هو الكاتب الروسي تورجنيف، الذي تجلى نبوغه تحت سماء فرنسا والذي قضى نحبه في بوجيفال في 1883 وقد استهدفه الأستاذ حبيب جاماتي برسم لوحة عن جزئية من حياته وهي الناحية الغرامية، التي كان فيها ذلك الأديب الروسي العظيم انموذجا للعاشق الصامت في حبه العذري . يقول عنه الكاتب الفرنسي موروا ان تورجنيف يقطع شجيرات صغيرة بيضاء لكي يشيد بها مساكن كبيرة، وما يعنيه الكاتب هو أن الأديب الروسي يعالج الحوادث التافهة فيجعل منها وقائع رائعة، ويتناول موضوعا بسيطا فيجعل منه قصة طريفة، وهذا ما يمتاز به ذلك القصاص الروسي الماهر، ويتبين كذلك ما اختلج في صدر الكاتب من انواع الشعور على اختلافها وتباينها، فقد ساهم بقسط وافر في الزخيرة الادبية التي تركها الجيل الماضي وسوف تظل أقاصيصه وقصصه دررا في جيد الأدب العالمي، ما بقيت في قلوب القراء عواطف تحركها بساطة التعبير وسمو المعاني والروح الشاعرة الحساسة. يسترسل الكاتب جاماتي في وصف الأديب الروسي ويقول كان تورجنيف أول أديب روسي هجر بلاده واستوطن باريس وهي في أوج مجدها، كما كان أول من حمل أدباء فرنسا على الاهتمام بزملائهم الروس، فنقل ما جادت به أقلامهم وقرائحهم إلى الفرنسية في انتظار منه لليوم الذي يقدم فيه الأدباء الروس على اتخاذ اللغة الفرنسية أداة لنشر آرائهم وأفكارهم، ويرى الكاتب أن الأديب الروسي يعد فاتح الطريق أمام تولستوي ودوستوفسكي وغيرهما من أدباء روسيا ومفكريها وإذا كانوا قد وجدو السبيل ممهدا، وباب الذيوع والشهرة مفتوحا امامهم على مصراعيه، فإنهم مدينون بذلك لتورجنيف وحده، الذي اساء الى نفسه كما يرى الكاتب لأن شهرة تولستوي ودوستوفسكي مالبثت ان اكتسحت شهرته، فراح ذلك الأديب النبيل ضحية لخدمة أسداها إلى مواطنيه. يذكر الكاتب أن علاقة الأديب الروسي مع أدباء عصره لم تتصف بالصفاء والوئام من حيث إن دوستوفسكي كان يكرهه كرها شديدا ولا يكتمه ذلك بل يحمل عليه حملة شعواء، كما كان تولستوي أيضا يحقد عليه ويسعى إلى إلحاق الضرر المادي والأدبي به كلما وجد إلى ذلك سبيلا، ولما استشعر تورجنيف تمادي زميله تولستوي في ذلك، اضطر أن يدعوه للمبارزة مرتين متواليتين، ولو لم يتدخل زملاؤهما من الفرنسيين لإصلاح ذات البين لوقعت المبارزة . عمد المؤلف جاماتي الى إبراز روح التسامح التي يتحلى بها الأديب الروسي تورجنيف حين أشار إلى أن الروس كانوا يضمرون له الشر ويدسون له في الخفاء أو يحاربونه علنا إلا أن تورجنيف الطيب القلب لم يفكر في إلحاق الأذى بأحد، فلم يحقد عليهم، ولم يقابل الدس بالدس والشر بالشر وكان دائما يقول: "لقد غفر السيد المسيح لأعدائه وجلاديه وهو معلق على الصليب، أفلا يجدر بي أنا الأديب التعس الشقي أن أغفر لأعدائي وجلاديي؟" ورغم ذلك الذي حدث له كان يقول عن تولستوي " إنه كاتب هذا العصر ونبي القومية الروسية، فاحترامه واجب علي، ان لم يكن حبا له فحبا لروسيا التي اعبدها" ويقول عن دوستوفسكي:" إنه عدوي ولا يحبني ولكنه كاتب عظيم ومفكر بليغ وأديب بائس، وقد يفطن يوما من الأيام الى خطئه فلننتظر " في جزئية اخرى نجد الكاتب يتطرق لناحية اخرى من حياة الاديب الروسي تورجنيف وهي الناحية الغرامية، حيث كان عاشقا لكنه من اولئك العشاق الصامتين، الذين لا أمل لهم في وصال لأنهم يعلمون قبل الانصراف الى غرامهم انه غرام مقيم لا عزاء فيه للجسم البشري ولا نصيب فيه للحواس. غرام تلعب فيه العاطفة البريئة دورها، ويذوب فيه القلب ذوبانا يؤدي عاجلا او آجلا الى ذوبان الجسم ايضا، فيذهب العاشق الصامت شهيد ذلك الحب العذري الذي يغذي الروح ويقتل الجسد. قد وجد تورجنيف في غرامه الصامت وطول حياته غذاء وسعادة لروحه السامية، وموتا بطيئا، وشقاء لا حد له لجسده الفاني، هذا وفي سنة 1843 شاءت الاقدار ان تدفع امرأة فاتنة ساحرة في طريق الأديب الشاب، ومنذ ذلك اليوم كتب لتورجنيف في صفحات القدر المصير الذي سير حياته الى ان وافاه الأجل بعد أربعين سنة من ذلك اليوم . هي مدام فياردو مغنية الاوبرا الايطالية بصوتها الذي ظل العالم تحت تأثير سحره عشرات السنين ، رآها الاديب الروسي وكانت اول نظرة منها انقضاض الصاعقة كما ذكر الكاتب عن الفرنسيين، اعجب بها وقال لمن كان بينهما للتعارف لقد طوقت عنقي بفضلك، وخدمتني خدمة عظيمة، ولكنك أتيت عملا سوف يكون له أبعد أثر في حياتي " إلا أن مدام فياردو كانت متزوجة، وكانت تحب زوجها وتخلص له الحب وتحترمه وكان مديرا للاوبرا الايطالية في ذات الوقت، وهنا أدرك الأديب المسكين أن حبه سيبقى عقيما، وأن لا أمل له في الوصال مع امرأة هذا شأنها. لكنه مضى في حبه وهو عالم أنه سيكون حبا صامتا راضيا، وأنه لن يخرج عن الدائرة الروحية وعن حدود العاطفة البريئة. يذكر الكاتب حبيب جاماتي أن صديقه الأديب أصبح صديقا لأسرة فياردو . وعزم على اللحاق بالمرأة الفاتنة التي أحبها الى حيث تذهب . ولم يفارقها الى اليوم الذي فارقته فيه الحياة . ولم يغفل ذكر ما قاله الاديب الروسي لأحد اصدقائه :"لو خيرت بين أمرين: أن أصبح أعظم عبقري في العالم على شرط ان احرم من رؤية مدام فياردو وزوجها، أو أن أصبح بوابا أمام بيتها في بقعة نائية في أطراف العالم، لاخترت الأمر الثاني، ولآثرت أن أكون بوابا على ان اكون عبقريا" هذا وقد اورد الكاتب ما كتب تورجنيف لمحبوبته ذات مرة قائلا "في استطاعتي ان أؤكد لك أن العاطقة التي أشعر بها نحوك، عاطفة لم يعرفها العالم الى الآن، فهي عاطفة لم يشعر ولن يشعر أحد بمثلها " . دا حب شنو دا؟ إلى لقاء