في طابورهم الصباحي قبل نشيد العلم، ينشد «يبكي» المشردون بدار البشائر في صمت مع الشاعر محمد عبد الحليم عبدالله وهو يرثي الشيخ الداعية مبارك قسم الله: كيف البكاء على مبارك حملوك مئذنة تعانق قمةً فوق السحاب حملوك مئذنةً تلوح وحيدةً بين القباب غرسوك يا شيخي الجليل شتلوك في قلب التراب أكرم به هذا التراب وآهِ من هذا التراب! قد كنتَ فينا مصحفاً تمشي بآيات حسان قد كنتَ فينا مسجداً يشدو مع الفجر الأذان قد كنتَ مسبحة تذكِّرنا بها كيف الصلاةُ على الرسول قد كنتَ سيفاً مصلتاً ضد التسيُّب والخمول يا فارساً ملك الشجاعة حين تحتار العقول إن العزائم في أفول والمجد بعدك في أفول كيف البكاء على مبارك وهو موفور الصفات عجزت حروفي جملة في وصفه صارت موات قد كنت للإسلام قلباً نابضاً بالمكرمات قد كنت في الجُلى شموخاً كالجبال الراسيات علّمتنا معنى الثبات علّمتنا معنى الثبات من لليتيم إذا اشتكى في ظلمة الليل البهيم! من للأرامل والحيارى في دهاليز الهموم؟ من كان غيرك بالمآسي المحدقات بهم عليم؟ النجم أضحى كاسفاً بالحزن منطفئ البريق فقد الحديث معبراً بالمنطق الجزل الأنيق أترى العروبة بعد فقدك هل تحظي بالعوض والقارة السمراء كنت طبيبها تشفي العليل من المرض فهل ستحظى بالعوض يأيها الشيخ المجاهد يا منبع الزهد النبيل أوَ ليس قد علمتنا بالحق جيلاً بعد جيل! كيف نفعل إن تأملنا وحارَ بنا الدليل؟ وكيف بالإيمان نزداد وبالصبر الجميل وها نحن نعمل بالوصية أيُّها الشيخ الجليل المشردون تلك الفئة التي عانت برد الشارع وحره، وذاقت قسوته وجفاءه.. لم تعرف معنى أن يكون للإنسان حضنٌ دافئٌ، ولم تشعر بأمان البيت ونعمة الاستقرار...لا يخفي الكثير من هؤلاء الذين تحولت حياتهم نحو الخط المستقيم عرفانهم وإجلالهم للمغفور له الشيخ مبارك قسم الله... فدار البشائر لرعاية الفتيات المشردات بأمدرمان كانت معهداً لتعليم اللغة العربية بمبادرة من الشيخ مبارك قسم الله تبعت للجمعية الإفريقية لرعاية الطفولة والأمومة. في عام 1978م أصبحت داراً لاستقبال الأطفال المشردين «بنات وبنين». وفي عام 1994تم توزيعهم على الدور بالتعاون مع اليونيسيف ووزارة التخطيط الاجتماعي، في عام 1998م خصصت الدار للفتيات وتم تحويل الأولاد لمركز الرشاد سوبا. وهدف المرحوم مبارك قسم الله من إنشاء دور إيواء المشردين، توفير الغذاء والكساء والعلاج والرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية لهم، غرس القيم والعادات والتقاليد السمحة في نفوسهم، بالإضافة إلى تدريبهم وإعادة تأهيلهم أكاديمياً وحرفياً. فالمرحوم مبارك قسم الله طيّب الله ثراه من المثابرين والمخلصين في العمل الطوعي. وله يد طولى في العمل وسط الشرائح المستضعفة، الأيتام والنازحين والمتشردين وصولاته التحويلية في الأدب الاجتماعي. فاتجه المرحوم في تناوله لهذه القضايا منحى وسطاً بين المثالية والأخلاقية وكان ديدنه الحماس للقضاء على قضية المتشردين «استوصوا بالمتشردين ففيهم بذرة الخير». كان يعالج المشكل الاجتماعية لكثير من الأسر والأطفال وما يصاحبهم من أزمات يهتز لها كيان الأسرة. وكان يتفقد التجمعات العشوائية من أسر الأطفال ويعيش مآسيهم في الحصول على الماء والكلأ وتشهد أمبدة وزقلونة على مواقفه الكريمة. كان من المبادرين لحل مشكلة التشرد عبر بوابة الجمعية الإفريقية لرعاية الأمومة والطفولة، وتنازع مع كثير من المؤسسات المختلفة في أماكن إيواء وتأهيل المتشردين وكان له السبق في اختيار معهد ابن عمر لتعليم اللغة العربية بالثورة أمدرمان ليكون داراً لتأهيل ورعاية المتشردين واختار اسم البشائر عام 1987 حيث أشرف على المشروع بنفسه بتمويل من دولة «الكويت». وتمت على يده رعاية وتأهيل اجتماعي ونفسي وأكاديمي لحوالى «90» طفلة حيث أشرف على تخريجهن وإخراجهن إلى أسرهن على مستوى الولايات، فكانت للمرحوم ملكة فنية في التعامل مع هذه الشريحة وتأثير وجاذبية في المخاطبة والتوجيه ويغرس القيم والخصال الحميدة، وكم يشق عليه أن يرى منهم من تسوء أخلاقه ولكن لا يدخله اليأس من إصلاحهم يوماً، وسرعان ما يتدارس مشكلاتهم وسلوكياتهم بالروح الطيبة مستعيناً بعمله التربوي تعلوه ابتسامة فهو صديق الصغار ومرشد لهم للخير ويداعبهم في الميدان فيعرفون منه أدب الملاعب ويناظرهم في الجمعيات فيتعلمون منه أدب الحديث فيعرفونه في مناطق التدريب المهني والحرفي ورشة دان فوديو للتجارة أمدرمان معهد القرش الصناعي المنطقة الصناعية أمدرمان. وتجربة المغفور له مبارك قسم الله في دار المتشردين بشائر والتي أهلت الكثيرين منهم كتجربة نموذجية بل أول تجربة إسلامية منافسة للتجربة الكنسية التي كانت تخطف هؤلاء الأطفال وتنصِّرهم ولكن مبارك بجهوده الشخصية أصبح نداً عنيداً أفرز توجها فريدًا لا تزال آثاره قائمة حتى اليوم. رحم الله الداعية المجاهد الشيخ المبارك، فقد توفى صباح السبت 26 ذي الحجة 1417 هجرية في الحارة الثانية بمدينة الثورة وتم تشييعه ودفن في مقابر البكري وحضر مراسم الدفن كبار رجال الدولة وجموع غفيرة من مواطني المدن الثلاث وظل مئات الآلاف يحضرون إلى سرادق مأتمه في ذلك الميدان الفسيح رغم أنه كان من عامة الناس والبسطاء والذين يعملون لمصلحة الفقراء والمساكين، وكل شخص من هؤلاء الناس يحدثك عن قصة أو موقف عن المرحوم مبارك تدل على معاملة حسنة أو مساعدة أوعطف.