يظل تهجير الحلفاويين من وادي حلفا الى حلفا الجديدة بالبطانة في العام 1964م حدثاً يختزن كثيرا من الحكايات الجديرة بأن تحكى للأجيال لما في بعضها من حكم وعظات ولما في بعضها الآخر من بطولات وتضحيات وعبقرية تفتقت عن ادراك فكري واستراتيجي متقدم ما كان له ان يدهشنا بالإنجاز الذي سوف أحكي عنه في هذا المقال إلا تحت الظروف القاسية التي فرضت الهجرة على الحلفاويين بعد بناء السد العالي والمياه التي سوف تبتلع مدينتهم الجملية وادي حلفا، فالنجاح والفلاح في تقديري ان تكون قادراً على التفكير في هذا المناخ الحزين وتفرضه من ضغوط نفسية قاسية، ولما اصبح التهجير واقعاً باتفاق الحكومتين السودانية والمصرية ما كان امام الأهالي إلا السعي لتدبير امورهم خاصة وانهم في طريقهم للاستقرار في بيئة جديدة عليهم تماماً ولا يعرفون عنها الكثير، والنوبة في ذلك التاريخ قطعاً هم امتداد لأجدادهم صناع الحضارة النوبية العظيمة فكان من الطبيعية ان تتحرك فيهم القدرة في التفكير العميق في ساعات المحنة، فأسفر تفكير الناس قبل التهجير ميلاد فكرة مطاحن حلفا الجديدة التي قامت على ضرورة تأمين الغذاء اولاً في البلد التي هجروا اليها في إطار ترتيب الاولويات، مطاحن حلفا الجديدة شركة أهلية تخص خمسين الف مهجر نوبي من وادي حلفا، ولدت الشركة بأسنانها كما يقولون، وكان انتاج الدقيق الذي يوزع في حلفا وفي معظم مدن الشرق، فضلاً عن انشاء ورشة كبيرة استوعبت عددا من العمال والفنيين في مجالات الميكانيكا وموظفين في السلك الإداري، ولأن الترتيب كان محكماً انشأت المطاحن من ريعها مدرسة اتحاد الجمعيات التعاونية المتوسطة والسينما الوطنية وبعض مصانع الصابون والطحنية . استمرت مطاحن حلفا الجديدة قوية تنشر ثقافة العمل التعاوني في المنطقة وتؤكد ضرورته بين المزارعين الذين هم فرس الرهان للتنمية والنهضة في الماضي والمستقبل، استمر الحال هكذا من العام 1989م حيث انقلاب الانقاذ ليوعز سيادات الإخوان في حلفا للسيد المرحوم / محمد الامين خليفة الذي كان مشرفاً على الاقليم الشرقي، أوعزوا له بحل مجلس ادارة المطاحن تحت (سبة) انهم غير موالين للإنقاذ وان الدقيق سلعة استراتيجية يجب ان تكون في يد (ثقاة) ومنتمين للانقاذ، فكان القرار بحل مجلس الادارة وتكوين لجنة تسيير من (الكيزان) مات المشروع العظيم بعد عشر سنوات من تسلمهم لامر الإدارة، مات المشروع العظيم لغياب الشفافية والمحاسبة، وقيل وقتها ان أعضاء بارزين في لجنة التسيير هم من يقومون بتوزيع الدقيق على حسابهم الخاص بدل ان تقوم به المطاحن، وبمرور الزمن تمت الاستدانة من البنوك لتغطية المنصرفات حتى توقفت المطاحن عن الانتاج.