طيلة سني استقلالهم المتحقق في فاتحة العام 1956م، والسُّودانيون يحلمون بإقامة دستور دائم لبلادهم، دستور يختارون بموجبه نظام الحكم الأمثل، ويحوي بداخله اللَّوائح الحاكمة لعلاقة السلطات الثلاث: "التشريعية والتنفيذية والقضائية"، وطرائق الفصل بينها، وعلى إثر نصوصه تستبين علاقة الحاكم بالمحكومين فيما يعرف بجدلية الحقوق والواجبات. دائرة شريرة هذا عن الحُلم، أما الواقع فيقول إن هذا الدستور المأمول لم ينهض أبداً من خانة المخيلة إلى خانة الفعل الحقيقي، ولعل أهم الأسباب في ذلك ضعف وهشاشة أنظمة الحكم المتعاقبة ذاتها. علاوة على التنافس المحموم بين الجالسين على دست الحكم ومعارضيهم، واستخدامهم في صراعاتهم العبثية لشتى وسائل الإقصاء بما فيها اللجوء للجيش، ما خولّ للأخير الوصول إلى السلطة ثلاثاً آخرها في العام 1989 وهو ما أثبت صحة دوران البلاد -كل البلاد- في فلك ما اصطلح على تسميته (الدائرة الشريرة) بمعنى حكم عسكري، تعقبه ثورة شعبية، تسلم مقاليد الأمر لحكومة انتقالية، من صلبها تخرج حكومة منتخبة ما يلبث أن ينقض عليها الجيش وهكذا دواليك. وبمنأى عن الماضوية، نجد أن السودانيين فيما يبدو غير آبهين –حالياً- بما يتم في أروقة قواهم السياسية من إعداد لطبخة دستور دائم لبلادهم، مرتكزين في ذلك على عدة عوامل أهمها الآتي: ظروف اقتصادية ضاغطة عندما ترمي كلمة دستور في وجه سواد الشعب -وهم الغالبية العظمى دون شك- يقابلك محدثوك بكثير من الدهشة وغير قليل من الاستغراب، فغالبية الأهالي يقبعون تحت خط الفقر وبالتالي يعدون أي أحاديث عدا تلك القادرة على قولبة الوضع الاقتصادي المتردي الناجم عن الانفصال ترفاً فقط لا غير. ؛؛؛ السُّودانيون فيما يبدو غير آبهين -حالياً- بما يتم في أروقة قواهم السِّياسية من إعداد لطبخة دستور دائم لبلادهم، مرتكزين في ذلك على أسباب وعوامل عديدة ؛؛؛ فالأسعار وصلت حدوداً غير مقبولة، والعملة المحلية تتراجع تحت وطأة الضغط من قبيل رصيفاتها الأجنبيات، بينما غول التضخم يكاد يبتلع الأخضر واليابس. ولذا غير بعيد أن يلقمك من تحدثه عن أهمية وجود دستور يحكم البلاد بواحدٍ من أشهر الأمثولات الشعبية "الناس في شنو والحسانية في شنو". والمثل الآنف يعود لطلب المك نمر زعيم قبيلة الجعليين من قبيلة الحسانية الجارة مساندته لمقابلة وصدّ الغزو التركي على السودان فكان أن طالبوه بفسحة من الوقت يتسنى لهم خلالها إنهاء سباق للحمير درجوا على إقامته، ومن ثم يناقشوه في أمر الحرب! عدم الثّقة في المكوِّنات السياسية جرَّب السودانيون لثلاث مرات الحكم النيابي الديمقراطي، وفي مرتين "اكتوبر 1964م- وأبريل 1985م" كانوا من سدد فاتورة إعادة القوى السياسية لسدة الحكم من جديد، عبر مواجهة حكوماتٍ عسكرية باطشة -فقط- بصدورهم العارية. ولكن بكل أسف فإن التجربتين شهدتا صراعات كيدية تعضد مقولة إن السياسة محض لعبة قذرة، وانتهت –الصراعات- بتبرم طرف حزبي من بقية نظرائه قاطعاً الطريق أمامهم وأمام مسيرة الديمقراطية عبر التجائه للجيش في عملية استلام السلطة. أو على الأقل بارتضائه تقديم السلطة في طبق من ذهب للمؤسسة العسكرية ونستشهد هنا بمقولة الشريف زين العابدين الهندي: "الديمقراطية لو جا كلب شالها ما في زول بيقول ليه جر". ؛؛؛ غالبية الأهالي يقبعون تحت خط الفقر وبالتالي يعدون أي أحاديث عدا تلك القادرة على قولبة الوضع الاقتصادي المتردي الناجم عن الانفصال ترفاً فقط لا غير ؛؛؛بالتالي، وكما أسلفنا، فإنه إبان تلك المسيرة الشاقة، دفع الشعب الذي صنع الثورة ثمن منتوجها تردٍ وويلات في مختلف ضروب الحياة حد تمنى عودة العسكر لاستلام مقاليد الحكم من جديد. وفي الصدد لن تنسى الذاكرة التفاف رواد سوق الخضار حول الجنرال إبراهيم عبود بعد تنحيه إثر ثورة أكتوبر 1964 المجيدة وهتافهم له: "ضيعناك، وضعنا وراك"، وهو هتاف يعكس ضمناً حالة المقابلة بين فترة حكمه وفترة تولية الأحزاب أمرهم ومعاشهم. عليه، تتملك السودانيين حالة عدم ثقة ومخاوف حقيقية مسنودة لإرث طويل من التناحر الحزبي في قدرة قواهم السياسية على إدارة تجربة نيابية حقيقية تشمل كل ضروب العمل العام، وتحترم بالدساتير وتتقيد بها دونما خرق أو إحداث تعديلات عليها لتصب في مصلحة شخص أو فئة بعينها. ؛؛؛ هتاف الشّعب لعبود: "ضيعناك، وضعنا وراك" يعكس ضمناً حالة المقابلة بين فترة حكمه وفترة تولية الأحزاب أمرهم ومعاشهم ؛؛؛ضمور منظمات المجتمع المدني يتبدى للناظر العادي، معاناة السودان ضموراً كبيراً في منظمات مجتمعه المدني التي يفترض أن تكون حلقة وصل بين الأهالي والقائمين على الأمر، طبعاً هنالك استثناءات قليلة لا ترقى حد إطلاق توصيفات عامة تشي بعكس ما أسلفنا من قول. وبوقت يفترض أن تلعب فيه منظمات المجتمع المدني أدواراً متصلة بالوعي والتنوير، نلقاها أما مصطفة مع السلطة طمعاً في الحظوة والثروة، حاصرة لأنشطتها في فعاليات مترفة وفخمة -غالباً نخبوية- لا تلامس الواقع الذي يعيشه المواطن بحال، أو منظمات متحيزة للمعارضة وتحاول ما استطاعت التنكيل بالحكومة، التي تراها منزوعة من الفضائل وتقطع بعدم قدرتها على الإتيان بأي أمر جيد. وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد، إذ صارت هذه المنظومات جزءاً من اللعبة السياسية ذلك عوضاً عن تهيئة البيئة المناسبة للممارسة السياسية والتكفل بأداور التوعية والتعريف بالحقوق والواجبات، ومعلوم أنه في سياستنا السودانية -بالتحديد- لا مكان للأراضي الوسطى فإما "أبالسة وشياطين" وإما "ملائكة". ومن المؤكد أن تصنيفات كهاتيك تجعل من منظمات المجتمع المدني بعيدة عن نطاقها الحيوي الحيادي الذي تزدهر فيه، كما ويحول دون تعاطي أفرادها مع بعضهم بعضاً ضمن عملية تكاملية لإنجاز مشروعات تصب في صالح المكوّن الشعبي رهبة في أن يتم اختطاف المفرز لصالح فصيل سياسي. تغريد إعلامي خارج السرب في الوقت المنوط به أن يضطلع بدوره كسلطة رابعة في بناء الأمة والمجتمع، نجد أن الإعلام السوداني منشغل بأزماته الداخلية اللا نهائية، فهو يعاني من تقاطعات وتشابكات السلطة مع مساراته. ؛؛؛ منظَّمات المجتمع المدني إما مصطفة مع السلطة طمعاً في الحُظوة والثروة، أو متحيّزة للمعارضة وتحاول ما استطاعت التنكيل بالحكومة ؛؛؛ ويشكو من سوق إعلان تتحكم أطرافه في عمليات توزيعه بتحيز بمنأى عن معيار العدالة، وفضلاً عن ذلك كله، شهدت الساحة الإعلامية في السودان خلال العقدين الأخيرين مغادرة لأميز كادراتها لصالح القنوات والصحف الكبرى في المنطقة العربية على وجه الخصوص، وتلزمنا الإشارة هنا، إلى أن نختم بالأجور الصحفية المتدنية التي يحظى بها الإعلاميون جراء طمع الناشرين ممن تغولوا على المهنة ومبلغ غايتهم التربح المادي. إذاً، فكيف لصحفي لا يجد ما يسد رمقه، ويتعرض لضغوط السلطة وأمزجة الناشرين المنحازة -الأخرى- للسلطة، في غضون وقت ينشط فيه الإعلام التفاعلي وكبريات وكالات الأنباء في بث ما يدور بالسودان فيما يمنع هو عن نشره، كيف يستعيد ثقة الناس دعك عن بث الوعي بأمر دستورهم المنتظر؟! ضعف طلاب الجامعات يقف التاريخ شاهداً، على أن طلاب الجامعات السودانية أنجزوا بنضالاتهم ثورتي أكتوبر 1964م وأبريل 1985م. وقتها كانت الاتحادات الطلابية إلى جانب النقابات منارات سامقة للوعي، وتصدر كادراتها لأعلى مراتب السلطة في البلاد. ولكن بمقابلة الماضي والحاضر نجد أن اتحادات الجامعات يسيطر عليها طلاب الحزب الحاكم، أحياناً كما يشتكي خصومهم بالعنف، وتارات بالتزوير، وفي أخريات بالتزكية نتيجة لزهد الطلاب في العملية السياسية برمتها. ؛؛؛ الأوضاع غير المستقرة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق وبإقليم دارفور، تضع الأمن في سُلُّم الأولويات ضمن مناطق النزاعات ؛؛؛الجامعات نفسها تراجعت في سلم التصنيف العالمي، وهاجر أساتذتها سواء لتحسين أوضاعهم الحياتية أو لاختلافات مع الجانب الحكومي، ومع إبتداع ما سمي بثورة التعليم العالي التي اهتمت بالكم على حساب النوع وقامت ضربة لازب بتعريب المناهج الدراسية؛ أفضى ذلك لتخريج طلاب لا يصلحون لسوق العمل، وعليه ارتفعت معدلات البطالة حدَّاً استمرأ معه الطلاب إعادة الفصول الدراسية مخافة تحمل المسؤوليات التي يفرضها التخّرج. كذلك خلقت سياسات القبول الخاص، التي ساوت بين الغني والمجتهد، تمايزاً طبقياً نجم عنه مشكلات جمة في مختلف المناحي "السياسية، الاقتصادية، الثقافية، الفكرية "كما وأنتج عجز الجامعات عن تلبية تطلعات ورغبات طلابها ظواهر اجتماعية خطيرة كالمخدرات والدعارة والمساكنة. فقولوا بربكم كيف لطالب كان نظرائه السابقين رسلاً في مناطقهم، وتأتيهم الوظيفة صاغرة قبل أن يكملوا سني الدرس، أن ينتج وعياً؟ وعي بأي شيء كان؟ الحروب لعل من أوجب الدّوافع التي تسوق السودانيين لجهة عدم الاهتمام بأمور السياسة عامة ومتوقع أن تسوقهم -أيضاً- بعيداً عن دستورهم المرتقب، مسالة الحروب كمحصلة لصراعات المركز مع الهامش. فالأوضاع غير المستقرة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق وبإقليم دارفور، تضع الأمن في سلم الأولويات ضمن مناطق النزاعات، وتجعله مقدماً على ما سواه من أجندات مهما كبرت وعظمت. ؛؛؛ "عصا" أحد الشّيوخ القبليين بإمكانها أن تتحّكم في أصوات حزمة من البشر كي ما تصب في صالح جماعة بعينها ؛؛؛ وحتى المهتمين تجدهم ينحون إلى توصيف إنجاز مسودة خاصة بالدستور دون مشاركة الإقاليم المبتلاة بالحرب على أنه تقديم للعربة على الحصان ولذا هم مع الرأي القائل بأن أي دستور ينهض بمنأى عن مشاركة جميع المكونات الشعبية يحوي لا محالة بداخله بذور وعوامل الفناء. الجهل والأمية لا يزال عدد كبير من أبناء السودان يرزحون تحت وطأة الجهل والأمية، ولذا من الطبيعي أن ترسم ميولهم نخب انتهازية تحضهم على خيارات بعينها مستغلة عدم حقنهم بجرعات الوعي اللازمة التي أخول لهم الإطلاع على كامل المشهد. وبالتالي فإن (عصا) أحد الشيوخ القبليين بإمكانها أن تتحكم في أصوات حزمة من البشر كي ما تصب في صالح جماعة بعينها وبعيدة عن النموذج المرتجى وهو ما يمكّن من هزيمة مشروعات التنمية الكبرى، وبالأخص تنمية الإنسان، ويأطر لمفهوم أن العملية الديمقراطية عندنا -كما قيل- تصويت ستة ثعالب ودجاجة على ما سيتناولوه في العشاء.