لم تعُد تدابير المواقف السياسية تُتَّخَذ بتلك البساطة التي ينتهك تدبيرها بها خطابنا السياسي اليومي، ذلك الخطاب الذي يقتفي آثار أحداث الداخل، وهو يضعها في أفقه ضمن خانة "المواقف التكتيكية" المنتسبة لشروط لحظتها العابرة فقط بمعزل عن لحظتها الوجودية الأشمل. بلية السياسة نعم، لم تعد التدابير السياسية تتخذ ببساطة إنما تربط بتصوُّر مكتمل الأطراف والجوانب؛ ينتقد الموقف السياسي ويتمدد ليشمل إمكانات المستقبل التي يرومها فكره أو مشروعه السياسي إن وُجدا. ؛؛؛ أصبحنا لا نعقل أمورنا بشكل كلي إلا لماماً وكثيراً ما تجذبنا مغناطيسية الهرج والمرج والتسرُّع والانفعال الزائد ؛؛؛وتلك هي آفة السياسة السودانية وآفة أحزابها المرزوءة بما كسبت يداها من بليَّة ترجيح كفة "الإدارة" على كفة "المنهج"، وترجيح خيار "درب السلامة" على خيار "العمل المضني واجب الدفع". أصبحنا لا نعقل أمورنا بشكل كلي إلا لماماً في خرائب الأهوال التي تكتنف حياتنا اكتنافاً، وكثيراً ما تجذبنا مغناطيسية الهرج والمرج والتسرُّع والانفعال الزائد عن الحاجة فندخل إلى القضية من باب، لا نعرف طريق العودة إليه. ومن المؤكد أن المشكلة في هذه الحالة ليست طبعاً مشكلة الباب المسكين، أو مشكلة الطريق الخاطئ، بل هي مشكلة الدخول بلا خريطة حينما تصبح معرفة الطريق بدونها أمراً مستحيلاً. لا يهم أبداً أين هي هذه الخريطة، المهم هو أن نحاول رسمها، ونعلم أنه لا عمل لنا سوى ذلك ما دمنا نصنِّف أنفسنا ضمن خانة المحترفين للعمل السياسي. ؛؛؛ لا بد من السعى بدأب لأن تتسق أقوالنا مع أفعالنا في ميدانٍ عملٍ خرب، والبعد عن التهافت السياسي وركاكة التسرُّع والاستسهال ؛؛؛السؤال الميت نعم سادتي، لم يعد من الممكن أن نتمعَّن النظر في ما يحيطنا من أحداث دون أن نعيد الكرَّة تلو الكرَّة، نقارن هذه بتلك، ونضرِبُ الأمثال المترامية على قارعة الكوكب، وقبل ذلك كله؛ نسعى بدأب لأن تتسق أقوالنا مع أفعالنا في ميدانٍ عملٍ خرب، خفيف المؤونة الفكرية كما يتبدى ذلك في مواقفه، وممتلئٌ بثقوب التهافت السياسي وركاكة التسرُّع والاستسهال. في السودان، تعرَّض مصنع اليرموك للأسلحة والذخيرة، إلى عملية قصف منظمة نفذتها طائرات حربية من طراز رفيع، وأودى الحادث بحياة مواطنين أبرياء كما بتنا نعلم جميعاً، لكن الأمر الذي سنناقشه هنا، ليس هو سؤال: "من دبَّر عملية ضرب المصنع؟"، فذلك سؤال ميِّت لا محالة، طالما لا يستطيع أحد أن ينفيه أو يؤكِّده إلا على طريقة "رمي الودع" المسنود بقرائن شبيهة من شاكلة: "الوِحَيِّد" الذي يملأ السماء ضوءاً بواسطة قنابل الفسفور! يرتدي علامة بني صهيون! ردود الفعل هذا ما عكسته بالفعل، بعض ردود الفعل السياسية المعارضة لنظام الحكم في السودان، وهي تسارع لإدانة إسرائيل، على ذمة لسان الحكومة والتي بقدرتها التخيلية العالية، روت أكثر من أربع روايات في ذات الحدث! ؛؛؛ الحكومة بقدرة تخيلية عالية، روت أكثر من أربع روايات في ذات الحدث! ؛؛؛فمن أين للحزب الشيوعي السوداني هذه الثقة المفرطة في تقارير الحكومة أو تصريحاتها؟ ولماذا يقبل برواية الحكومة في حادثة اليرموك مثلاً، ولا يقبل روايتها حول أمر آخر. الانتخابات ليس على سبيل الحصر بالتأكيد؟ هل الأمر محض اتخاذ مواقف تحكمها مطاردة المزاج العام وغريزة المشاركة؟ ومتى ستخرُج سياستنا البائرة من حالة الشعار السياسي التي تتلبسها منذ أماد بعيدة، إلى حالة المبادئ السياسية وهي تُمعن في تغييبها كلياً عن أي موقف؟ المؤسف؛ أن هذا يتم عادةً بنوايا حسنة! تلاشي الفروق لم يعد هنالك فرق بين مواقف الحزب الشيوعي السوداني ومواقف الحزب الاتحادي الديمقراطي أو حزب الأمة، كل ما هنالك أن عدوى عدم وضوح الرؤية التي يعيبها الشارع السياسي على السيِّد الصادق المهدي، أو الوسطية المهادنة التي قادت الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل إلى المشاركة في حكومة يجفل منها حتى أبناء جلدتها، قادت الحزب الشيوعي إلى إدانة العدوان الإسرائيلي الغاشم كما ورد ذلك في بيانه المخصص لهذا الغرض ولم تفُوتُ على فطنته أيضاً تحميل إسرائيل مسؤولية "أعمالها الطائشة" التي درج الكيان الصهيوني على ممارستها، أو كما قيل! ؛؛؛ الحزب الشيوعي السوداني لا يختلف في موقفه من مواقف الحزب الاتحادي الديمقراطي أو حزب الأمة ؛؛؛تسهل على الحزب الشيوعي السوداني إذن مهمة إدانة إسرائيل من الأخبار السماعية فقط، لكنه لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة في بقية القصة السماعية نفسها وهي تُوجِد لهذا القصة أسبابها! لماذا ضربت إسرائيل الملعونة في كل اللغات هذا المصنع؟ هنا يطالب الحزب الشيوعي السوداني وهو "يستصرخ شعب السودان لهبة واسعة للدفاع عن السيادة الوطنية ودفع العدوان الإسرائيلي" يطالب الحكومة بإطلاع الرأي العام السوداني وأحزاب المعارضة على التفاصيل المرتبطة بالعدوان وإحاطة الجميع علماً بحقائق مصنع اليرموك وتسليط الضوء على الأسرار المتعلقة بهذا المصنع ودوره ومهامه، بدلاً عن ترك الأمر للحدث والحرز والأقاويل". انتهى. الدفاع بالنظر إذاً، ينتبه بيان الحزب إلى أن بالأمر بعض "حرزٍ وأقاويل" لكنه لا يكف عن الاستناد إليهما ليدعونا إلى هبة واسعة للدفاع عن السيادة الوطنية! وطالما وافق الحزب وقبل باعتبار تصريح الحكومة مرجعية يمكن الاستناد عليها؛ كان الأحرى به أن يواصل في اقتفاء أثر الحكومة السودانية حزو النعل بالنعل، وينصحنا باتباع سياسة "الدفاع بالنظر" لحماية سيادتنا الوطنية المنتهكة! ؛؛؛ الوضعية المعقدة للصراع في عصر التحوُّلات الكبيرة، لا يكفي معها التذرُّع بحقيقة السيادة الوطنية الصماء مع كلِّ المواقف ؛؛؛هذه الوضعية المعقدة للصراع في عصر التحوُّلات الكبيرة، لا يكفي معها التذرُّع بحقيقة السيادة الوطنية الصماء مع كل المواقف ومن أرضٍ واحدة ،كما كان الأمر في تواريخ قريبة، بل ربما يتوجب علينا المطالبة بانتهاكها في بعض الحالات، كما يحدُّث ذلك في سوريا اليوم. ربما لم تعُد الشعوب تأبه لهذه السيادة الوطنية بمقدار متساوٍ طالما يظل هذا المبدأ نفسه وسيلة جيِّدة للإنفراد بشعب أعزل من قبل جبروت قوة باطشة للدُول المتباكية على سيادتها، وهي لا تملك أكثر من التباكي وسيلةً لحماية هذه السيادة التي نؤكدها بالقول ولا نشعر بها. وفي كتابةٍ سديدة عن هذا الموضوع، نحت بروفيسور عبدالله علي إبراهيم في مقاله المعنون: "اليرموك: مآزق الوطنية السودانية"، عبارته الذكية أن: "لن تكسب الوطنية السودانية ولا الفلسطينية مع من ذاق ثمار اليرموك المرة". ؛؛؛ "الوطنية" لم تعد كافية لوحدها تبريراً للدفاع عن السيادة الوطنية، بل العدل وحقوق الإنسان أولى بالبحث عنهما ؛؛؛لغط التبرير "الوطنية" لم تعد كافية لوحدها تبريراً للدفاع عن السيادة الوطنية، بل العدل وحقوق الإنسان أولى بالبحث عنهما حتى ولو أدى ذلك لانتهاك هذه السيادة، تلك هي حقيقة اليوم؛ طالما لا يزال بشار الأسد يواجه شعبه بترسانة الأسلحة الثقيلة منذ ما يقارب من العامين؟ كيف تسوِّغ مفاهيم الوطنية للفصائل المعارضة لذات النظام، أن تقوم بارتكاب جرائم حرب وإعدامات جماعية صورتها شاشات الإعلام وأثارت من لغط التبرير ما لا ينجي من مهالك الازدواج ويقرِّبها من ميكافيلية بائنة: "في سبيل الوطن، الغاية تبرر الوسيلة"! ومع وابل المبررات الممكنة وسيل التدابير التي لا تخلو من حصافة إزاء هذا الموقف؛ ارتسمت على جبين الثورة السورية وصمة عار لن يكفي معها التذرُّع بالوطنية سبيلاً للمحو، فالوطنية نفسها هي ذات المشروعية التي يدعي حمايتها نظام بشار الأسد وتحميها في السودان؛ "ثمار اليرموك المرَّة"!