مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    لم يقنعني تبرير مراسل العربية أسباب إرتدائه الكدمول    نشطاء قحت والعملاء شذاذ الافاق باعوا دماء وارواح واعراض اهل السودان مقابل الدرهم والدولار    ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب مانشستر سيتي بركلات الترجيح    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    وزير الخارجية السوداني الجديد حسين عوض.. السفير الذي لم تقبله لندن!    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    سيكافا بطولة المستضعفين؟؟؟    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    شاهد بالفيديو.. بعد فترة من الغياب.. الراقصة آية أفرو تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بوصلة رقص مثيرة على أنغام (بت قطعة من سكر)    مصر.. فرض شروط جديدة على الفنادق السياحية    شاهد بالصورة والفيديو.. ببنطلون ممزق وفاضح أظهر مفاتنها.. حسناء سودانية تستعرض جمالها وتقدم فواصل من الرقص المثير على أنغام أغنية الفنانة إيمان الشريف    ماذا كشفت صور حطام صواريخ في الهجوم الإيراني على إسرائيل؟    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    مقتل 33899 فلسطينيا في الهجوم الإسرائيلي منذ أكتوبر    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    ترتيبات لعقد مؤتمر تأهيل وإعادة إعمار الصناعات السودانية    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    محمد بن زايد وولي عهد السعودية يبحثان هاتفياً التطورات في المنطقة    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة تنضم لقوات الدعم السريع وتتوسط الجنود بالمناقل وتوجه رسالة لقائدها "قجة" والجمهور يسخر: (شكلها البورة قامت بيك)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء فاضحة.. الفنانة عشة الجبل تظهر في مقطع وهي تغني داخل غرفتها: (ما بتجي مني شينة)    رباعية نارية .. باريس سان جيرمان يقصي برشلونة    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فرص المراجعة التاريخية على ضوء ثورة ديسمبر والسلام في السودان .. بقلم: ياسر عرمان
نشر في سودانيل يوم 01 - 11 - 2020

قال البروفيسر السنغالي الشيخ أنتا ديوب، وهو واحد من أهم المؤرخين والمفكرين الثوريين الأفارقة، وقد نال درجة الدكتوراة من جامعة السوربون في رسالة حول أصول الحضارة الإفريقية السوداء القديمة لوادي النيل وقد أطلق عليها لأهميتها الفائقة "إنجيل التاريخ الافريقي" قال: "إننا عندما نتحدث عن أجدادننا السود الذين يعيشون غالباً في إفريقيا السوداء ومساهماتهم في علوم الرياضيات والفلك وعلوم التقويم عموماً والفنون والأديان والزراعة والنظام الاجتماعي والطب والقراءة وفنون العمارة وهم مهندسو العمارة الأوائل الذين استطاعوا بناء إهرامات يبلغ وزنها أكثر من 6 ملايين طن وما كان لذلك أن يتم لعمال غير مهرة، إننا حينما نقول ذلك mلا نتنكر لمساهمات الآخرين كما عليهم أن لا يتنكروا لمساهمات الأفارقة السود وإننا في ذلك نسعى إلى المصالحة الانسانية" بروفيسر أنتا ديوب في كتابه "أصل الحضارة الإفريقية: خرافة أم حقيقة".
العرب الموجودون في إفريقيا يفوق عددهم العرب المتواجدون في آسيا وهي حقيقة جديرة بالتأمل ولا تؤشر إلى مؤشر الجغرافيا فحسب بقدر ما تشير على نحو أكثر أهمية إلى التفاعل الثقافي والاجتماعي والإنساني والتاريخي بين العالمين الإفريقي والعربي والعلاقة بينهما معضلة من معضلات سودان اليوم في تناول قضايا البناء الوطني.
قال ألبيير كامو المثقف والمفكر والمتمرد عن المناهج التقليدية "إن مناهج التفكير التي تدعى قيادة عالمنا باسم الثورة قد أصبحت في الحقيقة عقائد جامدة وليست تمرداً أو ثورة".
إن الثورة الحقيقية هي وحدها من تستطيع هدم المجتمع القديم وبناء مجتمع جديد وفق منظور تاريخي قائم على المراجعة والنظرة النقدية لكامل التاريخ وما تمخض عنه من تناقضات في بناء المشروع الوطني، وتظل قضية المواطنة بلا تمييز هي إحدى القضايا الرئيسية التي دون حلها لن نستطيع بناء دولة حديثة وسلام دائم وديمقراطية وتنمية مستدامة في السودان.
وثورة ديسمبر 2018 المجيدة تشكل فرصة فريدة للمراجعة التاريخية لا سيما وأن خطابها السياسي اتجه نحو الاحتفاء بالتنوع والاعتراف بالآخر وربط قضية الديمقراطية والسلام والعدالة كحزمة واحدة ويمكن القول بثقة ودون تردد إن خطاب الثورة في جوهره هو خطاب "السودان الجديد" الذي يجعل من المراجعة التاريخية أمراً ضرورياً للوصول للمشروع الوطني الجديد.
إن المراجعة التاريخية التي نعنيها تقوم على الحقائق والبعد المعرفي والمنظور المتكامل لتاريخنا الوطني والبحث عن مشروع وطني ديمقراطي قائم على المواطنة بلا تمييز والاعتراف بالمساهمات التاريخية لجميع أقوام السودان بالتنوع التاريخي والمعاصر وبالآخرين وحقهم في أن يكونوا آخرين في إطار مشروع ديمقراطي منحاز للفقراء والمهمشين وفي مقدمتهم النساء.
حروب السودان الحالية التي بدأت منذ أغسطس 1955 بتوريت في جنوب السودان واستمرت حتى يومنا هذا أكتوبر 2020 في ظل أنظمة منتخبة وشمولية واتفاقيات سلام ثم حرب وثورات تطيح بالشموليات مع استمرار الحرب ولأول مرة في ثورة ديسمبر تتبدى للعيان إمكانية أن تؤسس الفترة الانتقالية للديمقراطية والسلام معاً وتهديهمها كحزمة واحدة وقد استخلصت الحركة الجماهيرية أهمية الربط بين الديمقراطية والسلام والعدالة في شعارها الفريد "حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب" ويرجع الشعار بجذوره إلى مساهمات حركة الطلبة الجنوبيين في إطار السودان الموحد وبتأثير قوى من مفاهيم ورؤية السودان الجديد.
في عام 1988م. وفي معسكر (نرويجان) بالقرب من مدينة كبويتا بشرق الاستوائية، استدعاني الشهيد الدكتور جون قرنق دي مابيور في إحدى الأمسيات الخريفية وسماء الاستوائية لا يتوقف عن مخاطبة الأرض بالغيث وكنت قد التحقت برئاسته المتحركة قبل مدة وجيزة وأعطاني وثيقة كان قد كتبها عشية اتفاق أديس أبابا في مارس 1972 معترضاً على ذلك الاتفاق وقد أورد حيثيات دقيقة تدعم اعتراضه مما أغضب جوزيف لاقو قائد الإنيانيا الأولى وجعله يطلب من جعفر نميري عدم استيعاب جون قرنق في القوات المسلحة، وأنه إذا استوعبه سيكون ذلك مجازفة منه، وذكر لي دكتور قرنق أنه قد فقد هذه الوثيقة منذ سنوات ولكن صديقه البروفيسر دومنيك أكيج محمد أستاذ الهندسة في جامعة فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية هو من احتفظ بها وأرسلها له مجدداً، ثم عرج على منظوره التاريخي للقضية السودانية ولموضوعة "السودانوية" واستشهد بالبروفيسر والمفكر السنغالي الشيخ أنتا ديوب وكانت تلك هي المرة الأولى التي تعرفت فيها على مساهمات الشيخ أنتا ديوب ذات الصلة الوثيقة بالتاريخ السوداني. ولاحقاً في القاهرة التقيت الدكتور الراحل محي الدين صابر الذي عاصر البروفيسر أنتا ديوب في جامعة السوربون وقد أهداني إحدى مجلدات الشيخ أنتا ديوب وعلى غير عادة الصورة المرسومة لمحي الدين صابر في مخيلة الكثيرين حول اهتماماته فإن الدكتوراة التي نالها كان موضوعها عن قبيلة الزاندي بجنوب السودان. إن المراجعة التاريخية تستدعي من الأكاديميين/ات السودانيين/ات الحفر والنحت في التاريخ السوداني والعلوم الإنسانية للمجتمعات السودانية مما يجعل منظورنا السياسي مستنداً على المعرفة بتاريخنا ومجتمعنا.
المراجعة التاريخية تحتاج إلى القراءة والإلمام الدقيق بالتاريخ السوداني نفسه قبل أن نشرع في مراجعته، يجب أن نطلع على تاريخ البلاد التي نريد أن نقوم بمراجعة تاريخيها فإذا لم نحط بدراية وعمق بتاريخها فلن نستطيع أن نقوم بمراجعته.
إن لم نكن نعلم من أين جئنا، فلا نستطيع أن نحدد بدقة إلى أين سنتجه ونبحر في لجة قضايا الماضي وتعقيدات الحاضر وستأخذنا رياح وعواصف وتيارات العالم المضطربة لا سيما وأن العولمة قد فرضت شروطا جديدة للتطور تزهق أرواح الثقافات والتفرد الذي تحظى به كثيرا من المجتمعات وتقدم لها بدلا من تميزها التاريخي الوجبات السريعة والروشتات المعدة والمصنعة بعيداً عن حياض ثقافاتها وتربتها الوطنية الأمينة.
هنا نحن أمام تفاعل وطني وتفاعل خارجي، نأخذ ونعطي والتاريخ هو محور مهم في عملية التشكل والبناء الوطني وتيارات ما بعد الدولة الوطنية وما بعد الكولونيالية والاستعمار الحديث، إن السفن التي لا تربط في المراسي تأخذها تيارات المياه الجارفة بعيداً عن سواحل الرسو وهكذا المجتمعات التي لا ترتبط بمراسي تاريخها، ومن هنا تكمن أهمية التاريخ وضرورة مراجعته كواحد من أعمدة البناء الوطني والشخصية السودانية التي يرجع تاريخها إلى ما يزيد عن 7000 عام من التشكل والصيرورة التاريخية المستمرة، والمنظور التاريخي التقدمي بغرض توحيد الضمير الوطني وبناء مشروع وطني قائم على المواطنة بلا تمييز يجمع ولا يفرق ويصون ولا يبدد هو واحد من أعمدة فكر "السودان الجديد" وأحد المساهمات الرئيسية للدكتور جون قرنق دي مابيور أتيم.
السؤال المحوري هنا، ما هي أهم الخصائص والملامح التاريخية للسودان؟
السودان بلد فيه تنوع تاريخي وتنوع معاصر، هذه هي الخصائص الرئيسية التي يجب أن يبنى عليهما المشروع الوطني، والمشروع الوطني منذ استقلال السودان في 1956 لم يأخذ في اعتباره خصائص السودان المهمة وهي التنوع التاريخي والتنوع المعاصر، والتنوع التاريخي السودان يرجع إلى أكثر من سبعة ألف عام وهو جزء من تاريخ حضارات وادي النيل القديمة وهي حضارات إفريقية سوداء كما هي الحضارات التي قامت على ضفاف وادي النيل والسودان في قلب هذه الحضارات، وفي حضارات وادي النيل القديمة لعب السودان دوراً محورياً وساهم في تطور العلوم والهندسة وغيرها وهنالك دلائل مثبتة من المؤرخين والباحثين والدارسين بأن الإهرامات قد بدأت في شمال السودان ثم انتقلت إلى مصر، والإهرامات المصغرة هي التي كانت بدايات بناء الإهرامات والتي انتقلت لاحقاً شمالاً إلى مصر، والسودان كان مشاركاً فعلياً في نهضة حضارات وادي النيل وحكمت الأسر السودانية مصر القديمة، وقد بدأت ديانات التوحيد في وادي النيل، وإخناتون هو الذي بدأ توحيد الديانات، وفي السودان أقامت المسيحية دويلات وممالك حكمت السودان لأكثر من 1000 عام (المغرة وعلوة وسوبا) ولا زالت كثير من الطقوس والعادات والموروثات ترجع للعهد المسيحي، والعذراء نفسها رسمت كإمرأة سوداء في كنيسة (فرس) التي غمرتها مياه السد العالي وقد قام الملك زكريا ابن جرجة، أحد الملوك المسيحيين السودانيين العظماء، بزيارة بغداد في العهد العباسي، ولا زال الناس حينما يولد طفل جديد في بعض مناطق السودان يرسم صليب من الكحل على جبهته وفي الأعراس يذهب بالعرسان إلى النيل وتقام له طقوس أقرب أو شبيهة بالمعمودية على ضفافه، والحاكمية دوماً للنيل الخالد، والإسلام انتشر على مدى تسعة قرون وأول دولة إسلامية كانت في 1504 السلطنة الزرقاء وسميت بالسلطنة الزرقاء لأن الناس الزرق كانوا هم الطبقة العليا وهذه السلطنة قامت نتيجة للتحالف التاريخي بين عمارة دنقس وعبد الله جماع (الفونج والعبدلاب) واستمرت وحكمت السودان لمدة 317 عاما وكذلك سلطنات الفور والمسبعات والبلويين في شرق السودان وغيرها، إن الإسلام السوداني ذو خصائص سودانية شربت من الحضارات والثقافات والطقوس السودانية وأثرها القوى على الطرق الصوفية براياتها المطرزة بالنذور الإفريقية وقد انتشر الإسلام في شمال السودان على مدى تسعة قرون بالموعظة الحسنة لا بسيوف الجهاد وإراقة كل الدماء، تم ذلك من اتفاقية البقط في عام 641 م إلى قيام السلطنة الإسلامية الأولى في سنار في عام 1504م.
شهد السودان القديم تطور الكثير من العلوم والفنون وتجذر المعرفة وكان أبادماك هو إله المعرفة عند النوبيين القدماء وكانت مروي هي بيرمنجهام إفريقيا التي علمت العالم صهر وتطويع الحديد وهذا التنوع التاريخي لم يعطِ أي حيز في بناء المشروع الوطني والإعتراف بأثره في تكوين الشخصية الوطنية ولا في أجهزة الإعلام ودور الوعي والمعرفة والمناهج بعد خروج الاستعمار، والمشروع الوطني حصره الآباء المؤسسون للدولة السودانية الحديثة في معياري "العروبة والإسلام" وتجاهلوا المعايير الأخرى وهذا واحد من العيوب الرئيسية في المشروع الوطني لما بعد الاستقلال والتي يجب أن تصحح عبر ثورة ديسمبر واتفاق جوبا لسلام السودان من خلال منظور وطني جديد، أيضاً السودانيون أو السودان في شكله الحديث قبل انفصال جنوب السودان كان به أكثر من 570 قبيلة وأكثر من 130 لغة مثل لغات البداويت والفور والدينكا والنوير الذين يطلقون على لغتهم "توك ناس" أي حديث الناس وهي لغات أقدم من اللغة الإنجليزية وبعض من اللغات الحية في عالم اليوم، والتنوع المعاصر لم يعط الأهمية التي تليق به.
نقطة أخرى مهمة في هذا السياق سبق أن ذكرتها منذ سنوات في مقابلة صحفية في بداية 2011 م وفي مقالات أخرى إن الانتقاص من تاريخ السودان هو الذي انتقص من جغرافيته ووحدته وهو الذي أدى إلى ذهاب الجنوب، وبعد ذهاب الجنوب الذي تمخضت عنه دولة جنوب السودان قلت إن ذلك لن يؤدي إلى حل وسيكون هناك "جنوباً جديداً"، وأن الانتقاص من تاريخ السودان هو الذي انتقص من جغرافيته ووحدته وهو الذي سينتقص من جغرافيته مرة أخرى حال استمر ذات نهج المشروع الوطني القديم، فالجغرافيا والتاريخ يسيران في تناغم واتحاد وتنافر أيضاً إذا كانت الرؤية رؤية غير منسجمة مع التاريخ والجغرافيا والتنوع، ولذلك فالمراجعة التاريخية تحتاج إلى مرجعيات تاريخية وأن نرجع ببصرنا إلى بدايات التاريخ المعروف لهذه البقعة الجغرافية المسماة السودان الآن، أيضاً يجب أن نبحث في المسكوت عنه في الكثير من ملامح تاريخنا السياسي الحديث وأن نتناول قضايانا بشكل جاد.
"الرق وجذور أزمة البناء الوطني"
من مخلفات الماضي التي لعبت، من بين أشياء وعوامل أخرى، دوراً رئيسياً وخطيراً في تشكيل جذور أزمة البناء الوطني حملات الاسترقاق المكثفة في فترة الحكم التركي المصري والمهدية ضد سكان مناطق بعينها ومساهمة بعض الوطنيين السودانيين كوكلاء محليين في هذه الحملات. ومع الإقرار بأن الرق ظاهرة عالمية في التاريخ الإنساني فهو موجودة منذ عهد الفراعنة والممالك النوبية القديمة وكذلك في سلطنتي الفونج والفور وفي الجنوب وكل المجتمعات التقليدية، إلا أنه كان يمارس في نطاق تقليدي محدود، والتطور النوعي الذي حدث في فترة الاستعمار التركي المصري هو أن ظاهرة الرق تحولت إلى ممارسة منهجية واسعة النطاق كصناعة وتجارة تدر الدخل ومرتبطة بالنهضة الصناعية في الغرب وموانيه الكبرى وشخصياته التي راكمت ثروات من خلال تجارة الرق، وما "هو بكنز" إلا ما ظهر من جبل الجليد، وتحولت كذلك إلى ممارسة مؤسسية بمعنى أنها مرتبطة بسياسة الدولة ومؤسساتها الرسمية كأحد الأهداف الرئيسية لغزو السودان (جلب العبيد والذهب). أدى هذا الانتشار الواسع في ممارسة الاسترقاق ومشاركة سودانيين فيه إلى بذر أخطر بذور الانقسام والغبن في المجتمع السوداني، وما تزال تركة الرق تلعب دوراً في إعاقة عملية البناء الوطني وفي تغذية النزعات العنصرية ومظاهر الاستعلاء الإثني، وتعود إليها جذور بعض التفاوتات الطبقية الموجودة اليوم في المجتمع السوداني. ولا يمكن مواجهة ظاهرة العنصرية الموجودة في السودان وتحقيق التصالح الوطني دون العودة إلى التاريخ وفتح الملفات المسكوت عنها. فلا يمكن تحقيق مصالحة وطنية حقيقة إلا عبر القراءة الموضوعية لتاريخ السودان وإعادة كتابته، خاصة فترة تجارة الرق والجراحات العميقة التي خلفتها في قضايا البناء الوطني ووحدة السودانيين ونظرتنا لبعضنا البعض. كما ساهم هذا الإرث في تقسيم قوى التغيير وتعطيل عملية توحيدها في معركتنا لبناء مجتمع جديد معافى.
إن دراسة تلك الفترة والكشف عما جرى فيها والإدانة الواضحة والانتقاد الشفاف لتلك الممارسات التي حفلت بها ومخلفاتها اللاحقة ومكافحة العنصرية الحالية التي تمخضت عنها هي واجبات يجب القيام بها من أجل مستقبل التعايش بين السودانيين. ولن يتم كل ذلك إلا من خلال تبني مشروع وطني لبناء سودان جديد يعترف بالتنوع الإثني والثقافي والديني وحقوق المواطنة المتساوية، وتحويلها من كارثة إلى منفعة وذلك بتبني الدولة لسياسات واضحة لمكافحة مختلف أشكال العنصرية والتمييز من خلال مناهج التربية والتعليم والإعلام وبناء ثقافة مجتمعية متكاملة تحترم الكرامة الإنسانية وتعلي من قيم المساواة بين البشر دون تمييز، وإصدار التشريعات الصارمة لمكافحتها.
علينا أن نواجه ماضينا بجرأة لنصنع ما هو أفضل بمستقبلنا، فتأريخ السودان يحتاج إلى إعادة قراءة وكتابة مبنيّة على الحقائق تعترف بمساهمات كافة الشعوب السودانية وكافة الأخطاء والجرائم التاريخية. فالتاريخ وتجارب بناء الأمم تعلمنا بأن الهويات المتصارعة التي انتجت العنف والانقسام يمكن أن تصبح هويات متحدة ومتآلفة إذا ما تمت إعادة تعريف وإعادة بناء الدولة بطريقة تجعلها تعبر عن كل مكونات المجتمع.
ومن ضمن هذه المراجعة الدقيقة لتاريخنا القديم والمعاصر لابد من وقفة خاصة عند ثورة 1924 لا سيما ونحن على أعتاب الذكرى المئوية لهذه الثورة المجيدة التي تجاوزت عالياً جراحات تجارة الرق، خاصة الآن جاءت فرصة جديدة ليس للمراجعة التاريخية فحسب بل لبناء مشروع وطني جديد بعد ثورة ديسمبر المجيدة، ودون بناء مشروع وطني جديد ستنتهي الثورة مثل ما انتهت ثورة أكتوبر 1964 وثورة أبريل 1985، هذه البلاد تحتاج إلى مشروع وطني جديد والمشروع الوطني الجديد يقوم على المراجعة التاريخية.
إن ثورة 1924 هي أهم حدث في تاريخ السودان الحديث أقام فعله في محاولة جريئة للقطيعة مع الماضي والمراجعة التاريخية وإعلاء رايات "السودانوية" وهي العروة الوثقى لبناء مستقبل مشترك للشعوب السودانية وتوحيد السودان على أساس من الأخوة الشريفة.
ما هو الهدف من المراجعة التاريخية؟، إن الهدف الرئيس هو الوصول إلى مشروع وطني جديد جامع وبموجبه سيتم بناء سودان جديد مختلف كلياً، وبإحداث قطيعة كلية مع ما مضى من نظرتنا السابقة وأن نرتكز على التنوع والتعدد التاريخي والمعاصر لبناء دولة جديدة قائمة على العدالة وقائمة على الانحياز إلى للفقراء والمهمشين.
حدثان مهمان يستدعيان المراجعة التاريخية وهما انفصال الجنوب والإبادة الجماعية، هذان الحدثان يتطلبان مراجعة المشروع القديم والذي أثبت فشله والوصول إلى مشروع وطني جديد يقوم على المواطنة بلا تمييز، في المراجعة التاريخية أكبر قضية أسقطتت وأهملت من كل الحكومات الوطنية هي قضية المواطنة بلا تمييز، ويجب بناء دولة ديمقراطية قائمة على العدالة والمواطنة كأهم قضية منذ استقلال السودان لم تراع من كل الحكومات التي أتت وذهبت. وإنهاء حروب الريف والعدالة الاجتماعية والسياسية والثقافية يجب أن تكون في قلب المشروع الوطني وأن يتناول هذا المشروع البعد الثقافي وهو أمر مهم للغاية فالوصول إلى مشروع جديد جامع لأن الأزمة الوطنية أزمة مركبة وفي عمقها قضية المواطنة وقضية الاعتراف بتعدد الثقافات. والمشروع الوطني الحالي بانت ملامحه في ثورة ديسمبر وفي هتافات الشهداء وهذا المشروع يجب أن يعيد الوجه المنتج للريف والتنمية الريفية ويقضي على التنمية غير المتوازنة ويربط ربط عضوى بين الريف والمدينة وينقل المدينة إلى الريف لا الريف إلى المدينة وحروب الريف أتت نتيجة للفقر والفقر أدى إلى تهميش الآلاف والتهميش وإفقار المواطنيين أدى إلى اتجاههم للحروب وللدفاع عن أرضهم وثقافاتهم في وسط النهب والافقار الذي مارسته الطفيلية المتسربلة بالدين، والنظام الذي سقط هو نظام فاشٍ بامتياز حاول أن يمتص من الناس مواردهم وثرواتهم وثقافاتهم وهويتهم حتى يخضعهم إلى أبارتايد سياسية ودينية.
في الأخير يجب على المراجعة التاريخية أن تشمل الاعتذار على الحروب واعتذار الدولة السودانية التي حاولت إخضاع الكثير من السودانيين/ات ضد رغبتهم/اتهن وحاولت أن لا تعترف بتعدد الثقافات وقامت الحروب في أشياء لا يمكن أن تصدق في الألفية الثالثة مثل رغبة الناس في الحديث بلغاتهم وأن تكون لغاتهم وذواتهم معترف بها وأن تكون المواطنة المتساوية هي أساس الحقوق والواجبات الدستورية، فالمراجعة التاريخية تستدعي أن نراجع كل هذا التاريخ الطويل الذي أدى إلى الحروب وتدمير الموارد والنسيج الاجتماعي.
إن حل قضية الدين والدولة على نحو صحيح وفي إطار عملية شاملة نحو بناء دولة حديثة تبلغ ذروتها باعتماد المؤتمر الدستوري لمشروع وطني جديد أمر مهم لا بد منه في إطار المراجعة التاريخية كما أن قضية الترتيبات الأمنية شديدة الصلة والإرتباط ببناء الدولة المدنية وبانعكاس التنوع داخل مؤسساتها وفي مقدمتها القوات المسلحة السودانية والنظامية الأخرى ودون حلها يظل المشروع الوطني مختلاً وغير منتج.
المراجعة التاريخية ستساعد على نحو مقدر في التوجه نحو بناء "اتحاد سوداني" بين دولتي السودان مع احتفاظ كلاهما بسيادتها، يقوم على روابط النسيج الفريد للعلاقة بين الدولتين والمصالح الاستراتيجية بينهما.
أخيراً أن ثورة ديسمبر المجيدة وأيقونتها في ساحة الاعتصام وأعالي جمهورية النفق وشعارها البديع "الشعب يريد بناء سودان جديد" ومشاركة ملايين الشباب والنساء الذين يحتفون بالتنوع ويبحثون عن مشروع وطني جديد قائم على الحرية والسلام والعدالة والمواطنة بلا تمييز هو الذي يجعل من المراجعة التاريخية واتفاق السلام يستند على أساس مادي ورغبة جماهيرية انطلقت من حناجر الشهداء قبل الأحياء ولذا فإن المراجعة التاريخية ممكنة وواجبة وضرورية وهي سبيلنا الوحيد نحو المستقبل.
وأهدي هذه المساهمة لشهداء ثورة ديسمبر 2018 المجيدة وشهداء انتفاضة سبتمبر 2013 وشهداء الثورة السودانية طوال ثلاثين عاماً والذين جعلوا من المراجعة التاريخية أمراً ممكناً.
ورقة قدمها الأستاذ ياسر عرمان في الندوة الصحفية بمركز طيبة للإعلام ضمن فعاليات الأسبوع السياسي حول اتفاق جوبا لسلام السودان وخلال الورشة الأولى للتبشير بالسلام التي أقامتها المفوضية القومية للسلام بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالخرطوم 24 - 29 أكتوبر 2020م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.