تكون حياة الإنسان مجموعة من اللحظات يعيشها منذ أن يلقط أنفاسه لأول مرة حتى يذرفها آخر مطاف طريقه. في خلال هذه اللحظات تكون، مجموعة من مشاعر الحزن والألم وبين ثناياها يختبئ الفرح والبذخ. وفي كل لحظة، يكون هنالك اختبار ما نقف أمامه، ننجح من خلاله أو نفشل. وتكون هنالك قرارات تنتظر اتخاذها، نصيب أحياناً أو نخيب، لكن بعضاً من هذه القرارات تؤثر، ليس علينا فحسب، بل وعلى أناس يستمدون من حياتنا بعضاً من عمرهم وربما يمتد هذا الأثر ليشمل العالم جله. واحدة من هذه اللحظات التي غيَّرت العالم كانت تلك التي عاشتها (روزا باركس) والموثقة ب(متحف هنري فورد وقريته) بولاية (ميشتغان). في خلال المتحف يوجد معرض عن رحلة البحث عن الحرية الأميركية والذي كنت واعدت قارئي بأن اصطحبه معي لنتجول فيه سوياً ويداً بيد. شخصيات يحترمها التاريخ يبدأ المعرض بمجموعة من اللوحات والمقولات التاريخية لشخصيات يحترمها التاريخ ويضعها في مكان بارز من ردهته، مثل مارتن لوثر كينج وإبراهام لينكن. " السائق طلب من (روزا) أن تترك مقعدها لصالح راكب أبيض فرفضت بصورة قاطعة حتى بعد تهديدها بمناداة الشرطة لعدم التزامها بالقانون " وواحدة من مقولات لينكن التي تحتل جزءاً كبيراً من الحائط تقول: "أولئك الذين يحرمون الناس من الحرية لا يستحقون أن ينعموا بها". لكن أكثر ما لفت نال إعجابي في المعرض هو ال(بص) الحقيقي الذي كانت به (روزا باركس). ولدت روزا في الرابع من فبراير 1913، وكانت مثلها ومعظم الأميركان السود الذين يعانون من التفرقة العنصرية بصورة يومية. كانت تستقل مواصلاتها العامة وتعتلي (بصها) من بابه الخلفي حتى لا تؤذي أصحاب البشرة البيضاء والذين قرر قانونهم أن السود ليسوا سواسية في الإنسانية وإياهم كأسنان المشط. وفي يوم، طلب السائق من (روزا) أن تترك مقعدها لصالح راكب أبيض فرفضت بصورة قاطعة حتى بعد تهديدها بمناداة الشرطة لعدم التزامها بالقانون. وفعلاً حضرت الشرطة واقتادت (روزا) إلى السجن الذي مكثت فيه حتى أن حضر زوجها ليخرجها منه بكفالة بعد ساعات عدة، لكن دعت الحادثة لمقاطعة المواصلات العامة حتى تعديل القانون. إمرأة واحدة، لحظة واحدة وعانى السود كثيراً حتى تم تغيير القانون بعد عام من بداية المقاطعة. وتُظهر الصور البص الفعلي الذي كانت به (روزا) وأيضاً صالات الانتظار التي ذكرتني بتلك النشاطات بمجلات الأطفال والتي تطالب بإيجاد الفروق بين اللوحتين. و(غصبا) عني وجدتني أقارن، فلقد كانت صالة انتظار السود صغيرة ضيقة بينما كانت صالة البيض واسعة بها العديد من المقاعد. تلك التي يجلس بها السود يلاحظ أنها أكثر قتامة وأقل نظافة وتقبع وراء البيض بينما تلك التي ينتظر بها المعززون بالقانون والمكرمون نظيفة (تلمع). وأمام كل صالة انتظار توجد آلة شرب المياه والتي هي مقسمة ما بين واحدة للسود مختلفة عن البيض. وهنالك العديد من اللوحات التي تقص المعاناة التي مر بها الأميركان السود مثل منظمة ال(كي كي كي) والتي كان من أهدافها تخليص العالم من العرق الأسود والمسؤولة عن إعدام المئات من السود بدون محاكمات أو أسباب. وعلى الرغم من أن اللافتة المعلقة قرابة ال(بص) الذي كانت تعتليه (روزا) تقول: "امرأة واحدة، لحظة واحدة: رفضها كي تترك مقعدها على هذا البص كان الشرارة التي أشعلت حركة المطالبة بالعدالة والحرية الاجتماعية التي غيّرت الولاياتالمتحدة الأميركية". القشّة التي تقصم ظهر البعير وعلى الرغم من يقيني التام بأن هذا القرار الذي اتخذته (روزا) كان القرار الصحيح، إلا أنني لا أتفق على أنه كان نتيجة لحظة. " امرأة واحدة، لحظة واحدة: رفضها كي تترك مقعدها على هذا البص كان الشرارة التي أشعلت حركة المطالبة بالعدالة والحرية الاجتماعية التي غيّرت الولاياتالمتحدة الأميركية " فكل القرارات الشجاعة التي نتخذها في حياتنا تكون بناءً على حوادث كثيرة سابقة تكون بمثابة القشة التي تقسم بقوة ظهر البعير. وتقول (روزا) نفسها إنها في تلك اللحظة التي كان سائق البص يطالبها بأن تترك مقعدها كانت الكثير من اللحظات تمر من أمام عينيها، منها على سبيل المثال صورة (إيميت). ولد (إيمت) في يوليو 1941، وعاش بمدينة شيكاغو تربيه يديّ والدته وجدته. وكبر (إيمت) ليصبح شاباً محبوباً، فارع الطول وباسماً أنيقاً. كانت الحياة في شيكاغو عصيبة على السود لكنها لم تكن بذات القسوة التي يعاني منها السود بالولايات الجنوبية، بل كان إيمت يذهب إلى مدرسة مختلطة (ما بين أصحاب البشرة السمراء وتلك البيضاء). وفي يوم حضر (رايت)، خال والدة (إيمت)، من ولاية المسيسيبي الجنوبية ليزور أسرته في شيكاغو. وبدأ (إيمت) يستفسر عن الحياة في المسيسبي والخال يقص عليه الحكاوى التي تشيب لها القلوب. وطلب (إيمت) من والدته أن يعود مع (رايت) إلى المسيسبي ويرى الوضع الذي يعيش فيه السود هنالك بعينيه. حادثة قتل (إيميت) وتشويه جثته في البداية طلبت الأم الانتظار حتى تستطيع أن تتحصل على إجازة كي يذهب الابن مع خاله، لكن تحت إصرار الشاب على الذهاب مع (رايت)، وافقت الوالدة على أن يسافر ابنها لكن مع تحذيرات شديدة بأن الحياة في المسيسبي ليست ما تعوّد عليه، وتوصيات بحرص في تصرفاته، ولكن يبدو أن بال الشاب كان في الرحلة وكانت نصائح الوالدة تتبخَّر في الهواء. وصل (إيمت) إلى المدينة الصغيرة التي كان يعيش بها (رايت) في 21 أغسطس 1955. وسريعاً استطاع الشاب الصغير أن يكوِّن مجموعة من الأصدقاء، وبعد ثلاثة أيام فقط من وصوله إلى المدينة، ذهب مع الأصدقاء إلى محل بقالة في الحيّ مملوك لأخوين من البيض. يقال إن (إيمت) كان يتباهى أمام أصدقائه الجدد أنه يذهب إلى مدرسة مختلطة وأن بعض البيض أصدقاء له. وتحدى الأصدقاء الوافد الجديد بأن يتجرأ ويتحدث لامرأة صاحب المحل وقد فعل. وما أن علم الأخوان حتى ذهبوا في منتصف الليل إلى منزل (رايت) واختطفوا (إيمت) من منتصفهم واصطحبوه إلى مكان بعيد، وهنالك انهالوا عليه بالضرب الشديد والتعذيب حتى إنهم أخرجوا واحدة من عينيه من مكانها. ثم سرقوا محلجاً للقطن ربطوا فيه (إيمت) ثم قتلوه وألقوا بجثته في النهر. ودام بحث (رايت) وجموع السود عن (إيمت) ثلاثة أيام حتى وجد أشخاص جثته طافية على سطح الماء، وأصرت والدة (إيمت) على ترحيل جثة إبنها إلى شيكاغو. وفي يوم الجنازة، قامت الوالدة بفتح وجه الجثة حتى يراها الآلاف الذين احتشدوا لهذا اليوم. وتناقلت الصحف والمجلات صورة (إيمت) البريئة الباسمة وصورته وهو متوفي، بينما تناقلت الألسن وصف بشاعة جريمة القتل. صورة (إيميت) نحاصر (روزا) وكانت صورة الشاب الباسم المشوهة تحاصر (روزا) وهي ترقب وجه السائق الذي كان يصر عليها أن تترك مقعدها بينما كانت هي بذات المقدار تصر على البقاء فيه إيفاءً لذكرى ذلك الشاب الذي دفع حياته ثمناً لاستعلاء جنس على آخر ولظنه أنه خلق ليكون أفضل من يمشي على الأرض من البشر. " قرار (روزا) بعدم تركها مقعدها كان قراراً صادقاً، نابعاً عن إحساس عميق بالمهانة والمذلة ومصراً على تنفيذ الصحيح الذي لا تصح الحياة بغيره " إن قرار (روزا) بعدم تركها مقعدها كان قراراً صادقاً، نابعاً عن إحساس عميق بالمهانة والمذلة ومصراً على تنفيذ الصحيح الذي لا تصح الحياة بغيره. ولا أظن أن في تلك اللحظات فكرت أنها تصنع تاريخاً أو تحفر باسمها في ذلك السجل العالمي الذي يحوي أسماءً ستبقى في ذاكرة الشعوب، لكنها قررت أن تنفذ فقط الصحيح. وبالرغم من (سواد) التاريخ الذي يوثق لمعاناة السود، إلا أن الشفافية التي يتعامل بها المجتمع والشجاعة التي ينتقد بها نفسه تجاه ظلم جزء كبير من أعضائه، تدعو إلى الإعجاب. فبدون هذه الصراحة وبدون النقاش الحامي وتدوين قصص المعاناة يصبح المجتمع وكأنه يدفن رأسه في الرمال خجلاً وهرباً مما قدمته يداه من ذنوب في خلال عقود قضت. عبارات عنصرية في مصر ودارت في خلدي وأنا أفكر في القرارات التي نتخذها خلال جزء من الثانية والتي تغيِّر حياتنا قصة الكاتبة المصرية (مني الطحاوي) الفائزة بجائزة سمير قصير لحرية الصحافة. لقد كانت منى، أيضاً، تعتلي مركبة عامة بإحدى طرقات العاصمة المصرية منشغلة ومستمتعة بالموسيقى التي تعزف في أذنها حينما شهدت راكبة مصرية تضرب فتاة سودانية وسمعت، بعد أن أخرجت سماعات الموسيقى من أذنيها أسوأ العبارات العنصرية تخرج من فم المصرية ولا أحد يتحرك. حتى حينما استنجدت الفتاة السودانية ببقية الركاب وخصوصاً أصحاب البشرة السمراء، لم يسع أحد كي يقف بجانبها أو يساندها. وتحت شعورها بالغضب على الإهانة الواقعة على الفتاة سألت منى المرأة عن أسباب مهاجمتها للفتاة الغريبة ووقفت بجانبها حتى حينما انتقدتها المرأة وحاولت أن تحتد وإياها أيضاً. إن منى، كما روزا، وكما غيرهن ممن سطّر وسيسطر التاريخ قصصهن، لم تكن تظن أنها ستفوز بجائزة تفوق قيمتها الإثني عشر ألف يورو. لقد كانت صادقة مع نفسها حينما وقفت بجانب المرأة الغريبة ضد تلك التي من بلدها ولم تر في الموقف سوى الحق والحقيقة. حتى حينما كتبت المقال، كانت صادقة في نقدها للمجتمع وفي فتح جروح العنصرية حتى تعالجها وتحاول تطهيرها ومداواتها. إن النوايا الخالصة في تصرفاتنا وإصرارنا على الحق والتقيد بالصدق يحول من مجموع كل ثانية نعيشها إلى لحظات تنتظر أن تصنع التاريخ وتغير العالم بين كل حين.