من منابر للمجانين.. إلى إعلانات المستثمرين..!! الخرطوم: فاطمة خوجلي (1) ليست المرة الأولى التي أمر فيها بالقرب من صينية (الزعيم الأزهري)...تلك الصينية التي تقع في أمدرمان العريقة التي تحمل في طياتها دلالات عميقة لحقبة تاريخية...وتؤرخ لأقدم أحداثها...والقنطرة التي عبر من خلالها كثيرون إلى عالم الفن والجمال والتجارة والمال من أوسع الأبواب، وكذلك ولدّت أسماء أدبية كبيرة أصبحت فيما بعد تقود عالم الفن..وليست المرة الأولى أيضاً التي أذهب فيها للخرطوم وأمر فيها بصينية (كبري الحرية)... ولكنني ذهبت إليها هذه المرة باحثة" عن تاريخها، وقارئة لكل خطوط طولها وعرضها، وباحثة عما بقي من ملامحها القديمة، وحضورها ،وكيف هي صورتها الآن؟! (2) لصواني العاصمة رمزيتها التاريخية العريقة، إضافة إلى إرتباطها في أذهاننا بأنها مجمع (للمتسولين) الذين لم يعرفوا من براءة الطفولة إلا الإسم... وحرمتهم الظروف من وسام التعليم.. يمتهنون الرجاء في المنعطفات... يتقطرون عرقا" وسط الصينية التي سار فيها نصف مجانين العاصمة ولذا إرتبطت أيضا" بأنها منابر (للمجانين) الذين يلعبون دور الشرطي الذي ينظم الحركة بصفارته ويعطي تأشيرة المرور عن طريق التلويح بالعصا التي يحملها بيده... أو تقمص بعض الشخصيات الفنية الدرامية منها والغنائية فكانت بذلك مسرحا" على الهواء.. وكذلك تقمص الشخصيات السياسية والدبلوماسية فكانت بذلك (منابر") لمخاطبة الشعب...ولايفوتنا أن نقول أنها كانت ملاذا" (لمشرد) يحاول البحث عن حصته بين زملائه أثناء جريانهم المتكرر...وربما انها جمعت (اللصوص) للتدابر والتخطيط والبرمجة حول قصة نهب معلن. (4) فيما نجد أن السبب الرئيسي لإنشاء هذه (الصواني) هو تنظيم حركة المرور وتحديد المسارات لجميع مستخدمي الطرقات لتسهيل الحركة وكذلك للحد من الحوادث المرورية، إلا أن هذه الصواني لها أهمية خاصة بإعتبارها أداةً رئيسيةً من أدوات (الوصف)...وهذه النقطة تحديدا" إستحضرتني عندما أراد أحدهم تحديد معالم الطريق الذي أردت أن أسلكه.. فقال لي: (شكلك رايحة... اتجهي شمالاً من صينية القندول حتلاقي المبني طوالي قدامك)... وكلمة (سابقا") إستوقفتني قليلا" لماذا أزيلت بعض هذه الصواني مثل (القندول)..وصينية كبري (المك نمر) من قبل هيئة ترقية السلوك الحضري بولاية الخرطوم... هل هي لحكمة مرورية الهدف منها توحيد إتجاه الشارع.. أم تمهيدا" لشكل إعلاني جديد...فالمتتبع لمسألة المشاريع التنموية التي تنفذ في الصواني أو المزمع تنفيذها في المستقبل يلاحظ تردد أسماء عدة شركات بعينها في كافة المسائل الإعلانية المتمثلة في (البوسترات) إضافة إلى (المجسمات)، وهذه الشركات هي شركات مياه معدنية وغازية. (5) ولكل صينية نشاط يختلف عن الآخر فيما مضى من زمن، أما اليوم فقد اختلط (الحابل بالنابل) ولم تعد لهذه الصواني سمتها القديمة، وتحولت معظمها للوحة إعلانية... هذا هو مختصر الحكاية وملخص الصورة... تنمو اللافتات في الصواني أكثر من أوراق الأشجار وجذوع النخيل... ويملأ الخطاطون ما بجعبتهم من أفكار بتحريض من المعلنين... ونحن لسنا ضد تأهيل المعالم الحضارية والتراثية في المواقع المختلفة ...ولكن عند تتابعك لحلقات مسلسل التغيير الذي طرأ على صواني العاصمة تلحظ تمرحلها من لوحات (تاريخية) و(إرشادية) إلى (إعلانية) ولكن تبقى الصورة (التاريخية) هي الأعرق والأجمل.