هجرناه فغابت الحميمية عن تواصلنا البريد صريع ثورة الاتصالات موظف سابق بالبريد: كنت شخصية مهمة ينتظرني الناس بفارغ الصبر.. تقرير: محاسن أحمد عبد الله ما في حتى رسالة واحدة.. بيها أتصبّر شوية الوعد بيناتنا إنك بالخطاب ترسل إليّ.. حوت أغنيات أغلب الفنانين معاني الشوق واللهفة للحبيب والأم والأهل، عبر الرسائل البريدية تحكي فيها حال أشواقهم، بعد أن باعدت بينهم المسافات. والكلمات أعلاها التي صدح بها الفنان الراحل أحمد الجابري، كانت دليلا على أهمية التواصل مع المحبوب وإبلاغه الأشواق في رسالة حتى يتصبّر بها، ولكي يوفي بالوعد الذي قطع، بأن تكون الخطابات هي جسر التواصل.. فيما ردد الفنان تاور في إحدى أغنياته (يمّه الحنينة الشوق غلب، ليك يا حبيبة وللبلد، لي كل زول في الدار هناك، للأخت الولد يمه الشوق يمه الشوق)، هنا غلب الشوق الشاعر، فكان لا بد من كلمات أكثر حنية لإيصال هذا الشوق عبر رسالة بالبريد تحكي ذلك الحب الكبير للأم والإخوان والأهل، تعبيراً عمّا يجيش في دواخل الشاعر من شوق، وهو بالغربة التي لا ترحم. في الوقت الذي كتب فيه الشاعر الكبير هاشم صديق نصاً يقول: (بكتب ليك رسالة طويلة بي دمي.. مضفرة بي سعف بلدي..وما برمي الجواب في بريد)، في هذا النص نجد أن الشاعر كأنما كان يقرأ المستقبل في نصه القديم هذا بقدوم العولمة التي اجتاحت كل مناحي الحياة، مستغنية عن (ساعي البريد) بوجود وسائل أسرع للتواصل في نص أكثر دلالة وعمقا. الشات البارد على الرغم من سطوة الحوسبة والعولمة والتقنية الحديثة، وسهولة التواصل، إلا أن هنالك تواصلاً بالرسائل البريدية، وإن كان نادراً، ولا زال يتسم بتلك الحميمية القديمة التي طالما حملها ساعي البريد في حقيبته مبشرا بقدوم مكتوب من أخ أو صديق أو حبيب بكلمات معطرة بالأشواق والأمنيات.. ولكن صندوق البريد فقد أهميته في الفترة الأخيرة بظهور البريد الإلكتروني وأصبح الكل جالسا في غرف الشات ينامون ويصحون على صفحات الفيس بوك والإسكايبي، ويقضون بقية وقتهم على الواتس أب لمتابعة الأخبار و(الشمارات) لحظة بلحظة، وفي كسر من الثانية مختصرين مساحات التلاقي الحقيقي. كنت مهماً يقول العم حافظ موسى الذي كان يعمل ساعي بريد بنبرة لا تخلو من الشجون والذكريات الجميلة التي صاحبت فترة عمله: (لقد كانت هنالك متعة كبيرة وأنا أعمل في تلك المهنة التي ربطتني بأسر وشخصيات مهمة في المجتمع، وكان ذلك في أواخر الستينات، وكنت وقتها شخصية مهمة يتم انتظارها بفارغ الصبر وأنا أحمل داخل حقيبتي كل الأشواق والسلام والحب في وقت كانت فيه الدنيا بخير), ويلفت حافظ إلى أن الأمور الآن اختلفت كثيراً مع تقنيات العولمة الحديثة التي زعزعت مهنة ساعي البريد كثيراً، وأصبحت الرسائل ترسل بالهواتف والإيميلات، ويقول: (وأحمد الله أنني نزلت المعاش منذ زمن حتى لا أصطدم بواقع آخر يفتقد إلى الحميمية والتواصل المباشر). فيما يرى مهندس الاتصالات فرح حسين أن وسائل الاتصالات الحديثة سهلت للناس كثيراً واختصرت المسافات بينهم، بفعل التطور التقني وتلاشي التعامل بالبريد على الرغم من الأهمية الكبيرة التي كان يتمتع بها وقتها بفعل المواكبة مع العالم. رسائل جافة غابت عناصر الشوق والانتظار عبر رسالة ملموسة كانت تبلل الأشواق لتصبح الآن باردة و(معلبة) في صندوق الصادر جامدة وفاقدة للنكهة والمذاق وجافة بعد أن تحكمت فيها بعض الأزرار على جهاز اللابتوب أو الهاتف.. نحن لا ننكر أن هذا ما تقتضيه وتتطلبه ظروف العلومة التي تفاجئنا على الدوام بالجديد في سباق محموم مع ثورة التكنلوجيا.. ولكن يبقى لرسائل البريد طعم مختلف وشوق دافق وتواصل حميم ويبقى الصراع من أجل البقاء رغم أذرع أخطبوط العولمة المتمدد والمتجدد.