بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، اتمثل بقول الشريف الرضي: رثيتك كي اسلوك فازددت لوعة فكأن المراثي لا تحد المرازيا، ففي مثل هذا اليوم 1998/7/21م، انقطعت الصلة بين ذلك الجسد الناحل وتلك الروح الهائمة التي اعتادت ان تغيب عن مستقرها في سبحات إيمانية طويلة واشواق متطامنة ترد مواطن النور وتغشي وادي عبقر وتعود غانمة ظافرة على حين تعود الاخريات بالزاد القليل والحصاد القحل.. كان ذلك اليوم يوم ميتتي قبل مماتي واختلاج الضوء في مصباحي.. فقد اسلمت فيه والدتي "فافا" روحها الطاهرة الى بارئها بعد أن مشت بها على متون الحياة ورقة الحال ورتابة العيش ثمانين حولا. ما لانت ولا استكانت ولا ضجرت.. كانت كالنخلة المتكية ببلدتها القولد تعطي الثمر في سخاء حتي استحال القنوان الداني والطلع النضيد إلى عرجون قديم. حفظت قسطاً من القرآن الكريم وقدراً من أشعار البصيري والبرعي والعجيمي، وحفظت حكم وأمثال فرح ودتكتوك وحماسة أبي زايد الهلالي، وتشربت رقائق سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، ولم تكن قد التحقت بمؤسسة تعليمية ولم تغادر بلدتها ولا أحد يدري على وجه التحديد مصادرها لتلك الثقافة والأذكار والتواشيح اللهم إلا اولئك المادحين الذين كانوا يجوبون القرى والبوادي يحملون الاسلام في أشعار الصوفية المعتقة، فقد كنا نلهث وراء التحقق من أية معلومة في السيرة الشريفة وقصص الأنبياء ونعرضها عليها فنجد عندها المزيد من التفاصيل المشوقة والاسانيد الموثقة، ومن حكاويها ذات المغزي والدلالات العميقة في نية العمل لوجه الله ان رجلا سأل شيخاً ليدله على نبي الله الخضر عليه السلام- وهو ذلك العبد الصالح الذي ورد ذكره في سورة الكهف " فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا " فقال له الشيخ أنه دائماً يغشي الزمني. فعزم الرجل على لقائه فاحضر حماراً وخرجا واشتغل بسقى العطشى "لوجه الله" حتي يصادف نبي الله الخضر، وأمضى في ذلك سنينا. وفي ذات يوم كان يملأ خرجه كالعادة من النهر جاءه رجل أشعث أغبر وطلب منه شربة ماء، فنظر إليه شذراً وزجره قائلاً "البحر دا ماك شايفو؟" ثم تولى عنه. وقد كان ذلك الاشعث هو هيئة من هيئات ظهور النبي الخضر عليه السلام. وعن الشيخ فرح ود تكتوك ذكرت أنه رجع من المسيد وقال انه عرف كل شئ ولا حاجة له بالاستزادة.. فقد عرف "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً ير ومن يعمل مثقال ذرة شرا ير".. ومن أشعار المهدية في الفخر والنسابة كانت تردد بطرب: يا النمر المبرد يا مقنع الكاشفات يا باب العشامي يا مشرع الواردات وفي أشواقها للحجاز كانت تردد لأولاد حاج الماحي" القبة البعيدة مسافة يا الله السعيد الشافا زينات القبب من زارك كسب شباكك حديد وبلدك ديمة عيد. طه أبو إبراهيم سيد مكة وحطين زينات البلاد الزاروك سعاد هي أي أي أي.. كانت فافا كالطير في توكلها، كانت تبحر باهوال مركب طه العربي إلى سوق الأربعاء بناوا، وتدخلها بالكاد عند انفضاضها، وتعرض بضاعتها من بذور بعض الخضر والاعشاب الطبية كالينسون والشيح فتبيعها في الحال وكأن الزبون كان في انتظارها. فتاخذ بثمنها مستلزمات بيتها من السكر والشاي وأيضاً تستبقى منه مصاريف ابنائها التلاميذ، هكذا كان عيشها على الكفاف والصبر والتوكل، ورغم ذلك كانت يدها ممدودة للمحتاجين مثل أم حاتم والطائي التي لم تسبقها الا بالزمن.. كانت شديدة الوفاء بارحامها، وحينما استدعاها قاضي المواريث لتوزيع تركة والدها رفضت ان تقف خصماً لشقيقها وهي أحوج إنسان لمثقال- متمثلة بقول أبي زيد الهلالي "الزوج ماخود والجنا مولود وود الأم مفقود" وحين عجزت عبارتي عن أوصاف فافا وتعبت خيولي وراء الشوارد تعلقت باهداب قريض الشاعر "حميد" لاقول: فافا ما حابة الشقاوة.. فافا هداية الضهابة.. فافا أخت كل الغلابة.. تدي للجيعان لقيمة وتدي للعطشان جقيمة.. وتكسى في الماشين عرايا وفوقها يتقطع هديما.. ياما شايلك فيني حايم، لا الليالي المخملية ولا الاسامي الاجنبية بتمحي من عيني ملامحك وانت جاية من السواقي بالمغربية.. الحزن يعتصرني كلما تذكرت ان هذه الانسانة الرائعة لم تعد موجودة بيننا.. وان الفراغ الذي تركته برحيلها لن يمتلئ أبداً ولا نزكيها على الله غير أن نرفع أكف الضراعة: اللهم يا مكون الاكوان هاهي امتك فافا قد اقبلت عليك بلا زاد تضعه في ميزان عدلك سوى المحبة، وكيف يتزود من قصد الكريم وأنت أكرم الأكرمين، فاكرم نزلها وأنت خير منزول به.. فقد كانت زاهدة في متاع الحياة لوجهك الكريم.. وكانت نقية تقية وأنت القائل " إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) " فهنيئا لك يا فافا بالمفاز الكبير وب ال "جنات الفافا والله لا يخلف الميعاد. ابنك الملتاع/ أبو علي عبيد محمد