كيف قاومتِ دهشة البروف حينما قال كيف ستعيشين بلا تأمين؟ عشتُ بتدبير حالي وكنت أذهب مع صديقتي (إلينا) إلى أهلها في الريف، وهناك يجففون التفاح لأغنامهم والخنازير، وكنت أجفف كمية معتبرة لآكلها في بقية أيامي بالداخلية. وتدبير حال المعيشة؟ (ماف داعي). كان يمكنك العمل؟ بالفعل، عملت مراسلة في المشرحة بالإضافة إلى محل للتجميل. كل ذلك لأنك ذهبتِ إلى هناك بلا منحة؟ نعم.. وكنت أدرك ذلك جيداً.. الغريب في الأمر تزامن ذلك مع وصول شخص بمنحة، فكان يأتي بتاكسي و(مرتااااح) ولاحقاً اكتشفت أنه من أبناء الوزارة. علاقتك بالجوع في موسكو؟ كتيراً ما جعتُ، لكنني عشتُه بكبرياء وكنت جادة أكثر من اللازم. وأبوك ضابط؟ ضابط عظيم حارب من أجل البلد ورفض الدخول في السياسة، وحينما خسرت المنحة تضايق جداً وتألم، فقد كان مثالاً للوفاء ولم تبادله دفعته ولا ذرة من الوفاء. كنتِ غريبة ووحيدة في روسيا.. ألم تخافي؟ كان خوفي الأكبر من الفشل فقط. ماذا عن السودانيات في موسكو؟ دكتورة هيفاء مثلاً قصتها عجيبة بما فيها من حزن على الوطن ومستوى العدالة والفهم.. فهيفاء فتاة معوقة حركياً، لكنها أحرزت درجة الدخول لكلية الطب وتقدمت للقبول وتم رفضها بحجة الإعاقة. وتصادف أن التقى بها زميل في البحث عن فرصة لسبب مختلف، ليذهب إلى روسيا ثم اتصل بها وأخبرها بوجود الفرصة، لتسافر إلى هناك. وطوال أربعة أعوام كانت الأولى وتحصلت على منحة للتخصص، وحالياً هي اختصاصية (شاطرة) في علم الأشعة ولها عيادة، وزواجها شهر واحد. وقصتك معاها؟ يكفي أننا أقمنا معاً، شبعنا وجعنا مع بعضنا البعض. كيف استطاعت هيفاء إحراز كل ذلك النجاح بعيداً عن أهلها؟ التحدي والإرادة وكان كل الشارع في موسكو يفسح لنا الطريق ويقدم لنا المساعدة في العبور والمشي. كيف أمضيتِ رمضان والأعياد؟ في رمضان كانوا يستغربون أني أصوم وأعمل في نفس الوقت.. وفي العيد كنا (مساكين) جداً في الاحتفال، لكننا نصر على شراء ملابس العيد. كيف تصفين لحظات عودتك ظافرة؟ فرحت جداً، لكنهم في روسيا قالوا لي: لا تفرحي كثيراً نحن نعرف أن بلدك لن يستقبلك بالورود ثم أعطوني بطاقة عمل، وطلب مني البروف العمل معهم في حال وجود أي مصاعب. ضبحوا ليك خروف؟ أنا قضيت على (قروشهم) كلها. كيف وجدتِ بلدك، هل قابلوك بالزهور والمباركات؟ كنت متعجلة للعمل، فأعددت ملفي وقدمته للجنة في المجلس الطبي السوداني، وبعد عدة اجتماعات لم أتلقَّ أي نتيجة فعدت إلى المستشفى الصيني. ولماذا لم يبتّ المجلس في ملفك؟ تارة النصاب لم يكتمل، وتارة أخرى (فلان ماف) ومرات بلا سبب. وأنتِ متعجلة للتطبيق؟ المفارقة أنه من ذات اللجنة تم توزيع طبيب شرعي، فسألت عن سببي فقالوا لي: (بصراحة لا نريد نساءً في هذا المجال). وماذا كان رد فعلك؟ طالبتهم بكتابة ذلك التعليق والرأي في الملف الخاص بي، وقلت: حقائبي ما تزال جاهزة. بالتأكيد تذكرتِ حديث البروفيسور في موسكو؟ نعم.. وتذكرت استقبال الإمارات لأول طبيبة شرعية إماراتية بالاحتفالات. الروس كانوا يفهمون الحل؟ بالفعل يدركون ظروفنا جيداً. كنتِ تريدين نتيجة واضحة من المجلس الطبي السوداني؟ أكيد وصبري نفد، وأهلي ينتظرون النتيجة. ووالد الضابط العظيم؟ كان خارج الصورة مطلقاً حتى لا يحزن أكثر. ما يهم أنك حالياً في مشرحة الأكاديمي رسمياً؟ كانت فرحة نادرة بعد ظلم كبير. كيف التقيتِ أول مرة ببروف عقيل؟ شخص لطيف، وقال لي: إنتي بنتي. بماذا نصحك؟ قال لي إن هذه المهنة محتكرة بالفعل للرجال وعليكِ أن تثبتي الكثير. بالطبع في أي انتكاسة عمل تتذكرين حديث البروف الروسي؟ نعم.. ويكفي أنه طالبني بالبقاء معهم، وأنني بشكل عادي يمكن أن أكون رئيسة وزراء في يومٍ (كان يضحك). تشريح في خاطرك؟ تشريح لطفل مصاب بطلق ناري في مناسبة زواج، ووصلت الطلقة من الرأس إلى الفم واستقرت في المعدة، وعجز من كان معي في التشريح ولكني واصلت البحث وفتحت المعدة ووجدت الطلقة. أشواق في العمل؟ جادة جداً ولا أمزح. أجواء العمل؟ الخلافات واردة وكثيرة، كما أنني لا أرضى الاستهانة بي في عملي. نضرب مثالاً؟ في إحدى المرات اتصل بي بروف عقيل السادسة صباحا وأخبرني بأن (فلان) مستاء مني، ففكرت، ولم أجد شيئا، لذا طالبت بمحاسبتي إذا اخطأت. ما يزال الوقت مبكراً على تشريح جثة كجثة القتيلة أديبة التي كان وما يزال التشريح فيها مسألة فاصلة وحاسمة؟ حاليا أنا أنتظر ومستعدة. ما الغريب في دنيا الجثث؟ أن لها أعراضا كأعراض المرض وعلامات أيضا. صارت لديكِ علاقة مع الجثث؟ خاصة مجهولي الهوية. كيف تفهمين سلبية الجثث؟ هي ليست سلبية لكنه ثبات غريب جداً وفيه لغة وتواصل. والغريب أيضاً؟ المساواة في الموت مساواة حقيقية، فكل الناس في مقام واحد. كيف يساعد الخيال الواسع في نتائج التشريح؟ يساعد في ربط الأشياء مع بعضها. حوادث الاغتصاب؟ مؤلمة وأنا أُنثى. استغربت لأكل بروف عقيل الزبادي بالقرب من الجثث؟ عموما أنا لا آكل في المستشفيات، وفي مرة ضحكت مع ناس مشرحتنا وقلت لهم وأنا مع الجثث (اقفلوا حلة ملاحكم دي). هل تعرضتِّ لابتزاز لتغيير نتيجة تشريح لصالح متهم؟ أنا جاهزة ومستعدة لإفساد أي ابتزاز، فالمصداقية أساس عملنا لأننا مثل القضاة. كيف تُدافعين عن جثة؟ إذا لم أفعل ذلك سأنتهي كإنسان. كيف تلبين نداء واستدعاء عند الثالثة صباحاً بغرض التشريح؟ فورا ولا مانع لدي. أشواق أول طبيبة شرعية وفي طبابة التشريح؟ والطبيبة الوحيدة المسجلة لممارسة هذه المهنة. استقبها السودان بالمتاعب؟ بالأصل شق الطريق في أوله له تكاليفه. ولكن الإمارات استقبلت بنتها بالاحتفالات؟ هذه الدكتورة فاطمة الحميري استقبلوها بالورود، وكان في استقبالها محمد بن راشد عبر مؤتمر صحفي في المطار. نحن الآن في مكتبك وذلك إنجاز؟ كنت محرومة من النبش، ولكن بالأمس فقط قمت بإجراء أول عملية نبش. في أي ظرف تتم عمليات النبش؟ الدفن بدون إذن النيابة خاصة في قضايا مجهولي الهوية بالإضافة إلى الأخطاء الإجرائية الأخرى. من يذهب معك في النبش؟ الأدلة الجنائية والشرطة. ماذا خسرتِ كأُنثى؟ الكثير. مثلاً؟ قلت الكتير و(خلاص). يمكن خسرتِ الجاذبية نحو الحياة؟ بالتأكيد. ألا يُمكنك التوضيح؟ لم أعد مندمجة في الدنيا وتفاصيلها.. الغريب أنا بالأساس أحب التفاصيل. والرومانسية؟ (دا سؤال صعب جدا والله). هل أنتِ حساسة؟ والله العظيم أنا رقيقة جداً. طبيعتنا كصحفيين أفسدت علينا الكثير من اللحظات في الحياة العامة، وأنتم؟ ونحن مثلكم لدينا النظرة التفحصية. مكياج المشرحة؟ الصراحة والوضوح. لمن تشتاقين؟ أشتاق لشتاء موسكو والثلج النادر. فيما تركّزين حالياً؟ كل الخيوط يجب أن تكون عندي في دنيا التشريح لتجويد عملي.