثورة ديسمبر المجيدة وأيقونتها في ساحة الاعتصام وأعالى جمهورية النفق وشعارها البديع "الشعب يريد بناء سودان جديد" ومشاركة ملايين الشباب والنساء الذين يحتفون بالتنوع ويبحثون عن مشروع وطني جديد قائم على الحرية والسلام والعدالة والمواطنة بلا تمييز هو الذي يجعل من المراجعة التاريخية واتفاق السلام يستند على أساس مادي ورغبة جماهيرية انطلقت من حناجر الشهداء قبل الأحياء ولذا فإن المراجعة التاريخية ممكنة وواجبة وضرورية وهي سبيلنا الوحيد نحو المستقبل.
وأهدي هذه المساهمة لشهداء ثورة ديسمبر 2018 المجيدة وشهداء انتفاضة سبتمبر 2013 وشهداء الثورة السودانية طوال ثلاثين عاماً والذين جعلوا من المراجعة التاريخية أمراً ممكناً.
ورقة قدمها الأستاذ ياسر عرمان في الندوة الصحفية بمركز طيبة للإعلام ضمن فعاليات الأسبوع السياسي حول اتفاق جوبا لسلام السودان وخلال الورشة الأولى للتبشير بالسلام التي أقامتها المفوضية القومية للسلام بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالخرطوم 24 – 29 أكتوبر 2020 م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.