* ..وعند الثانية إلا ثلثا من ظهر ذاك اليوم المشؤوم صافحت مسمعي رنة خاطفة تشير الى أن رسالة جديدة على (الواتس اب) احتلت مكانها بهاتفي المزدحم بسيل الفيديوهات والمفارقات وضجيج رسائل المجموعات.. أكملت ما كنت مشغولاً به على الرغم من عدم أهميته وبعد قرابة الساعتين عدت أتصفح الرسائل الجديدة بنصف اهتمام فاستوقفتني مجموعة من (الخواطر والحكم والأقوال والوقفات) وصلتني عبر رسالة تم اختيارها بعناية فائقة، وكان استهلالها استفهام بديع يقول : (كم مرة ظلمنا أحبّة لنا دون أن نعلم خلفيات ظروفهم وأسباب تصرفاتهم؟! فلماذا نُطلق الحكم قبل أن نعرف الأسباب و نفهم الظروف؟؟ ومضيت فى الرسالة مطلقاً العنان ل "ابن سيرين" وهو ينبهنا بقوله : إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذراً ، فإن لم تجد له عذراً فقل لعلَّ له عذر.. ولم تقف الرسالة عند نصائح د.سليمان العودة، كما أنها لم تختتم بحديث عن أذواق الناس المختلفة.. تمت الاشارة فيه الى أنه لو أن أذواقك مثل هذا وذاك لانعدمت لذة إعجابك بأحدهم..فينبغي عليك أن تهتم بذوقك فهو بصمتك وتعبير يشرح من أنت..!! * ..قبل أن أعلق على الرسالة المطولة التى حملت أكثر من دعوة للتسامح وضرورة إيجاد الأعذار للآخرين سألت مرسلتها الزميلة الراحلة فاطمة خوجلي: (وصلتى متين ..حمدا لله على السلامة ؟) إذ أن آخر مهاتفة بيننا كانت قبل يومين -وتحديداً مساء الجمعة- الذى حضرت فيه لمكاتب الصحيفة حتى تقوم بإكمال تكليفاتها قبل مغادرتها للمملكة العربية السعودية، ولا يزال صدى صوتها يرن في أذني وهى تقول بطيب معشر وسماح خاطر : (طيب يا أستاذ انا جيت الليلة الجمعة كملت الحاجات العلي وختيتا لى قذافي في (الشير) لأني مسافرة والعفو والعافية).! * وأتانى ردها على رسالتي سريعاً : ( تعرف رجعت من المطار.. يا داب بكرة او بعدو بسافر ..عوارض والحمد لله..وزى ما بتقول حبوبتي لما اجي محتاجة لى حلة كرامة.!). وداعبتها بعدد من الرسائل عن العوارض والكرامة والذبائح المرتقبة وتبادلنا القفشات سريعا،ً ليفجعني بعد سويعات -وقبل أن تجف بطارية التلفون- نبأ الحادث الأليم الذى تعرضت له ورفيقة مشوارها الأخير الزميلة الصديقة نادية عثمان مختار. * هاهى فاطمة تغمض إغماضتها الأخيرة مودعة الدنيا بعد استهلال مشرق لماراثون طويل، ومثابرة ملحوظة في درب شائك، ورغبة كبيرة لتحقيق الذات تسندها موهبة حقيقية ويدفعها طموح بلا سقف ..رفعت يدها ملوحة بالوداع وهى الموعودة وفق خطوات بداياتها الثابتات بمستقبل أخضر وغد أنضر..! * مضت فاطمة تاركة سيرة عطرة وبحور أحزان لا تنضب وإن جفت الدموع فى المآقى..كانت الأقدار رحيمة بأهلها وأصدقائها وزملائها عندما قسمت لنا فاجعة رحيلها على أقساط..كنا نعلم جيداً أن حالتها الصحية حرجة جداً ودخولها في غيبوبة أمر مزعج للغاية، ومفارقتها للغيبوبة دفع الأطباء الى تنويمها حتى يتسنى لهم البدء في مراحل العلاج تباعا..المرء لا يرى في الظلمة سوى الضوء القابع في آخر النفق..التمسك بالأمل مهما وهن خيطه يمثل أحد أسباب الصراع المشروع لعيش حياة حالمة خاصمت اليأس وفتحت الآفاق للتزود بطاقة تدفع عجلة الطموح والأمانى لسنوات قادمة..!! * نعزي أسرتها المكلومة وأنفسنا وقراء (السوداني) الأكارم وشباب (صالة التحرير) الذين افتقدوا نحلة تجمع الناس حولها وتمنح زمنها وتركيزها لكل المناسبات التى تحتضنها الصالة..لن يكرمهم النسيان بدوام نعمته طويلا فما أن تأتي مناسبة سعيدة بالصحيفة حتى يتجاوز الجميع بسمة الفرحة ويبكون رحيل (أم العريس) التى كانت تستمتع بتهيئة مراسم الأفراح لزملائها..صارعنا الدموع يوم زرناها بمستشفى شرق النيل برفقة الحبيبين ضياء الدين بلال ونصر الدين الفاضلابي..دخلنا لرؤيتها بصحبة د.كمال عبد القادر يدفعنا أمل تحسن القراءات بينما تضرب الدموع التى انهمرت من مقلتى فاضلابي مدرارا كل خطوط الصبر فينا وتخلخل أوتاد ثباتنا فبدانة فاضلابي ماهى إلا غدد رهافة زائدة..بدا لي ضياء متماسكا وإن اغرورقت عيناه عند رؤيته فاطمة ممددة على سرير داخل غرفة الإنعاش..د.كمال يطمئننا ولم يكن يعلم أن دموع الفجيعة عندي لم يداريها سوى (الصنقيعة). * إنسلت فاطمة بكل وقارها عن دنيانا تاركة لنا ضجيج الأحزان وتعالى أصوات النحيب، ولا نجد في مثل هذه المواضع عادة أبلغ مما قاله خطيب العرب شبيب بن شيبة وهو يعزي أمير المؤمنين في فقد عزيز لديه بقوله : (جنة الله خير لها منا وثواب الله خير لنا منها، وخير ما صبر عليه ما لا سبيل الى رده). نفس أخير ولنردد خلف المتنبئ : ولو كان النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال وأفجع من فقدنا من وجدنا قبيل الفقد مفقود المثال