تمورُ ساحة حزب المؤتمر الوطني الداخلية بالكثير من الخلافات التي تعبِّر عن وجود تيارات ومراكز قوى تتصارع من أجل الإمساك بزمام السُّلطة. و في كثيرٍ من الأحيان تنعكسُ هذه الصراعات في إزاحة بعض الشخصيات من مواقعها في الحزب والدولة. ويؤخذ على كثيرٍ من الشخصيات القيادية في حزب السُّلطة أنها لا تنتقد أداء الحكومة والحزب إلا بعد مغادرتها كراسي السُّلطة، حيث تظلُّ صامتة تشارك في القرارات والمواقف والممارسات الحكومية، وما أن تزاح من مواقعها السُّلطوية حتى تبدأ في انتقاد الأوضاع السائدة والتي كانت هى جزءًا أصيلاً منها. من ذلك ما صدر عن القيادية بحزب الحكومة الأستاذة سناء حمد العوض التي كانت تشغل منصب وزير الدولة بالإعلام، وتمَّت إزاحتها قبل عدَّة أشهر، حيث غادرت البلد مغاضبة لعاصمة الضباب لمواصلة دراستها كما جاء في وسائل الإعلام، ثمَّ عادت مؤخراً للسُّودان في إطار تسوية حزبيَّة منحتها منصب سفيرة بوزارة الخارجيَّة. بعثت الأستاذة سناء عبر حسابها الخاص على موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك)، برسالة للرئيس البشير طالبت فيها بإجراء إصلاحات في الحكم، وقالت : ( هو إصلاح لمؤسسات وسياسات، وتغيير لضوابط وأفراد، سيدي الرئيس نحن نعاني سوء إدارة للاقتصاد، وحالة سيولة غير مسبوقة في الدولة، سيدي نحن تعبنا من المجاملات). انتهى فات على الأستاذة سناء أنَّ الحالة "الأزمة" التي تتطلع لإصلاحها لم تتكوَّن بين عشيِّة وضحاها، بل هي نتاج طبيعي لسياسات متراكمة لأكثر من عقدين من الزمن، و هي الآن بلغت درجة لا يُمكن إصلاحها بالخطابات والنصائح والمُناشدات، والدليلُ على ما نقول هو ما حدث للدكتور غازي صلاح الدين، وهو كذلك ما جعل أبناء النظام الحاكم ذاتهُ يشرعون في الانقلاب عليه عسكرياً. حالة السودان – يا أستاذة سناء – نتيجة حتميَّة لسياسات النظام الشمولي نفسهُ، وبالتالي فإنَّ أى حديث عن إصلاح دون وقوع تغيير جذري في طبيعة نظام الحُكم سيكون كلاماً في الهواء. هذا التغيير يُمكن أن يتم بتوافق وطني شامل، ولكنهُ أيضاً يُمكن أن يتم بطريقة عنيفة، وبكلفة عالية من الدماء والأرواح والموارد، و على الحكومة – بحكم إمساكها بمقاليد السُّلطة - يقعُ عبء اتخاذ الخطوة الأولى حتى يكون التغيير سلمياً. توصيفُ الحالة السودانيَّة لم يعُد أمراً قاصراً على السياسيين،فالمواطن البسيط يُمكن أن يُعطي محاضرة قيِّمة ومتكاملة الأركان في شواهد فشل الدولة في الاقتصاد، والخدمة المدنيَّة، وإدارة النزاعات، و تفكك النسيج الاجتماعي، وغير ذلك ممَّا نتج عن الحكم الشمولي المُستمر منذ ربع قرن من الزمان. نظام الإنقاذ – يا أستاذة سناء – ليس استثناءً من الأنظمة العربية المستبدَّة التي ثارت عليها شعوبها، والملامح الأربعة التي تمثل العناوين الأبرز لطبيعة تلك الأنظمة هى : فقدان الشرعية الدستورية والقانونية، والاعتماد على الاقتصاد الريعي، والقمع والابتزاز، والفساد. غير أنَّ الأزمة الحقيقية لا تكمُن فقط في النتائج التي أدى إليها الحُكم الشمولي، ولكنها في "العقليات" التي ما زالت تبرِّر لهذا النوع من الحُكم، ومنها عقلية الأستاذة سناء التي تشكو من آثار الشموليَّة، ولكنها في نفس الأوان لا تدينها من منطلق مبدئي، بل تتعامل معها بذرائعية تتوَّخى مصلحة جماعتها ولا تأبهُ بالوطن، وهذا في ظني مأزق جميع أهل الإسلام السياسي. في حوار أجرتهُ معها صحيفة "المجهر السياسي" قبل انعقاد مؤتمر الحركة الإسلاميَّة الأخير، طرح عليها السؤال التالي : هل نتوقع خلال المؤتمر أن تحدث مراجعات لسياساتكم السابقة مثلاً الاعتذار عن انقلاب 1989؟ فأجابت الأستاذة سناء قائلة : ( تتعدد الوسائل في الوصول للحكم ولكن العبرة في الممارسة السياسية ولا أعتقد أن الإسلاميين سيعتذرون قط عن الحركة السياسية التي جعلتهم يصلون للحكم ). انتهى نحنُ هنا بإزاء حالة نموذجيَّة من حالات التفكير الأحادي النفعي، ذهنيَّة تصرُّ على عدم الاعتراف بالخطأ، مع أنَّ الاعتراف به يمثل فضيلة دينية تدَّعي الأستاذة سناء وجماعتها الانطلاق من قيمهِا، والسعي لتطبيقها. تقول الأستاذة سناء إنَّ "العبرة في الممارسة السياسية"، و نحن من جانبنا نقول لها إنَّ الممارسة السياسية التي تتحدثين عنها هي التي جعلتك تشتكين للرئيس من حالة "سيولة غير مسبوقة في الدولة"، وهي عبارة تلخِّص نتيجة الممارسة السياسية لنظام الحكم. أمَّا الذرائعية فتتبدَّى واضحة في القول إنَّهم لن يعتذروا عن فعل جعلهم "يصلون للحكم" وكأنما الغاية فقط هي الوصول للسُّلطة بأي طريقة وكيفية. ليس هذا فحسب، بل إنَّ الأستاذة التي تشكو من مآلات الحُكم الشمولي، ونتائجه التي تكاد تعصف بالبلد، لا تكتفي بعدم الاعتراف بالخطأ ولكنها تتوعد بتكراره مرَّة أخرى. هذا ما أظهرتهُ في إجابتها عن السؤال المباشر التالي : ألا تعتقدين أنَّ الانقلاب على نظام ديمقراطي خطأ ؟ حيث قالت بصراحة تحسد عليها : ( كل من يدرس المرحلة التي كان فيها السودان في فترة الثمانينيات سيجد العذر للإسلاميين في خطوتهم لأننا كنا في وضع أقرب لما يجري في تركيا وعندما يقدم الجيش مذكرة للقيادة السياسية يحجرون على الحركة الإسلامية المشاركة في العملية السياسية كنا التيار الثالث في البرلمان ومن حقنا أن ندافع عن أنفسنا ولو عاد الزمن بذات الظروف لكررها الإسلاميون). انتهى هذه إجابة لم يتجرأ عليها كبار قادة الحركة الإسلاميَّة، وعلى رأسهم راعي الحركة، وعرَّاب الانقلاب الدكتور الترابي الذي قال إنهُ لو استقبل من أمره ما استدبر لما شرع في الانقلاب على النظام الديموقراطي. نحنُ – يا أستاذة سناء – عايشنا تلك الظروف، ورأينا كيف عملت الجبهة القومية الإسلاميَّة على هدم الديمقراطيَّة عبر صحفها التي كانت تشكك في طبيعة النظام، وتستهزىء برموزه، ولم تكن مذكرة الجيش هى داعي الانقلاب كما تحاولون ترسيخ ذلك في عقول الناس. الانقلاب كان حاضراً دوماً في مبادئكم و منهجكم وتفكيركم، كان حاضراً منذ أن شرعتم في ذرع خلايا تنظيمكم في الجيش في سبعينيات القرن الفائت، حينها لم يكن النظام الديمقراطي موجوداً. كنتم تظنون – يا أستاذة سناء - أنكم مُختلفون عن بقية المُكونات السياسية السودانيَّة لأنكم مدعومون من "السماء"، وما أن استوليتم على السُّلطة حتى تكشفت عوراتكم، وبانت سوءاتكم : فسادٌ بلاحدود، محاباة ومحسوبيَّة لجماعتكم، فقرٌ وبؤس شديدٌ في المعرفة بأساليب الحُكم, وبالمجتمع السوداني، تفريطٌ في أراضي البلد، إيقاظٌ للعصبية و القبلية المنتنة، وغير ذلك ممَّا تعرفينهُ ويعرفه الشعب السُّوداني المغلوب على أمره. قالت الأستاذة سناء في رسالتها للرئيس البشير إنه (كلما تأخر الإصلاح كلما زاد الثقب الأسود الذي يبتلع آمال هذا الشعب وعائدات الاستثمار، ومعها آمالنا في النهضة والكرامة ). انتهى للأسف الشديد – يا أستاذة سناء – الثقب الأسود الذي تتحدثين عنهُ ابتلع كل شىء سلفاً، انفصل جنوب السُّودان، والحرب الأهلية تدور رحاها في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وربما يكون مصير هذه المناطق مثل مصيرالجنوب، والاحتقان السياسي لا يجدُ من الحكومة ردة فعل سوى المزيد من التمكين للقبضة الأمنيَّة، والقمع والاستبداد. غير أنَّ الأزمة الأكبر هى أزمة "العقل" والفكر "الأحادي" الذي يعتقد حَمَلتهُ أنهم قد امتلكوا الحقيقة، ولذا هم لا يتواضعون ولا يعترفون بالأخطاء ومنهم الأستاذة سناء نفسها، وهذا ما تبدى في إجابتها على السؤال التالي في نفس الحوار : ماهي أكبر أخطاء الحركة الإسلامية في السودان ؟ حيث أجابت قائلة : ( ليس في خاطري خطأ كبير ) !! إنَّ عدم الإحساس بوجود الأخطاء – يا أستاذة سناء – هو الأمر الذي أوصل بلادنا إلى الحالة التي جعلتك تخاطبين الرئيس مطالبة بالإصلاح، وفات عليك أنَّ قيادة حزبك جزء من المدرسة التي تنتمين لها، تفكيرها مثل تفكيرك، هي مدرسة لا تعترف بالأخطاء، وتشعر أنَّ البلاد في أحسن أحوالها، ولذا فإنَّ نداءك سيذهب أدراج الرياح مثلما ذهبت نداءات كثيرة عديدة، هذا في أفضل الأحوال، أمَّا إذا ارتفع صوتك أكثر من اللازم فستجدين من ينبري لك قائلاً : ألحسي كوعك !! لا حول ولا قوة إلا بالله هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته