تسنى لي الأيام الماضية السفر لمصر الثورة بعد غياب منذ نوفمبر الماضي أي قبيل الثورة، وأصدقكم لم أكن أظن أن النظام سيسقط بهذه السرعة وإن لاحظت كلما ركبت تاكسيا أن صاحبه- كلما سألته عن الأوضاع في مصر- كان يصب جام غضبه على الرئيس حسني مبارك وأركان نظامه الفاسدين يقول إنهم أفقروا الشعب المصري وأهانوه وأضعفوا مصر أمام إسرائيل وفقدت دورها الريادي في العالم العربي والإسلامي. كان واضحا إفلاس النظام المصري وتقلص قاعدته الاجتماعية والسياسية وفقدانه الهيبة قبل الثورة ورغم ذلك كان الجميع يظنون أنه لن يزول سريعا بسبب القبضة الأمنية وتدجين المؤسسات السياسية والدستورية والإعلام المرئي والمسموع عدا الصحافة المكتوبة فيها بعض الصحفيين والكتاب الوطنيين (الأحرار) الشجعان. كان رئيس النظام وزبانيته وزوجته وبطانته مشغولين بتوريث الابن جمال وهم في بروج مشيدة من المباني المحصنة وبالأجهزة الأمنية الخاصة والعامة ومظنة أن الجيش المصري العظيم الذي دك حصن بارليف وانتصر في ملحمة أكتوبر قد صار تحت إشارة الرئيس مبارك ومجلسي الشعب والشورى تحت تصرف رجال الأعمال الفاسدين والمنافقين الذين لا يجيدون غير تمرير رغبات السلطة والتصفيق والهتافات لكن كانت القدرة الإلهية تستجيب لدعوات المظلومين والمحرومين والحزانى وتدبر شيئا آخر. ما هي إلا شهران حتى جعل الله عاليها سافلها، كان الشباب ومن خلفه الشعب المصري العظيم هو قضاء الله النافذ وقدره الذي لا يخيب، خرج الشعب البطل إلى ميدان التحرير وكل الميادين لم ترهبه السلطة بكل قوتها ومباحثها وأمنها وسلاحها الباطش فانحازت القوات المسلحة الباسلة إلى الشعب، كيف لا تفعل وهي ضمير الشعب وسنده في الملمات ترى ذلك العبث والفساد ومحاولة الثوريث فرفضت أن تنصاع إلى النظام واعتقل مجلسها الأعلى قائد الحرس الرئاسي الذي حاول استعادة السيطرة ودعم نظام مبارك الفاسد الظالم، هذا النظام الذي كرس سيطرة الطبقة الجديدة التي نشأت عقب ثورة يوليو عندما انحرفت عن أسباب مجيئها رافضة للطبقة الملكية القديمة وحلفائها من الباشوات أن تتوارث الملك منذ محمد علي باشا فكرست الثورة الطبقة الجديدة بالباشوات الجدد قوامها أهل السلطة والأجهزة الأمنية والاستخباراتية والحزب الواحد الذي سيطرت عليه عقلية بيروقراطية مهيمنة، ثم تسرب إليها رجال أعمال فاسدون مفسدون أحكموا قبضتهم على الجهاز المصرفي ومفاصل الاقتصاد وزوروا الانتخابات الأخيرة كما اعتادوا دائما. أعظم ما أنتجته ثورة 25 يناير تلك الروح الجديدة التي لمستها في الشعب المصري هذه المرة على غير المرات السابقة، وذاك الحراك الفكري والسياسي الذي انتظم البلاد وصار الهم الأكبرللصحافة وأجهزة الإعلام الالكترونية هو كشف الفساد واستقرار البلاد عبر حوارات واسعة وعميقة حول مختلف القضايا مما كان لا يسمح به النظام السابق فأدى إلى الاحتقان فالانفجار. قضايا مفصلية تواجه مصر في الحاضر ومستقبلها القريب والبعيد هي قضايا الانتخابات وكيفيتها (أقر المجلس العسكري أمس ثلثين للقائمة الحزبية والثلث للأفراد)، يضاف لذلك زمانها فلا تتأخر لتجنب الاضطرابات بعد تهديد الإسلاميين، ثم هناك مشكلة العلاقة بين الدين والدولة والعلمانية رغم أن السيد أردوغان قدم أطروحة ومقاربة فكرية جيدة ومتقدمة أثارت غضب الإسلاميين رغم فرحهم بزيارته، وهناك قضية العلاقة مع المؤسسة العسكرية وهل سيرجعون إلى ثكناتهم أم ماذا؟ خاصة بعد زيارة الوفد الأمريكي بمستوى عال يخشى منه ضغط أمريكي سالب، وهناك بعض الإضرابات الفئوية وهناك قضية العلاقة مع إسرائيل وهناك قضايا الاقتصاد والمعيشة والفساد وبقيايا النظام السابق الذين يصنعون الفوضى بالبلطجية المستأجرين... إلخ القضايا، ولا شك أن الحوار المتميز والواسع والعاقل بين المثقفين والسياسيين المصريين كفيل بأن يثمر إيجابيا ويعيد مصر إلى دورها الرائد