د.أمين حسن عمر يحدث للمرة الثانية على التتالي أعزم على استكمال مقالات سلسلة (العلاقة الإسلامية.. الجدل القديم) ثم يطرأ طارئ يحفزني إلى التأجيل لكيلا يفوتني موضوع الساعة. ومسألة الساعة التي استفزت مِنِّي اليراع هذه المرة قولٌ منسوب لوزارة التربية بولاية الخرطوم يقول: إن إيقاف جلد الأطفال أدى إلى تطاول التلاميذ على أساتذتهم . وقيل إنها كشفت عن استغلال بعض الأسر لقانون الأسرة والطفل ضد المعلمين الذين يعاقبون أبناء تلكم الأسر. وقيل أيضاً إن الوزارة أعلنت عن عزمها على مراجعة اللائحة لإحداث التوازن المطلوب (الذي يسمح بجلد الأطفال). ولقد حدثتني نفسي ولم تك دائماً صادقة ولا حاذقة أن أوان جلد الأطفال سبيل للتربية قد فات وولى زمانه ولكن يبدو أن ذلك لم يكن إلا وهماً خادعاً أو أمنية فانية. الضرب وسيلة للتربية: لا نملك إلا التجلة والاحترام لأساتذتنا الكرام. بيد أننا ونحن لا نبرئ أنفسنا من الخطأ أوالخطيئة لا نبرؤهم من الأخطاء والخطايا (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي). ومن الأخطاء الفادحة التي نجمت عنها عقابيل تتعسر معالجة آثارها النفسية والاجتماعية استخدام الضرب القاسي وسيلة للتربية. ولئلا لا نشتط في الملامة على معلمينا في الزمن الغابر، فإن تلك كانت شيمة معروفة ووسيلة مشروعة في غالب المعروف والمنشور والمعمول به من الثقافة التربوية السائدة في بلادنا وغالب أرجاء العالم. وإن لم تكن مأذونة في الشرع الإسلامي كما سوف نوضح لاحقاً إلا في حالات النشوز والتمرد، وبشروط قل أن تتوفر إلا في حالاتٍ محسوبة معدودة. وهي عادة كانت الأكثر انتشاراً في العالم الثالث لأنها عادة متصلة بالتخلف الفكري والحضاري. فالبلاد الناهضة إنما نهضت بنهوض إنسانها وباكتسابه القوة والقدرة والثقة بالنفس. وليس ثمة شيء يحط بذلك مثل التربية القاسية التي لحمتها الضرب وسداها القول الجارح الحاط بالهمة وبالرغبة في التعلم. وأسوأ ما يسوء الإنسان أن يبحث البعض عن شرعية هذه القسوة في شريعة الرحمة السمحاء. تلكم الشريعة التي أعلت من كرامة الإنسان حتى سجدت له الملائكة بأمر الله رب العالمين. فجوهر إنسانية الإنسان هي كرامته التي تجرحها الإهانة ويزري بها الإذلال. فعزة الإنسان هي جوهرة هويته. وإنما سُخر الملائكة ينقلون له رسائل السماء ويرصدون أعماله ويستغفرون له. وكل كائنات السموات والأرض سُخرت له لينمي قدراته ومواهبه ويرتقي بها ليرتقي بالكائنات من حوله. فقد أعطى ما لم يعط لغيره العقل المتطور والإرادة الحرة. وارتقاء الإنسان جسدياً ونفسياً وروحياً إنما يحدث له بارادة كامنة فيه، تُحفز خلايا جسده لكي تنمو وتتعافى وتتقوى. وتحفز ملكات عقله لكي تتطور وتترقى في مدارج العلم والعرفان، وتحفز إرادته لكي تتسامى بمرادها فوق توافه الهمم وصغائر الأشياء ولتسمو خلقياً وروحياً. وإنما التربية هي فعل الآخرين من أولى الحكمة والرشد لإعانة الإنسان صغيراً على النمو والارتقاء، والتربية من مفردة (ربَّى) ومعناها الزيادة المتواصلة، وهي أيضاً تطلق على الإنعام والألطاف والرعاية. ومنها معنى الرب وهو الراعي المنعم اللطيف، ومعنى رب الشيء إنما هو المرء أو المرأة الساهرة على صلاح ذلك الشيء ونموه وارتقائه. فكيف يتصور المتصور أن إهانة الطفل وإذلاله والحط من كرامته سوف يكون درجاً للترقي إلى كرائم الأخلاق وحسن الشمائل وبناء القدرات والملكات!! محمد صلى الله عليه وسلم النبي الرحيم والمربي الأعظم الذي هو الرسول صلى الله عليه وسلم والذي ربى الكبار قبل الصغار لم يُؤثر عنه أنه ضرب طفلاً قط ولا أصابه بجارحة من لفظ أو قول وهو أسوتنا وقدوتنا وسيرته ومسيرته وعمله هو البيان بالعمل للصلاح والفلاح والترقي إلى أسمى مقامات الإنسانية. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حنوناً رؤوفاً بالأطفال وكان أشد رأفة ورحمة بالبنات. وقد روى الترمذي وأبو داؤود (أن فاطمة الزهراء كانت إذا دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه). وروى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي حاملاً أمامه ابنة ابنته زينب على عتقه. وهو القائل في وصيته لأصحابه عن تربية الأبناء (لاعبه سبعاً وأدبه سبعاً وصاحبه سبعاً) بيد أن أناساً من جفاة الطباع غلاظ الأكباد قساة القلوب قد فسروا الأدب بالضرب وما لهم إلى ذلك من سبيل. انظر كيف يعامل ويخاطب الفتيان. فقد كان معاذ بن جبل تابعاً حدث السن يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعنفه بقول في يوم من الأيام أو يضربه وعنه رضي الله عنه أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: إني لأحبك يا معاذ. فقلت: وإني لأحبك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تدع أن تقول في كل صلاة رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. يقول معاذ فما أدرى كيف فعلت في هذه الكلمة فعل السحر فقلت: إذا أحبك رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل بعد هذه المرتبة من مرتبة. فشتان من يربي الأبناء بالمحبة ومن يربيهم بالسوط. فلم يتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سوطاً قط ولا للدابة فقد كان نهجه الرحمة والرفق. وما كان أمرٌ من الأمور يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل القسوة والضرب وجفاء الطبع. وقد أخبر أصحابه عندما علم أن بعضهم يضربون نساءهم (وليسوا أولئك خياركم) وحكى ابن مسعود عن غضب النبي صلى الله عليه وسلم عندما رآه يضرب غلاماً له فقال (كنت أضرب غلاماً لي بالسوط فسمعت صوتاً من خلفي يقول: اعلم يا ابن مسعود.. اعلم يا ابن مسعود.. اعلم يا ابن مسعود، فلم أفهم الصوت من الغضب. فلما دنا منى إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا هو يقول (اعلم يا ابن مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)، فقلت: يا رسول الله هو حر لوجه الله فقال صلى الله عليه وسلم ما لم تفعل للفحتك النار أو مستك النار (فقلت والذي بعتك بالحق لا أضرب عبداً بعده أبداً). فكيف تضربون أبناء الناس يا هؤلاء وتحسبون أنكم تحسنون صنعاً؟ وهل يسأل الضارب نفسه وهو المماري المكابر هل كان يضرب الطفل عندما كان يضربه وهو رابط الجأش هادئ الأعصاب ممتلك لغضبه متمكن من كبت سخطه؟ فإن لم يكن ذلك كذلك فهو ضرب في مقام الانتقام لا مقام التربية. ويحتج بعض هؤلاء على شرعية الضرب رغم متواتر الأخبار عن كراهية الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الأسلوب الذي يضاد الرحمة ويناقض الرأفة والعناية من كل وجه ويتعللون ببعض أقوال وأحاديث وردت في شأن أصحاب المعاندة والشذوذ والنشوز. ثم وُضعت لها شروط تُحيلها إلى مجرد رمز لعدم الرضا الرفض للسلوك موضع النقد وإنما ذلك يكون موضوع لحلقة قادمة من هذا المقال بإذن الله.