الزهرة الجميلة وضعت بصماتها وغادرت هذا (السبت) وفي كل (سبت) تقريبا، كانت محررة (السوداني) النشطة وزهرتها الجميلة، تطل عليكم أعزاءنا القراء في هذا (الملف) إما مشاركة فيه أو مشرفة عليه، تنتقي المواد انتقاء وتبحث عما هو جميل ومختلف، تأتي إلى الصحيفة يوم الجمعة باكرا قبل الجميع، لتنسق المواد وتحررها وتقف على تفاصيل تصميمها، حتى يكتمل الملف ويخرج في أفضل صورة. لكن أمس (الجمعة) لم تأت فاطمة إلى مكانها المعتاد لتلبي عملها المحبب إلى قلبها، إنما لبت نداء ربها في هدوء تام، بعد أن حانت ساعة الرحيل. ليس من السهل الكتابة عن فاطمة خوجلي، التي تعرفونها عبر هذه الصفحات، فالكلمات لم تعد مناسبة للتعبير، والمشاعر لا يمكن ترجمتها إلى حروف. الخرطوم: لينا يعقوب – زينب بُدل بدايات مختلفة في احدى صباحات ابريل من العام 1985 بالمدينة المنورة، أطلت على الدنيا (فاطمة) طفلة صغيرة حملت بين عينيها بريق السعادة لأسرة كانت تستقبل بشريات الفرح بقدوم ابنتها الأولى، ومرت سنوات العمر واضحت فاطمة مع قريناتها في جامعة السودان كلية المختبرات العلمية قسم الكيمياء شعلة متقدة من المرح والذكاء والنجاح، كانت تخرج من الخوجلاب مع انطلاق خيوط الفجر لتكون جلوساً في مقاعد القاعة حتى لا تضيع من بين يديها محاضرة (السابعة صباحاً)، ولم تكن تنسى بالطبع أن تحمل معها بعض القهوة والفطائر وتخبر صديقاتها (عمايل يدي)، حينها لم يكن يخطر لفاطمة بنت الخوجلاب انها ستمسي ذات يوم نجمة على بلاط صاحبة الجلالة، عشقها للصحافة بدأ قبل أن تراها حيث كانت تهوى الكتابة وهي داخل اسوار الجامعة، وكانت تخبر صديقاتها انها تريد بشدة أن تصبح صحفية بعد التخرج، وبالفعل بدأت طريق الالف ميل بخطوة حيث درست لتجتاز امتحان القيد الصحفي وقد كان لها ذلك، وبعدها التحقت بصحيفة (الرأي العام) وبدأت في العمل بشدة وثبات وظلت تردد لصديقاتها (أنا عندي حاجات كتيرة عايزة اعملا بس محتاجة فرصة)، وقد كانت الفرص تتسمع لفاطمة قولها هذا ففتحت لها الطرق من اوسع الابواب. زهرة (السوداني) الزهرة الجميلة، دخلت صحيفة (السوداني) نهاية عام 2011، قالت إنها متدربة، رغم أنها تجاوزت مرحلة التدريب، كانت مدفوعة بعزيمة قوية لا تعرف الفتور، وحب كبير للمهنة لا يعرف الكلل، رغم أنها تسكن بعيدا في منطقة الخوجلاب، لكنها كانت دائماً أول الموقعين على دفتر الحضور، وغالباً آخر المغادرين من بين زميلاتها، كانت ضمن الطاقم العامل في قسم الفنون والمنوعات، ومع ذلك غزت كل الأقسام بإنتاجها الوفير المجود فأنجزت الكثير من التحقيقات المتميزة التي أثارت الكثير من الجدل. لا تتردد فاطمة بأن تحمل أسئلتها واستفساراتها لمن هو أكثر منها خبرة فتزيد معلوماتها وتتفنن في عرض موادها. مزجت فاطمة العمل بين الأقسام المختلفة، وبرعت في مواد المنوعات السياسية وفي الحوارات خفيفة الظل، اقتحمت الاقتصاد قليلا، وعادت مرة أخرى إلى المنوعات والفنون، استيعابها سريع وتفهم المطلوب دون عناء، كثيرة المبادرات والمقترحات. ولأنها تحب المهنة وكل فنون العمل الصحفي، لجأت إلى كتابة عمود "بالخط العنيد" وكانت تحرص عليه كطفل صغير تنتظر منه أن يبلغ سن الرشد. فرح الصالة وكما كانت فاطمة في أيام الجامعة تسأل وتهتم وتنصح الجميع اصطحبت معها عاداتها الطيبة تلك إلى صالة (السوداني) التي جاءت اليها، واستطاعت أن تكون قريبة من الجميع، فهي صاحبة حضور طاغ تجدها وقوفاً في كل المناسبات، تسعى دائماً لأن يكون الجميع مجتمعين، تحرص على تحريض الناس على (لمة فرح) ايا كان مكانها وزمانها فقط لترسم الضحكة على وجوه الكل، منذ أن عرفناها هي صاحبة المبادرات والقائد في تنظيم كل مناسبة تمر على الصحيفة، فهي غير انها تعمل بجد وجهد لا ينقطع، هي ايضاً تعمل بجد ليكون تنظيم المناسبات حدا اقرب للكمال، مار زلنا نذكر كيف تساقط الدمع من عينيها وهي تودع (سيفو) صاحب الابتسامة الشفافة وصبي الشاي بالصحيفة، تعودنا دائماً أن نجدها مبكراً تأتي إلى الصحيفة في وقت مبكر دائماً تقول لنا عندما نعاتبها بأنها تتعب نفسها في العمل حد الارهاق بأن لديها الكثير لتفعله وليس هناك ما يكفي من الزمن، وغير ذلك فالكتابة لا تحلو لها إلا مع اشراقات الصباح الأولى.. حتى الأطفال يفتقدونك فاطمة لمن لا يعرفها كانت تزدان بعشق كبير للاطفال، تحب مجالستهم والحديث معهم وهم ايضاً كانوا يبادلونها نفس الحب، كل الاطفال الذي يأتون إلى الجريدة لابد أن يسألوا (وين خالتو فاطمة) ما زلنا نذكر ماذا حدث عندما أتت سعاد سعيد عباس، وامسكت فاطمة بتلابيبها ولم تذهب إلا بعد أن اخذت معها العديد من الصور، وايضاً لن ننسى (ريل) الأبنة الصغري لأستاذ ضياء التي كانت تقول بعلو صوتها في المستشفى (أنا دايرة اشوف فاطمة يا بابا). مشاكل الاطفال كانت دائماً نصب عينيها وقلمها لم يكف يوماً عن التحدث باسمهم، وكتاباتها لم تكن تخلُ من المطالبة بحقوقهم والدفاع عنهم، فهي إما تجدها تشجع اصحاب المواهب منهم أو تطالب بحياة كاملة لذوي الإعاقة.. قدر مسطر مساء الثامن عشر من نوفمبر الماضي، كانت فاطمة خوجلي ونادية وعثمان مختار مع موعد مكتوب مع القدر، حادث مأساوي أليم أودى بحياة نادية في ذات اللحظة وأحال فاطمة إلى العناية المركزة بمستشفى شرق النيل. بعد الحادث بساعات قليلة كان الجميع يقف امام باب المستشفى يريد الاطمئنان على فاطمة ولكن باءت كل المحاولات بالفشل، فعاد الجميع ادراجه إلى مباني الصحيفة، ومعنا الكثير من القلق والبعض من الدمع والكثير من الامل بأن الله قادر على كل شيء، ومضت بعدها أيام كانت صالة التحرير يعمها حديث الحزن ويؤرقها انتظار الاخبار، فلم تكن تمض دقائق إلا وتجد من يسأل (اخبار فاطمة شنو؟) وعلى هذا الحال مضت اربعة وعشرون يوماً قضتها أسرة (السوداني) ما بين الصحيفة والمشفى، كانت تأخذنا فيها الافكار وتعيدنا، يمسك كل منا بهاتفه عساه يرن ويجلب خيراً. غيبوبة تامة استمرت قرابة (11) يوما لم تفق منها فاطمة إلا بالدعوات، أيام مستمرة من الخطط العلاجية للخروج بها إلى بر الأمان، الزيارات الكثيفة للمستشفى لم تنقطع رغم أن الدخول إلى غرفة العناية المركزة ممنوع.. أفاقت فاطمة من غيبوبة وفتحت عينيها مجددا إلى الدنيا، لم تستطع الحديث أو الكلام، حينما يخونها تعبيرها كانت تذرف بعض الدموع، لا أحد يدري ما كانت تحس به أو ما ترغب بقوله. كانت اللحظات عصيبة وهي في العناية المركزة، الدعاء لا ينقطع والسؤال عنها لا يتوقف، الأخبار تختلف بين فينة وأخرى، "فاطمة اليوم تحسنت، الليلة فتحت عيونها، قبيل اتحركت، وكمان تنفست طبيعي، اليوم فاطمة تعبت وانتكست".. أيادي الجميع في قلوبهم ولسانهم يقول "اللهم ألطف بها". تفاءل الجميع بعد أن تحسنت وظائفها شيئا فشيئا، وطلب الأطباء جهازا لا يتوفر في السودان، لتحسين العلاج وتسريعه، ولم تبخل الأسرة الكبيرة لفاطمة به، فأسرعت بجلبه من الخارج، وكان في انتظار تشغيله، وكان الأقربون منشغلين في حال أفاقت فاطمة سيكون أول سؤالها عن نادية، واتفق الجميع بأن لا يبلغوها برحيلها، لا بأس بشيء من الكذب حتى لا تنتكس مجددا، هكذا كان يخطط البشر، فيما كان للقدر تخطيط آخر!. لحظة الفراق مساء أمس الأول (الخميس) انتكست فاطمة مجددا بعد تحسن فائت خلال الأيام الماضية، وبعد التاسعة والنصف ليلا بقليل، جاء ملك الموت ليقبض روحها بكل هدوء، نعم، فاضت الروح الطاهرة إلى بارئها بعد أن حانت ساعة الرحيل، كان النبأ مفاجئا وصاعقا، استقبلت والدتها النبأ بصبر قوي وحمد كثير، ولكن لم تقوَ على الاحتمال، سقطت في ذلك اليوم مرتين على الأرض، الأولى قبل رحيل ابنتها والثانية بعد الرحيل.. وما إن سمعت بالخبر حتى نقلت بكرسي متحرك إلى أعلى لتلقى عليها النظرة الأخيرة، ولكن سقطت مجددا على الأرض. توافد الأهل والأصدقاء والزملاء وأسرة (السوداني) والصحفيون والاعلاميون إلى مستشفى شرق النيل، وغادروا بعد أن نقلت فاطمة في الإسعاف. حضور يليق بها جثمانها الطاهر، صلى عليه عند الثامنة والنصف صباحا، مئات رجالات ومشايخ الطرق الصوفية، ورؤساء التحرير والصحفيين والإعلاميين يتقدمهم وزير الدولة بالإعلام ياسر يوسف، والناطق باسم الشرطة اللواء/ السر أحمد عمر، وعدد من الرياضيين وأهل الفن وممثلين في منظمات المجتمع المدني وممثلين لوزارة الصحة بولاية الخرطوم وممثلين من مستشفى شرق النيل وبعض السياسيين، وزملائها بجامعة السودان والقراء المعجبين بفاطمة. وبعد التشييع لم تنقطع زيارات المعزين واتصالاتهم، فعزى الإمام الصادق المهدي في فاطمة، وكذلك جهاز الأمن والمخابرات ومركز الرؤية للدراسات، مدير قناة النيل الأزرق حسن فضل المولى خصص شريطا إخباريا ينعي فيه فاطمة، كما أدى مدير قناة الشروق محمد خير فتح الرحمن وعدد آخر واجب العزاء، وتوافد الزملاء من الوسط الصحفي، ولم تغب الصحف السياسية والاجتماعية والرياضية عن ذكر الخبر، مقدمين نعيا للفقيدة.