يعتمد قائد الانقلاب، عبدالفتاح البرهان، تكتيكات مختلفة ومناورات معقدة ومتناقضة في بعض الأحيان للانفراد بالسلطة، يتضمن ذلك محاولة تشتيت تفكير خصومه عما يفكرون فيه، عبر خلق ما يكفي من الخوف لردعهم عن هدفهم النهائي المتمثل في إزاحته عن السلطة. بعد تصاعد المد الثوري في مليونية 30 يونيو، واتساع رقعة الاعتصامات التي تنفذها لجان المقاومة في مدن العاصمة الثلاث، احتجاجًا على الأحداث الدامية التي وقعت في المليونية، خرج البرهان معلنًا حزمة قرارات، أبرزها انسحاب المؤسسة العسكرية من المفاوضات الجارية على مستوى الآلية الثلاثية -المكونة من الأممالمتحدة والاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية الإفريقية (إيقاد)- وحل مجلس السيادة بعد الاتفاق على حكومة كفاءات. وواضح أنه بعد تشكيل الحكومة التنفيذية سيتم حل مجلس السيادة وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة من القوات المسلحة والدعم السريع، يتولى القيادة العليا للقوات النظامية، ويكون مسؤولًا عن مهام الأمن والدفاع وما يتعلق بها من مسؤوليات تستكمل مهامه بالاتفاق مع الحكومة التي سيتم تشكيلها. انقلاب غير تقليدي النقطة الأهم بحسب الكثيرين؛ أن انقلاب 25 أكتوبر 2021 ليس انقلابًا تقليديًا، وإنما تغول جذري ونهائي على الصيغة المدنية القائمة، عبر تغيير ديناميكيات عملية الانتقال والتحكم في مسارها. القيادي في قوى الحرية والتغيير، ياسر عرمان، يرى أن خطاب قائد الانقلاب إكمال لخطوات انقلاب 25 أكتوبر، ويؤسس لانتخابات زائفة، تكرس الشمولية باسم الديمقراطية وتحافظ على النظام البائد. ويكشف عرمان أن الخطاب جاء وقع الحافر على الحافر من مذكرة للآلية الثلاثية وأطراف من المجتمع الدولي، دفع بها المكون العسكري قبل عدة أيام للآلية الثلاثية، ولم يتم الإعلان عنها. تحوي بوضوح مهام المجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة، وعلى رأسها ممارسة مهام السيادة، وجوانب متعلقة بالسياسة الخارجية، وبنك السودان، وقضايا أخرى من مهام هذا المجلس. وشدد عرمان على أن "خطاب البرهان يسعى لتمرير صفقة عبر الآلية الثلاثية تشرعن الانقلاب، باختيار رئيس وزراء مدني موال للعسكر، يتلقى أوامره من القيادة العامة. مضيفًا: "وبذلك يستولى العسكر على السلطة السيادية والتنفيذية باسم الحل السياسي". المتحدث باسم تجمع المهنيين السودانيين، الوليد علي، يقول إن خطاب البرهان مُحاولة يائسة لاستكمال الانقلاب بتكوين مجلس عسكري يمسك بالسلطات الحقيقية، والسماح للمدنيين بتشكيل حكومة "وش قباحة" جديدة، تأتمر بأمره وتضمن عدم محاسبته. وليس بعيدًا عما سبق، تقول المحللة السياسية، خلود خير، إن البرهان يريد استكمال انقلاب أكتوبر من العام الماضي، لأن هذه الخطوة تزيل تمامًا جميع الهياكل الانتقالية، وتضيف: "بدلًا من مواجهة عبء تشكيل الحكومة، وضع البرهان هذا العبء على عاتق المدنيين الذين عمل على تقسيمهم". وتلفت خير إلى أن خطاب البرهان يبدو ظاهريًا وكأنه تسليم للسلطة، إلا أنه في الأساس مجرد مناورة، وتضيف: "نعلم أن قادة الانقلاب لن ينسحبوا بدون ضمانات تضمن سلامتهم وسلامة أموالهم وقواتهم، خاصة فيما يلي ملفات العدالة الانتقالية والمساءلة المالية وإصلاح قطاع الأمن". إشارات ودلالات البرهان أقر في خطابه بنتائج الانقلاب الكارثية دون الاعتراف بمسؤوليته، بل مضى أكثر في التمسك برؤيته التي قادته للانقلاب مرتين وتمهد لانقلاب ثالث، عبر الإشارة إلى أن الأزمة في الأساس بسبب الخلافات بين المدنيين، بدلًا عن أن أساسها هو صراع بين معسكرين يسعيان لإنتاج نظام شمولي جديد –عسكريين ومدنيين- وبين مشروع بناء دولة مدنية ديمقراطية. القيادي في تجمع القوى المدنية، مدني عباس مدني، يرى أن "خطاب البرهان مليء بالتكتيك السياسي ومحاولات إرباك المشهد المتعمدة، ولا يعبد الدرب لتحول ديمقراطي ولا انتخابات نزيهة". واعتبره "محاولة لذر الرماد في عيون الداخل والخارج، والخروج الظاهري عن مشهد السياسة بما يتيح للإسلاميين الخروج إلى المشهد، وبدلًا من المحاسبة يصبحون لاعبين سياسيين يعبرون عن ذات المصالح الانقلابية". وتابع: "المكون العسكري يوحي بخروجه من المشهد ليضع نفسه في خانة المتحكم في الأمن والدفاع". ومن وجهة نظر القيادي في حزب الأمة القومي، الصديق الصادق المهدي، فإن خطاب البرهان يتصف بأهمية كبيرة، وينبغي إخضاعه للدراسة على مستوى مؤسسات الحزب وتحالف الحرية والتغيير، ويقول للجزيرة إن ما أثاره القائد العام للجيش يحمل إشارات سلبية وأخرى إيجابية ويستلزم تعاملًا موضوعيًا، خاصة أن البرهان تحدث عن دور جديد للجيش، بما يعني الاستجابة لمطالب الثورة والشارع. وأشار المهدي إلى أن البرهان لم يكن موفقًا في ترك الاتفاق للقوى المدنية، لا سيما أن الجيش يؤثر على قسم كبير منها (في إشارة إلى القوى التي أيدت قرارات البرهان في 25 أكتوبر الماضي)، لافتًا إلى أن من بين التيارات السياسية من يشارك الجيش في مجلس السيادة وفي الحكومة، وهو ما يؤثر على العدالة في الدور المدني خلال الفترة الانتقالية، حسب قوله. المحلل السياسي بكري الجاك يصف خطاب البرهان ب "الاستهبال والاستهلاك السياسي"، مشيرًا إلى أن الخطوة لن تغير شيئًا في المعادلة السياسية حتى في حال حدوث حوار، ولن تخرج الجيش عمليًا من العملية السياسية. وأضاف: "قرار البرهان خطوة في اتجاه إكمال الانقلاب الصامت لنظام البشير المباد". ماذا قالت الآلية الجديدة؟ في الأثناء تقول مبادرة (آلية وحدة قوى الثورة)، إن خطاب البرهان يحمل في طياته محاولة بائسة ومكشوفة، للالتفاف على الضغط الثوري الذي بلغ ذروة جديدة تأكد معها سقوط الانقلاب بالكامل. وأشارت الآلية، في بيان صحفي، إلى أن فكرة مجلس أعلى للقوات المسلحة، وبمشاركة الدعم السريع وبنفس الشخصيات الانقلابية، ودون خضوعه للسلطة المدنية، ومن دون أطر دستورية واضحة يُعدُّ تمهيدًا لانقلاب ثالث لا يفوت على فطنة الشارع الذي رفع شعار (العسكر للثكنات والجنجويد ينحل). وتقول الآلية إن المناورة الجديدة تكرّس لنفس الوضع الذي كان قائمًا من حيث سيطرة المجلس السيادي الانقلابي على جُل صلاحيات الحكومة التنفيذية، مضيفة: "تصريح رأس الانقلاب بخروج المؤسسة العسكرية من العملية السياسية، لا يعدو كونه محاولة لاختزال الصراع الحالي الذي انحازت فيه حركات اتفاق سلام جوبا وأذيال النظام المُباد بالكامل، إلى جانب القوى الانقلابية". ونوّه الجاك إلى ضرورة التفات القوى المدنية لكون الخطوة عملية سياسية تحاول إعادة الإسلاميين الذين لم يخسروا مواردهم ولا تنظيمهم، ولم يتعرضوا للمحاسبة إلى المشهد بالانتخابات المبكرة. مضيفًا: "مصادر القوى مازالت عند الإسلاميين والقوات المسلحة والدعم السريع". الخبير القانوني، عبد السلام محمد سيد أحمد، يقول إن خطاب البرهان مناورة لإرباك المشهد وكسب الوقت، بهدف رمي طعم ابتعاد الجيش من العملية السياسية، بغرض تأجيج الخلافات بين المدنيين. مناورة الصلاحيات اعتبر محللون أن خطاب قائد الانقلاب حوى عبارات مفخخة، فيما يتصل بإعلانه "تشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة يكون مسؤولًا عن مهام الأمن والدفاع وما يتعلق بها من مسؤوليات، إضافة إلى مهام أخرى تستكمل بالاتفاق مع الحكومة التي يتم تشكيلها". وأشاروا إلى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة المقصود قد يمثل السلطة العليا في البلاد، وسيكون غير خاضع للحكومة التنفيذية المدنية التي تشكلها القوى السياسية، مما يعيد إنتاج نفس الأزمة الحالية في المستقبل. الخبير القانوني، عبد السلام سيد أحمد، يشير إلى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لا يستند على أساس دستوري، مضيفًا: "الوثيقة الدستورية التي لا تزال سارية -على الأقل نظريًا- لا تعطي القائد العام ولا رئيس مجلس السيادة سلطات تكوين مجلس من هذا النوع". يتساءل سيد أحمد عن صلاحيات المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وإلى أي حد سيكون خاضعًا للسلطة التنفيذية المدنية. قبل أن يقول: "كان من الواجب على البرهان أن ينتظر تشكيل السلطة المدنية ليقدم لها مقترح المجلس ويناقش معها الصلاحيات". ويتوقع سيد أحمد أن تهدف الخطوة في الأساس لتشكيل (جسم موازٍ) خارج إمرة السلطة التنفيذية. مضيفًا: هذا ليس له مسوغ ولا يمكن القبول به فى بلد يسعى لإنجاز تحول ديمقراطي". المحللة خلود خير ترى أن إنشاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة بصلاحيات غير محدودة، هو بمنزلة إعادة توطين لقادة الانقلاب مع الاحتفاظ بكامل امتيازاتهم ومصالحهم. تجربة الجيران في السودان المحلل السياسي، بكري الجاك، يشير إلى أن قرار تكوين مجلس أعلى للقوات المسلحة مأخوذ من التجربة المصرية، وأنه ليس سوى محاولة لفرض وضعية جهاز دستوري خارج إطار الدستور، ويعطي القوات المسلحة فرصة لإدارة المنظمات الأمنية والاحتفاظ بشبكة الصراعات الدفاعية، مع تحكمها في العملية السياسية من خلف الكواليس. وأضاف الجاك أن الخطوة الأسلم لإبعاد القوات المسلحة من العملية السياسية، تتم عبر توحيد الجيوش على أسس وعقيدة جديدة وإخراجها من الاقتصاد، وليس بتوسيع دورها، مشيرًا إلى أن حديث البرهان عن الحوار والقوى المدنية يحقق هدفين: أحدهما احتمالية عدم اتفاق القوى المدنية، وثانيهما عدم وجود آلية لاتخاذ قرارات عامة نيابة عن الشعب، لافتًا إلى أن الحوار هو الحل، لكن خطاب البرهان يرمي لتشكيل حكومة مدنية ضعيفة يديرها هو من على البعد.