عبد المطلب صديق يشكو الناس من الفساد المالي وضعف الذمة وهوان المال العام على الناس ، لكنني صدمت بالامس من حادثة هي الاسوأ بمقاييس الفساد الاداري ، حادثة تقترب من الخيانة الوطنية البائنة أو خيانة الامانة ، بل هي عداء صريح مع الشعب ومع أهم فئة من فئاته الا وهم المعلمين!! ولولا أنني تيقنت من صحة الواقعة ومن المصدر الذي أوردها ومن القرائن المؤيدة لوقائعها، لما اثرتها في أي منبر من المنابر، خشية اتهام الناس في أعز ما يملكون وهو العقل والضمير والعدل والامانة والاحسان ... تفاصيل القصة تعود إلى أن مسؤولا قطريا في مكان نافذ من مواقع القرار التعليمي سألناه عن سبب عدم ذهاب لجان تعيين المدرسين بالمدارس القطرية إلى السودان أسوة بالوفود التي ذهبت إلى مصر والاردن وتونس وغيرها من البلدان؟ أجاب بالحرف الواحد "طلبنا من السودانيين في الخرطوم الاعلان في الصحف عن مواعيد المقابلات مع المعلمين المرشحين للالتحاق بالمدارس القطرية ( وربعكم رفضوا وسولنا سالفة وقالوا لازم تحصلوا على موافقة من السفارة السودانية بالدوحة وجملة من المطالب الأخرى، ) ولأن الوقت لم يعد به متسع لمثل هذه المطالبات فقد قررنا الذهاب إلى مصر والاردن وصرفنا النظر عن ارسال وفد المعاينات إلى السودان)... الواقعة ليست بحاجة إلى اثبات للقرائن التالية : أولا: لن يحتاج أي مسؤول إلى اثبات هذا الادعاء لانه عادة يومية واقعة في كل مؤسسات الدولة وان عدد المطالبات والمعاملات المرفوضة في دواوين العمل العام تفوق ما يتم الموافقة عليه بعدة أضعاف، فالموظف الحكومي يتعامل مع الناس كما لو أن المنصب العام ملك له ولأبيه ، وانه يتكرم بتلك المعاملات على الناس تفضلا ومنة واحسانا إلى الآخرين. ثانيا: معاينات المعلمين الجدد في مصر والاردن وتونس بدأت الاحد الماضي ولم يأت وفد قطري إلى الخرطوم مما يرجح فرضية العوائق التي تفضل بها المسؤولون السودانيون... ولم أسال لصدمتي إن كان هؤلاء المسؤولون المفترضون يعملون في وزارة العمل أم في الصحف أم حتى في وزارة الخارجية. ثالثا: واجهت مثل هذه العراقيل عشرات المرات ، ورأيت بأم عيني احد المعاشيين وقد بح صوته ليثبت لمسؤولي المعاشات انه حي يرزق وانه لم يمت وهم يلحون عليه أن يثبت ذلك الادعاء ( إدعاء انه حي لم يمت ). رابعا: سمعت بأذني مسؤولا يطلب من ورثة المتوفى القيام بإجراء لا يمكن التنازل عنه وهو أن يجدد المرحوم بطاقته حتى تكتمل اجراءات منحه ارضا سكنية في احدى الخطط السكنية الفئوية. أسرة المرحوم تشد شعر رأسها ، ولكن لا حياة لمن تنادي. خامسا: رأيت بأم عيني اشتباكا لفظيا بين أحد رعايا الدول الخليجية وقد زار السودان هو وزميل له واضطر إلى مغادرة الخرطوم في اليوم التالي وعندما وصل إلى بلده فاجأه ضباط الجوازات بأنه يحمل جواز زميله وان جوازه بالخرطوم وان سلطات مطار الخرطوم سمحت له بالمغادرة وهو يحمل جواز زميله. وقيل إن مسؤول العلاقات العامة السوداني استلم الجوازين لحظة وصول الضيفين وعندما هم أحدهما بالمغادرة حمل جواز الضيف الثاني إلى المطار واكمل الاجراءات ولم ينتبه هو ولا اي من المسؤولين عن هذا الخطأ الكارثي!! سادسا: يتندر أهل الأسافير واعضاء في المنظمات الدولية كانوا شهودا أن وفدا سودانيا لا تنقصه الرفعة قد ذهب إلى طاجكستان بينما المؤتمر الذي دعي له معقود في اوزبكستان واضطر الوفد إلى المغادرة يجرجر اذيال الخيبة والضياع. العراقيل التي يضعها المسؤولون أمام العروض الخارجية حقيقة لا مجال لدحضها، كيف لا والسودان كان الدولة الوحيدة من الدول المصدرة للعمالة ولم توقع اتفاقيات لتنظيم اوضاع رعاياها مع عدد من الدول، بل السودان لا يضع شروطا على الدول المخدمة لمصلحة العمالة بل يضع قيودا على العمالة نفسها . وينطبق على الحال الاداري في السودان والذي كشفته هذه الواقعة القول المأثور: لا يبلغ عدو الجاهل منه، ما يبلغه الجاهل من نفسه، والجهل لغة هو اساءة الفعل أو الفهم أو السلوك، فالجهل لا يعني عدم المعرفة بمفهومها البسيط، ويقيني أن الجهاز الاداري في السودان بلغ حد الجهل، أي حد إساءة الفهم والفعل والتفسير وبالتالي السلوك. رب قائل يقول لي من أين وصلت إلى هذه الحقيقة الدامغة وأنت في منفاك الاختياري البعيد تبعد آلاف الكيلومترات عن الخرطوم وجهازها الاداري وخدمتها المدنية وحكومتها الرشيدة؟ الآن فقط ايقنت أن الاموال التي يصرفها الجهاز الحكومي على منسوبيه مال حرام وان الانتماء إلى الوزارات الحكومية حرام ، بل توصلت إلى قناعة بضرورة تأسيس حزب جديد هو حزب (الجهاز الحكومي حرام) والخدمة المدنية نفسها عبارة عن بوكو حرام ،أي انها مستوردة من المستعمر وتعمل ضد مصلحة الأمة ومصلحة الشعب. وحزبنا هذا لا علاقة له ببوكو حرام الارهابية المتخلفة في نيجيريا وان كان يؤمن ببعض مبادئها القائمة على أن المستعمر له ثقافة معادية لعامة الشعب. وبوكو حرام النيجيرية كانت حركة مثل غيرها من الحركات لكنها لهول ما رأت من تعنت الخدمة المدنية والمؤسسات التعليمية والصحية الرسمية توصلت إلى قناعة تامة بأن كل هذه المؤسسات حرام في حرام ، وانها في الاصل آتية من الغرب الكنسي لوضع العراقيل امام الأمة النيجيرية المسلمة. وحتى لا يخاف خائف ولا يرتعب مرعوب أقول إن تلاقي أفكار حزبنا الهمام المرتقب تكوينه (إن نجا من عراقيل الحكومة السمها فاير) ، مع بوكو حرام لا يعني أننا صدى له نأتمر بأمره او نتبعه في طريقه المضل المتخلف.بل تبعيتنا هذه جاءت لان الحكمة ضالة المؤمن، فإننا نأخذ منه ما ينفعنا، ونترك الكثير الذي يضرنا ويضلنا ويلقي بنا إلى دروب المهالك والضياع. كنت منذ سنوات اتساءل عن سبب تراجع مساهمة السودانيين المغتربين في زيادة مدخرات البلد من النقد الاجنبي ، هذه الواقعة تشير بوضوح إلى أن السبب واضح ومعروف ولا يحتاج إلى شرح ، فما دام المسؤولون يتصرفون بهذه الطريقة فما الذي يدفع المواطن البسيط إلى التضحية وبذل الغالي والنفيس من اجل اعلاء شأن الوطن.