ترجمة: بابكر فيصل بابكر قام الرئيس باراك أوباما مؤخراً بتعيين المبعوث الرئاسي السادس للسودان وجنوب السودان كحلقة من حلقات المجهود الكبير الذي بدأ في العام 2001 لإيقاف الحرب وعدم الاستقرار في ذلك الجزء من إفريقيا. لقد تم إنجاز الكثير في ذلك الإطار، وعلى وجه الخصوص إيقاف الحرب الأهلية السودانية في العام 2005 واستقلال جنوب السودان في العام 2011. ومع ذلك فإنَّ المفاوضات المكثفة المدعومة دولياً في العامين الماضيين لم تحقق سوى سلام هش مشحون بالنزاعات الحدودية، والاتفاقيات المجهضة وتبادل الإتهامات بسوء النوايا، والحاجة المستمرة إلى التدخل الدولي لتجاوز الأزمات التي يأخذ بعضها بتلابيب بعض. وفي الغالب ستستمر هذه الحلقة المفرغة إلى أن يحدث تغيير جذري في الطريقة التي تتم بها معالجة الوضع. لقد كنت مبعوثاً خاصاً للرئيس الأمريكي في السودان وجنوب السودان لعامين، أجتهد في منع الطرفين من الانزلاق في الهاوية مرَّة بعد الأخرى. ويبدو واضحاً لي الآن أن الوقت أخذ في النفاد بشأن هذه العملية. يتعين على البلدين اتخاذ قرارات وجودية من شأنها تحديد إن كانا سيتعايشان في سلام ورفاهية أم سيستمران في تدمير الذات عبر المواجهات. تحتاج الحكومة السودانية التي يقودها الرئيس عمر البشير إلى التخلي عن الصيغ البالية للسيطرة على الأوضاع الداخلية، وأن تقوم بإجراء تغيير سياسي جذري من شأنه الاعتراف بالتنوع السكاني وإنشاء دولة أكثر ديمقراطية. وفي جنوب السودان يتوجب على الحكومة التوقف عن دعم المتمردين السودانيين الذين ينشطون عبر الحدود لإسقاط النظام في الخرطوم، وهو الأمر الذي يهدد تصدير النفط الذي تعتمد عليه في وجودها، وبدلاً عن ذلك عليها التركيز في حل أزمتها السياسية الداخلية والفقر المدقع الذي يعيش فيه شعبها. وكذلك هناك الكثير من الأمور التي تهم الولاياتالمتحدة، إذ إنَّ انغماس الإدارات الأمريكية في الشأن السوداني منذ إدارة بوش وحتى إدارة أوباما، يعكس الإدراك المتعاظم بأنَّ انهيار أيٍّ من البلدين أو السلام بينهما ستكون له عواقب إنسانية وخيمة، وزعزعة للاستقرار في شمال إفريقيا والقرن الإفريقي. لقد أنفقت الولاياتالمتحدة أكثر من 10 مليارات دولار على حفظ السلام والمساعدات الإنسانية، وهذه التكلفة ما زالت مستمرة. إنَّ قضايا الإبادة الجماعية، والاسترقاق، وتقرير المصير قد خلقت جمهوراً من الأنصار في أوساط المواطنين الأمريكيين، وكذلك الكونغرس فيما يخص تلك الدول. حاجة البلدين إلى اتخاذ قرارات لا تعني أنَّ المسؤولية الأخلاقية لكليهما متساوية. الحكومة السودانية حاولت مرتين بالقوة فرض قوانين الشريعة على الجنوب غير المسلم، وكذلك أجهضت مرتين اتفاقيات لمنح الجنوب وضعاً أكثر استقلالية. إنّ الحرب الأهلية التي نتجت عن ذلك أزهقت أرواح الملايين وصاحبتها انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان ضد الجنوبيين بواسطة القوات الحكومية والمليشيات الجنوبية المدعومة من السودان. إنَّ ذات الممارسات في دارفور أدَّت إلى إدانة الرئيس واثنين من كبار مسؤوليه بواسطة محكمة الجنايات الدولية، بتهم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية. وعلى الرغم من ذلك، لم تؤدِّ هذه الممارسات إلى استقرار الأوضاع في السودان، وهي كذلك لن تحقق هذا الهدف في المستقبل. في يونيو 2011 اندلعت الحرب مرة أخرى في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وتشهد دارفور عودة للاقتتال بصورة كبيرة. وقد شكلت الحركات المسلحة في هذه المناطق الثلاث تحالف الجبهة الثورية السودانية كوسيلة أكثر قوة لضرب النظام. ومع ذلك فإنَّ العديدين داخل الحكومة السودانية يصرون بعناد على الاعتقاد بأنَّ مجرَّد إيقاف الجنوب لدعم المتمردين سيمكنهم من سحقهم عسكرياً. في الواقع، دون إحداث تغيير في الطريقة التي يحكم بها البلد، فإنَّ السودان سيشهد انهياراً مستمراً. وستفقد الحكومة كذلك أيّ أمل في كسر طوق العزلة والحصار المضروب حولها والذي يعيق اقتصادها ويؤذي شعبها. من المؤكد أن الاقتصاد السوداني يعاني، إذ فقد السودان 70% من موارده النفطية عند انفصال الجنوب, والإجراءات التقشفية التي أجبرت الحكومة على فرضها منذ 2011 أدت لاضطرابات متقطعة شملت تظاهرات عنيفة أدت إلى موت العديدين مؤخراً. مما يحسب في صالح حزب المؤتمر الوطني الحاكم، أنَّ هناك نقاشاً حيوياً يجري في أروقته الداخلية، حيث يصارع الإصلاحيون من أجل تغيير الأمر الواقع. حتى في أوساط الجيش يوجد ضجر من الحرب وتكلفتها. لسوء الحظ فإنَّ حزب المؤتمر الوطني لا يرغب في توسيع دائرة الحوار لتشمل أحزاب المعارضة والمجتمع المدني، وبالطبع الحركات المسلحة التي تقاتل من أجل إسقاطه، ولكن الحوار الوطني الحقيقي أمرٌ ضروري للغاية. جنوب السودان، من ناحيته؛ يواجه أزمته الداخلية الخاصة به والتي تستدعي أسئلة حول قابلية الدولة للحياة، والتزامها بالديموقراطية، إضافة إلى احترام حقوق الإنسان والحكم المسؤول. تحت حكم الرئيس سلفاكير، يقوم حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان الحاكم باستخدام أموال النفط لتوحيد المجموعات القبلية المختلفة، والمليشيات المسلحة المعادية في السابق، ولكن هذه المحاولات غير مجدية، إذ يواجه الحزب انقساماً خطيراً. في نفس الوقت يُتهم الجهاز الأمني للرئيس سلفاكير بالضلوع في عمليات اغتيال وتضييق على الصحفيين، والمحامين، والمدافعين عن حقوق الإنسان. كما اندلعت نزاعات عرقية مريرة في أجزاء عدة من البلد، خصوصا في ولاية جونقلي حيث توجد تقارير موثوقة عن انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان بواسطة القوات الحكومية والمليشيات القبلية المعادية لها. لن يمتلك جنوب السودان القدرة أو الموارد السياسية لعلاج الأزمات الداخلية والفقر الشديد لمواطنيه، إلا إذا ابتعد عن المواجهة مع السودان حيث يستمد 98% من موارد ميزانيته المالية من النفط الذي يجب أن يمر عبر الأنابيب السودانيَّة. إن الإغلاق المتواصل للحدود مع السودان قد حمَّل المواطنين الجنوبيين عبئاً ثقيلاً حيث تعودوا على استيراد الغذاء والوقود من الشمال لفترة طويلة من الزمن. ويقع في قلب مهددات إيقاف تدفق النفط وفتح الحدود واتهام الخرطومللجنوب بتقديم العون المادي لمتمردي الجبهة الثورية. وعلى الرغم من أنَّ الجنوب يرفض بشدة هذا الاتهام إلا أنَّ هناك دليلاً واضحاً على أنه يقدم ذلك الدعم. الحقيقة أن أية لقاءات وتعهدات للرئيسين البشير وسلفاكير خلال العامين الماضيين، وأية ترتيبات مضنية وضعت من قبل الاتحاد الإفريقي والشركاء الدوليين تتحطم خلال أسابيع أمام صخرة الاتهام بدعم المتمردين. القمة الأخيرة التي جمعت الرئيسين في 3 سبتمبر أشعلت فتيلاً للأمل، بأنَّ تغييراً قد يحدث في كيفية التعاطي مع هذه المشكلات. سحب الرئيس البشير تهديداته الأخيرة بإغلاق أنبوب النفط، وتعهَّد الرئيسان مرة أخرى بتنفيذ اتفاقيات التعاون الموقعة بين البلدين العام الماضي بما في ذلك النفط. هناك لجنة مشتركة ستحقق في اتهامات السودان للجنوب بدعم متمردي الجبهة الثورية، وقد تكون هذه هي الخطوة الأولى الحقيقية لفك ارتباط جنوب السودان مع المتمردين أو أنها – إذا أعاد التاريخ نفسه – ستكون نوعاً من المماطلة يؤدي إلى أزمة أخرى. يُمكن للمجتمع الدولي المواصلة في التدخل لحل أية أزمة تلوح في الأفق بين البلدين، ولكن هذا لن يستمر للأبد. إذا أراد البلدان إنجاز سلام حقيقي عليهما أن يدركا أنَّ التحديات الماثلة أمامهما تتمثل قبل كل شيء في القضايا الداخلية لكل بلد، وأنَّ الأولوية يجب أن تُعطى لحل تلك القضايا، وهو ما سيمثل أعظم خدمة لشعبيهما. *السفير برنستون ليمان شغل منصب المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي في السودان وجنوب السودان منذ مارس 2011 حتى مارس 2013. ويشغل حالياً منصب كبير المستشارين لمدير معهد السلام الأمريكي.