المبادرة التي طرحها د. عبد الله حمدوك اليوم حول إصلاح الطريق التي تمضي فيه الثورة، يمثل تغييراً جديداً في توازن القوى ويكاد يماثل لحظة 30 يونيو 2019، التي أعادت التوازن بعد مذبحة فض الاعتصام. طرح هذه المبادرة يمثل الانقلاب المدني باتجاه إصلاح المسار نحو تحول مدني حقيقي، ويقطع الطريق أمام الانقلاب العسكري. التشظي والانقسامات بين مكونات القوى السياسية المدنية، والتوتر المتزايد بين المكونات العسكرية وتحديداً الجيش والدعم السريع، هي العوامل الأكبر في التمهيد لانقلاب عسكري أو إشعال حرب أهلية في البلاد. هذه المبادرة مرتكزها الأساسي، هو توحيد اكبر كتلة ثورية باتجاه تحقيق أهداف الثورة الأساسية والمحورية. وأكبر وأهم هذه الأهداف هو إصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية في تركيبها الداخلي وتعاملها مع المجتمع، بهدف تكوين جيش واحد جديد يضم الجميع وتكون له عقيدة واحدة تمثل حماية الوطن والحدود والخضوع للقيادة السياسية المدنية في إطار شكل علاقة مؤسسية واضحة يحكمها القانون. الجيش والمؤسسات الأمنية والعسكرية يجب أن تكون جزءاً من جهاز الدولة وليس تكوين فوقها ويسود عليها. ويتضمن ذلك خروج الجيش والأمن ومؤسساتهما من مجال الاقتصاد الذي يتم فيه استغلال النفوذ المؤسسي لهذه المؤسسات بشكل غير عادل، وفي نفس الوقت يحد من سيطرة مؤسسات الدولة المدنية (وزارة المالية) على المال العام. ترك هذه النقطة للعسكريين وحدهم (إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية) هو أحد أكبر النواقص التي شابت صياغة الوثيقة الدستورية. في اعتقادي، إن ما طرحه د. حمدوك اليوم يتجاوز هذا الطرح الى إعادة تكوين جديد لهذه المؤسسات، وإعادة هذا التكوين يجب أن يكون محوره المواطنين والمدنيين، باعتبار إن الأجهزة الأمنية والعسكرية هي أجهزة دولة معنية بتقديم خدمة الأمن والحماية لهؤلاء المواطنين، وبالتالي يجب ان تكون خدمتهم وهمومهم هي مركزها وليس غير ذلك. ما أشار إليه د. حمدوك أيضاً حول توحيد مراكز القرار (خصوصاً في السياسة الخارجية وإيقاف رحلات الشتاء والصيف للطائرات القادمة من والمغادرة الى تل أبيب بواسطة أحد مرتكز اتخاذ القرار في الدولة بدون تنسيق مع الآخرين، والزيارات غير المتفق عليها بين مراكز المحاور المختلفة)، وتنفيذ وإكمال اتفاقيات السلام، وتكوين المجلس التشريعي خلال شهر، والذي يجب أن يكون ممثلاً حقيقياً ويضم كافة وكل القوى الوطنية التي ساهمت في إنجاز الثورة وإنهاء هذه (المحركة: كما وصفها حمدوك حول محاولات احتكاره)، بالإضافة إلى مطلب الثورة المركزي حول قضية العدالة وإنهاء الإفلات من العقاب وقضايا المحكمة الجنائية الدولية، والتوافق حول سياسات الإصلاح الاقتصادي بحوار جاد وعلمي، بالإضافة الى تفكيك دولة الحزب لصالح تكوين دولة الوطن وذلك عبر مؤسسات عدلية وشفّافة، هي كلها أهدافٌ مهمةٌ للانتقال وتتطلب تكوين آلية حماية هذا الانتقال بحسب أهداف الانتقال التي لخصتها المبادرة، وترك التشاكس السياسي حول ما يتعدى هذه الأهداف لحين إكمال تحقيقها والتأسيس لنظام سياسي مستقر يستطيع استيعاب مثل هذا الصراع. مبادرة حمدوك هي محاولة سياسية جريئة لاستعادة براثن وأنياب الثورة، واستعادة التركيز على أهدافها الأساسية.