ثلاثية الألم.. الجزء الثاني تسليم طفل حديث الولادة وأسئلة العيون والدموع بينما كنت أتجول داخل دار (الطفل اليتيم) بحي (المايقوما) بالخرطوم عشت لحظة تسليم طفل حديث الولادة إلى الدار، حيث جاءت تحمله بين ذراعيها جدته لأمه. طفل بريء لم يتجاوز عمره بضع ساعات، لونه شديد الاحمرار وبقايا دم ما بعد الولادة تبلل شعره الناعم بعد أن جف الكثير منه بين خصلات شعره. (صرته) مربوطة على عجل كعجالة أهله الذين أسرعوا بجلبه إلى الدار ترافقهم شرطة حماية الأسرة والطفل. كان الصغير يبكي و(جدته) تسلمه في لفافة إلى موظفة قسم الاستلام وكأني بها تقول: هكذا أغسل عار ابنتي. سهير عبد الرحيم هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته ظل الصغير يصرخ ويصرخ حتى فطر بكاؤه قلوبنا، وقفت بجانبه وأنا أنظر إلى شفتيه الجافتين من كثرة الصراخ والعطش، فهو رغم مرور ثلاث ساعات على ولادته إلا أنه لم يذق حليباً حتى اللحظة. *(أم) الطفل في العشرين من عمرها وتدرس في واحدة من كبريات الجامعات وقد كانت في تلك الأثناء محتجزة لدى قسم الولادة بمستشفى أم درمان. *عيون الطفل: لماذا أخذوني من حضن أمي؟ ولماذا لا أكون مع أبي مثل كل العصافير؟ * لم يذهب (الوالدان) إلى السوق لاختيار مهده وترتيب فرشه وحجز مكان دافئ له وسط الأسرة. * كانت جدة الطفل قلقة ومتوترة وتائهة النظرات لا تقوى حتى على الوقوف كان يتطلع حوله وعيونه نصف مغلقة ويتساءل: من هؤلاء؟ لماذا أخذوه من حضن والدته؟ لماذا لا يبقى برفقتها ويحيا حياةً طبيعية يرضع من ثدييها، ويتدفأ بصدرها؟ لماذا جاءوا به إلى هنا؟ أجل يا صغيري إنها الحقيقة المرة، فأنت تدفع ثمن خطأ ارتكبه أبوك وأمك في لحظة متعة حرام، وكما بلغت بهم (النشوة) ذروتها حينها بلغت بهم (النذالة) قمّتها الآن، فمزقوا هويتك ولفظوك إلى الشارع لتواجه جحيم الحياة ووصمة مجتمع لا يرحم. ظلموك حين غرسوك بذرةً في الخفاء بعيداً عن أشعة الشمس وضوء النهار وعيون الناس، بعيداً عن ورقة لا يتجاوز طولها سنتيمترات تسمى (قسيمة زواج) بخلوا عليك ب(ورقة) واعتبروك (نطفة) من الألم و(علقة) من الخزي و(مضغة) من العار. ظلموك مجدداً في حملك دونما رعاية طبية ونفسية حيث لم تأتِ والدتك في زيارات منتظمة إلى طبيب النساء للتأكد من وضعية جلوسك ونومك داخل رحمها فلا أحد يكترث أصلاً لصحتك فأنت شخص غير مرغوب فيه وجميع أهلك يتمنّون موتك. لم تقم والدتك بإعداد حقيبة الولادة الخاصة بك وتضع فيها (الحفاضات) والملابس وزيوت الترطيب الآمنة على بشرتك الحساسة، ولم تشارك (جدتك) بملابس قطنية تحيكها بنفسها تغزلها بخيوط الفرح وتنسجها ببشريات قدومك السعيد. لم يذهب (والداك) عدة مرات إلى السوق لاختيار مهدك وترتيب فرشك وحجز مكان دافئ لك وسط الأسرة. وفي يوم ولادتك لم تأتِ أمك مخضبة يديها وقدميها (بالحناء) وهي تتوسد ذراع والدك في طريقها إلى غرفة الولادة.. تباهي بثوبها الجديد، كما تباهي ببطنها المنتفخ، وأمومتها المنتظرة. وعند ولادتك لم تحصل على حضن دافئ من أمك وقبلة فوق جبينك وحليب ما بعد الولادة، ولم تعش إحساس التواصل الروحي عقب الولادة بين الأم وطفلها، بل لم يأتِ (والدك) متهللاً وباشاً ليحملك بين ذراعيه ويؤذن في أذنيك الله أكبر... الله أكبر.... أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. كما لم يسارع والدك إلى تلفونه ليهاتف الأهل والأصدقاء ويبعث رسائل قدومك الميمون، لم توزع الحلوى في ردهات المستشفى كما لم توزع الابتسامات على الطاقم المشارك في ولادتك، نعم لا حلوى ولا ابتسامات ولا (حافز) يدس في يد أحدهم ثمناً لحلاوة الخبر السعيد. نعم يا صغيري هكذا ولدت ولم يفرح أحد لولادتك على الإطلاق، لم تنطلق الزغاريد، ولم تنحر الذبائح، ولم تنصب الخيام أو تُقَم الولائم. وتأكد يا صغيري أن حياتك ستكون سلسلة من الظلمات لأنك ستخرج لمجتمع قاسٍ يمد لسانه لك، ويصبغ عليك كل الصفات الذميمة والكلمات البغيضة وستلازمك أسماء سيّئة وستُنعت بألفاظ قبيحة وستظل تدفع ثمن أخطاء الآخرين. في تلك اللحظات، كان بكاء الصغير يزداد أكثر فأكثر حتى أحسسته قد قرأ أفكاري، وكنت حينها أنظر إليه وأنا أقف بجانب منضدة وضع عليها بينما كانت مسؤولة الرعاية الطبية في الدار تعيد التأكد من ربط (صرته) بأمان. أفضل حالاً في تلك الأثناء كانت مسؤولة قسم (الاستلام) تمسك بالقلم لتعبئ استمارة دخوله الدار أو دخوله الحياة؛ فهو في كل الأحوال أحسن حظاً من أطفال آخرين حديثي الولادة وُجدوا في مكب النفايات أو سقطوا من إحدى جوالات القمامة بينما كان عمال النظافة يقذفون بها في عربة النفايات، أو وُجدوا على قارعة الطريق بينما تناولت الكلاب الضالة جزءاً منهم كوجبة عشاء بينما اكتفى النمل بالمبيت داخل آذانهم. أو كالذي قذفت به أمه في مرحاض بلدي مع قاذورات البشر وسكبت عليه في تلك البئر العميقة جوالاً من التراب حتى يموت اختناقاً تحت أنقاض التراب وتكون بذلك قد تخلصت من عار ظنته لباساً ونسيت قتل الروح التي حرم الله. ولكن أراد الله أن يسوي التراب على أحد جوانب البئر ويظل الطفل حياً حتى يخرجه رجال الدفاع المدني بعد أن قضى أكثر من عشر ساعات في قاع بئر قضاء الحاجة (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ). الجدة والخال كانت موظفة قسم الاستلام تنتزع في معلومات الاستمارة انتزاعاً من أسرة الفتاة؛ فالجدة امرأة خمسينية العمر سمراء البشرة بدا عليها الإرهاق والتعب، كانت شاحبة وشفاهها جافة تكشف عن أنها لم تذق طعاماً منذ فترة طويلة أما عيونها فقد اكتست بطبقة سميكة من السهر. كانت قلقة ومتوترة ترتجف ألماً تائهة النظرات لا تقوى على الوقوف، بدا من مظهرها العام أنها من أسرة بسيطة تقطن إحدى ولايات السودان. أما ابنها شقيق الفتاة فقد كان شاباً في أواخر العقد الثاني من العمر، يرتدي قميص كاروهات أحمر مخطط بالأسود فيما كان كم القميص القصير يكشف عن عضلات مفتولة. ظل الشاب يرتكز بيديه المعروقتين على المنضدة وهو نصف واقف وكانت ثلاثة من (أزرار) قميصه العلوية مفتوحة ظَهَر من تحتها صدره وهو يعلو ويهبط في تسارع يشي بغضب عارم. كان مقهوراً ومحمرّ العينين يتصبب عرقاً، أحسسته شاباً قوياً، وخشيت من قلبي على بطشه بشقيقته التي حملت خارج إطار الزوجية. أم الطفل تبلغ (أم) الطفل من العمر عشرين عاماً، وتدرس بالسنة الأولى في واحدة من كبريات الجامعات السودانية، وقد كانت في تلك الأثناء محتجزة لدى قسم الولادة بمستشفى أم درمان، في ما كانت الشرطة تواصل معها التحريات. تذكرت في تلك اللحظات حديث إحدى الخبيرات لي حينما قالت إن من يحملن خارج إطار الزوجية في العادة هن غير متمرسات، وفي الأعمار ما بين 13 و20 سنة، وعادة ما يحملن من شخص تربطهن به علاقة عاطفية أو علاقة حب عميقة. أما المتمرسات فلا يخطئن بالوقوع في مثل هكذا أمر، لأن الحمل يعوق عملهن ومشروعهن اللائي يسهرن عليه؛ فالحمل والوحم كلها أمور تعطل عملهن، لذلك يحتطن بالموانع والحبوب والواحدة منهن تحمل في حقيبتها (الواقي) الذكري وتقدمه لضيف الليلة.