[email protected] تطل علينا في العام القادم ونحن على مشارف بداياته، ذكرى مرور خمسين عاماً على قيام أول ثورة شعبية قامت في البلاد سبقت بها ثورات الربيع العربي بحوالي نصف قرن من الزمان. كانت أغلب المبادئ التي نادت بها اكتوبر ذات طابع سياسي، تتمثل في استقلال القضاء واستقلال الجامعة وحرية الصحافة واستقلالها.. الخ. فقد كانت الاوضاع الاقتصادية مستقرة تماماً. فقد كان الجنيه السوداني يعادل أكثر من ثلاثة دولار، كما كان الجنيه الاسترليني يساوي 97 قرشاً. الشاهد ان انقلاب 17 نوفمبر 1958م الذي قاده الفريق ابراهيم عبود قد حسم الصراع السياسي في تلك الفترة لصالح حزب الامة، وهكذا أرسى حزب الامة والفريق عبود تعاليم جديدة في العمل السياسي تتمثل في اللجوء الى الجيش لحل الصراعات السياسية في البلاد. وقد كان من سخرية الاقدار ان حزب الامة قد شرب من نفس تلك الكأس مرتين عندما انقلبت عليه قوى اليسار لحل الصراع الدائر بينها وبين قوى اليمين بعد حل الحزب الشيوعي في العام 1969م ثم في العام 1989م عندما انقلب اليمين الاسلامي على حزب الامة للمرة الثانية. وهكذا اصبح المجال مفتوحاً لضباط الجيش للقيام بتحركات عسكرية للاطاحة بالنُّظم السياسية بسبب الخلافات بين الاحزاب، وقد تحرك في 28 رمضان في سنوات الانقاذ الاولى ضباطاً محسوبين على حزب البعث تم كشفهم واعدام القادة. وقد اصبحت الاحزاب السياسية تبحث لها عن «خُرم إبره» لممارسة العمل السياسي العسكري للاطاحة بالنظم المعادية لها ولاستلام السلطة بطريقة عسكرية. الآن وبعد تجربة دامت لحوالي ربع قرن من الزمان تحت حكم الانقاذ، بات الجميع على قناعة تامة بأن التداول السلمي للسلطة هو أسلم الطرق لتجنيب البلاد وفوضى الانقلابات العسكرية إذ ان حسم الصراع السياسي عسكرياً لن يقضي على اسباب ذلك الصراع. ولقد حاول النميري في بدايات عهده القضاء على الانصار والاخوان عسكرياً في الجزيرة أبا وفشل في ذلك رغم انتصاره العسكري كما حاول القضاء على الشيوعيين عقب انقلاب هاشم العطا لكن الحزب الشيوعي رغم الجراحات الدامية التي اصابت جسده، إلا انه استطاع تجاوز تلك الجراحات، كما حاولت الانقاذ حسم معكرتها ضد الحركة الشعبية وقد انتهى الامر اخيراً بتوقيع اتفاق نيفاشا والذي كان من تداعياته انفصال الجنوب. لقد واجهت الانقاذ ثورات الاطراف في الغرب والشرق، فهل نتمكن من احتوائها؟ تحاول الحكومات العسكرية الاهتمام بالتنمية الاقتصادية في البلاد يساعدها في ذلك طول فترة بقائها في السلطة. فقد اقام الفريق ابراهيم عبود مصانع السكر في الجنيد وخشم القربة، كما انشأ عدداً من المصانع في كسلا، اروما، كريمة، وبابنوسة، الخ. ويبدو أن حكومته كانت تهدف لخلق تنمية متوازية في البلاد كما شهدت فترة النميري المضي قُدماً في توطين صناعة السكر فقامت مصانع عسلاية، سنار، كنانة وسفلتة الطرق لكن تردي الاوضاع المعيشية للمواطنين عجل بسقوطه في انتفاضة شعبية انحاز لها قادة الجيش. في عهد الانقاذ تمت سفلتة العديد من الطرق كما تم استخراج البترول، ولكن البلاد تمر بظروف اقتصادية بالغة التعقيد، فالتضخم يزداد والغلاء يطحن المواطن والمعارضة للنظام ضعيفة جداً ولا يستطيع أكبر«كاهن» في البلاد ان يحدد موقف حزبي الامام والميرغني من الحكومة او المعارضة. تحاول الحكومة محاربة الفقر إلا ان الخروج من ازمات البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية لن يكون الا باقامة انتخابات حرة ديمقراطية يختار الشعب فيها من يريد. سؤال أخير هل نحقق أهداف أكتوبر بعد خمسين عاماً من قيامها؟ لا أعتقد ذلك.