أمسكت بورقة وقلم لأكتب عنها، مرت الساعات، وأنا لم أبدأ، فحقا لم أدر من أين أبدأ؟ جلست أمام شاشة اللاب توب علني أتمكن من كتابة أسطر، ومرت الساعات ولم أعرف أيضا من أين أبدأ، هل بالماضي الجميل أم الحاضر المرير؟ استعنت بتقليب الصور، ربما تدلني لعنوان أبدأ به، أو موقف أستهل به، وما أكثرها، لكني تيقنت أنه ينقصني الكثير، ينقصني ترتيب الأفكار وحسن التعبير وترجمة المشاعر إلى كلمات.. تساءلت في نفسي كيف يحسن الآخرون التعبير عن أنفسهم ونفشل نحن رغم ما نذخر به من أشياء.!! الوقت يداهمني ولازلت أحس بالعجز، لكني سأبدأ هكذا، دون ترتيب أو استعداد، سأحكي عن أميرة عبد العظيم، التي كانت أميرة في كل شيء، شغلت منصب المدير العام لحصيفة الأخبار "سابقا" لكنها في الحقيقة كانت عمود الصحيفة الأساسي.. لم تكن ناجحة جدا في الإدارة، لأنها تسعى لإرضاء الجميع ولو على نفسها وصحتها ومالها. اتجهت يا سادتي أميرة ذات يوم من مقر الصحيفة ببحري إلى الطبيب لتعرف نتائج فحوصات كانت قد أجرتها.. أخبرها الطبيب أنها مصابة بالسرطان، خرجت أميرة منه وكأن شيئا لم يكن لتذهب إلى شخص يدينها مبلغا من المال لسداد مرتبات العاملين في الصحيفة، الذين كانوا يهددون بالإضراب عن العمل حال لم يصرف لهم المرتب، نجحت كعادتها في استدانة المبلغ وما كنا ماذا كانت تفعل، وما كانت هي لتقول!! "الأخبار" صحيفة جميلة، لكن لازمها الحظ العاثر منذ ولادتها، رئيس التحرير محمد لطيف، قاوم بأن يجعلها تستمر، فباع ما يملك، ولحقته أميرة التي أرادت للأخبار أن تنجح وتستمر فباعت أيضا كل ما تملك.. تلك المرأة العظيمة يا سادتي كانت كتلة حيوية من النشاط، تمارس بجانب عملها مهمة أخرى تتمثل في "حل المشاكل" لا أعتقد أن هناك أحدا عمل في (الأخبار) لم تحل له أميرة مشكلة، على الأقل ولو مرة واحدة. لازلت أذكر أن المرة الوحيدة التي قدمت فيها استقالتي من الصحيفة وصلتني في ذات اليوم أميرة برفقة زوجها ميسرة الخير- الذي أصبح هو الآخر جزءا من (الأخبار)- إلى المنزل، تطيب الخاطر وتلح بشكل غريب بحيث لا يكون للشخص من مفر إلا أن يستجيب لها ولو مضطرا، فمن ذا الذي يردها؟! حينما كانت أميرة تسكن في سوبا، كنا نعود سويا من الصحيفة، توصلني إلى منزلي أولا قبل منزلها، أصبحت علاقتنا علاقة أسرة، لم تقف عند زوجها وابنتها نبراس وأختيها هبه وسميرة، وأخيها مجتبى، إنما امتدت إلى بقية الأقارب والأصحاب.! يا الله، تلك المرأة الجميلة، الكريمة، الأنيقة، رقيقة المشاعر والإحساس، دموعها آيلة للسقوط في أي لحظة وأي موقف.. استقبلت المرض بإيمان كبير، قاومته كثيرا فكانت تنتصر عليه لأيام وأسابيع غير أنه كان يأبى إلا أن يعود إليها مجددا، لم تيأس من الحياة، رغم علمها أن الموت أقرب. صارعت سرطان الثدي في رحلة طويلة امتدت بين الأردن والقاهرة والخرطوم، لم تهنأ بالشفاء لينتقل السرطان إلى الرأس.. كانت عازمة بإصرار على محاربته.. في رحلة المرض الطويلة وقفت الأسرة الصغير والكبيرة، والأصدقاء المقربون إلى جانب أميرة.. لكني أخص اليوم صديقنا شوقي، الذي رافقها دون كلل أو ملل، يحدوه الأمل بأن تعيش رغم أن الأطباء يصارحوه في كل مرة بما تبقى لها من أيام.. دائما ما كانت تتساءل صديقتي نازك شمام، هل يفعل الإخوان هكذا لأخواتهم؟! وحدنا أنا وهي كنا نعلم ما يفعله شوقي من أجل أميرة، لازلت أتذكر أنها كانت تقول لي "كل ما أرى رقم شوقي يرن في هاتفي أحس بانقباض وأخشى أن يقول لي أنها توفيت". كانت حنونة جدا، لا تمر بضعة أيام إلا وأرى منها اتصالا، تطلب مني الاتصال بمن أعرفهم في صحيفة الخرطوم لأن شوقي هاتفه مغلق.. كان يتحسس من الأمر في مرات، ويبتسم ويضحك في مرات.. حينما بدأ المرض ينهكها، رغبت بأداء العمرة، فاصطحبها شوقي وهي لم تعد تقوى على الحراك.. أدت العمرة وعادت إلى الخرطوم لتدخل بعد أيام في غييوبة امتدت لأكثر من شهر، لتنسحب من هذه الدنيا بهدوء لتلقى ربها وقد كفرت الذنوب ومحت الخطايا بعد صبر طويل وإيمان كبير بقضاء الله وقدره. كانت أمها الحاجة عائشة أبو كشوة تقول لمن يطلب منها الصبر "خلوني أبكي، الليلة يوم الفراق الحار".! ألا رحم الله هذه المرأة التي أحببناها حبا شديدا، وغفر لها وأدخلها فسيح جناته بين الصديقين والشهداء، وألزم أهلها وذويها الصبر والسلوان.. " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ".