عالم فلك يفجّر مفاجأة عن الكائنات الفضائية    فيتش تعدل نظرتها المستقبلية لمصر    السيد القائد العام … أبا محمد    اتصال حميدتي (الافتراضى) بالوزير السعودي أثبت لي مجددا وفاته أو (عجزه التام الغامض)    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    هيفاء وهبي تثير الجدل بسبب إطلالتها الجريئة في حفل البحرين    قطر.. تنظيم دخول وخروج الوافدين وإقامتهم الصادرة    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    والى الخرطوم ينعى نجل رئيس مجلس السيادة    قبل قمة الأحد.. كلوب يتحدث عن تطورات مشكلته مع صلاح    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    وفاة محمد عبدالفتاح البرهان نجل القائد العام للجيش السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. فنانة سودانية تحيي حفل غنائي ساهر ب(البجامة) وتعرض نفسها لسخرية الجمهور: (النوعية دي ثقتهم في نفسهم عالية جداً.. ياربي يكونوا هم الصاح ونحنا الغلط؟)    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تسخر من الشباب الذين يتعاطون "التمباك" وأصحاب "الكيف" يردون عليها بسخرية أقوى بقطع صورتها وهي تحاول تقليدهم في طريقة وضع "السفة"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    واصل تحضيراته في الطائف..منتخبنا يؤدي حصة تدريبية مسائية ويرتاح اليوم    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    دعم القوات المسلحة عبر المقاومة الشعبية وزيادة معسكرات تدريب المستنفرين.. البرهان يلتقى والى سنار المكلف    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخليفة عبد الله التعايشي.. خليفة المهدي عليهما السلام
نشر في الصيحة يوم 04 - 10 - 2022

يكتب: الخليفة عبد الله التعايشي.. خليفة المهدي عليهما السلام
نشر شهادة موضوعية عنه في الذكرى 113 لاستشهاده توصلت لها باحثة دؤوبة همها الوصول للحق مهما كانت كلفته. وهي الفرنسية الدكتورة فيفيان أمينة ياجي التي كانت رحلة اعتناقها للإسلام دليلاً آخر على حرصها على الوصول للمعلومة في مظانها الموثوقة.
عرضت الدكتورة ياجي هذه الصورة في كتاب صدر عام 2011 قبيل وفاتها بقليل وكان في الأصل بحث لرسالة الدكتوراه في التاريخ تألفت من 700 صفحة حصلت عليها المؤلفة عام 1990 من كلية الآداب واللغات والعلوم الإنسانية بجامعة مونبلييه الثالثة بفرنسا، وقام بترجمة الكتاب إلى العربية الدكتور مكي بشير مصطفى البدري وهو أحد طلابها العديدين بالجامعات السودانية والذي جاءت ترجمته سلسة. والكتاب أحد الأعمال الفكرية والأكاديمية العديدة التي ظلّت المؤلفة تتحف بها الساحة الأكاديمية والفكرية والثقافية في البلد الذي أخلصت له المحبة والتقدير واندمجت في مجتمعه منذ أن وطئت قدماها أرضه في عام 1955 زوجة للدبلوماسي السوداني الدكتور محمد أحمد ياجي، إلى أن التحقت بالرفيق الأعلى.
تقول المؤلفة إنها أثناء تنقيبها في الكتابات عن تاريخ السودان لفت نظرها الكثير من المعلومات التي لا يمكن تصديقها عن الخليفة عبد الله، خليفة الإمام محمد أحمد المهدي مفجر الثورة المهدية ضد الحكم التركي المصري بالسودان في عام 1881م، فتساءلت كيف تكون هذه صورة رجل قاوم الغزاة لآخر لحظة؟ فالصورة التي ما زال يحملها الكثيرون، سودانيون وأجانب، عن الخليفة عبد الله ھي صورة حاكم متسلط ومتعطش للدماء، ظالم، شهواني، محب للسلطة، كثير الشك والغِيرة على حكمه. فقد كان غرض الإنجليز من نشر هذه الصورة هو الدعاية السياسية، وإثارة الرأي العام البريطاني لجعله يتقبل فكرة إعادة احتلال السودان تحت مزاعم الثأر لمقتل غردون، وتحرير هذا الجزء من العالم من وحشية الخليفة عبد الله وطغيانه. أما السودانيون فكانوا يلقون عليه باللائمة لإبعاده آل المهدي من الحكم، وسجنهم ونفيهم أو قتلهم.
والكثيرون منهم يسقطون من حسابهم سنوات حكم الخليفة عبد الله. وتقول المؤلفة إن هذا يذكرها بمشهد في مسرحية "النسر الصغير" الفرنسية حيث مر المعلمان اللذان كانا يعلمان ابن نابليون مادة التاريخ، على فترة الإمبراطورية سريعاً فسألهما مُتعجِّباً "يا لها من فترة غريبة، ألم يحدث أي شيء خلالها؟".
وبعد اطلاع الباحثة على الوثائق الرسمية والمخطوطات النادرة والخطابات المتبادلة بين المهدي وخليفته ومكاتبات أمراء المهدية تأكدت أن مؤلفات كثير من المؤرخين الأجانب كانت تفتقر للموضوعية وسار بعض المؤرخين السودانيين على طريقهم. ومن هنا قرّرت أن تدرس هذه الشخصية المهمة في تاريخ السودان دون تحيز، وأن تلقي الضوء على الجوانب المجهولة منها، وتبين الحقائق فيما يتعلق به من تهم زائفة، أو تبين الظروف الموضوعية المحيطة ببعض قراراته التي أسئ تفسيرها. وبذلت في سبيل ذلك جهداً مضنياً، حيث اطلعت على العديد من المؤلفات والوثائق الأصلية في مختلف أنحاء العالم ، وقابلت الكثير من الشخصيات ممن لهم صلة بتلك الفترة، واستمعت إلى ما لديهم من تجارب شخصية وروايات شفهية سمعوها من أسلافهم، وزارت المواقع المهمة التي شهدت ذلك التاريخ مثل موقعي معركتي كرري وأم دبيكرات. ثم صاغت ما توصّلت إليه في كتاب تناولت فيه جميع الجوانب المتعلقة بحياة الخليفة عبد الله قبل وبعد ظهور الثورة المهدية، وفترة توليه رئاسة الدولة المهدية عقب وفاة المهدي عام 1885م لمدة 13 عاماً رغم الصعوبات، حتى سقوطها عام 1898م على يد الجيوش الغازية بقيادة البريطاني هيربرت كتشنر، ثم استمراره في النضال لمدة سنة أخرى حتى قُتل وهو يحمل سلاحه على أرض المعركة بأم دبيكرات قُرب كوستي بالنيل الأبيض، مع استصحاب الظروف المحلية والإقليمية والدولية المُحيطة بتلك الفترة.
وخلصت الكاتبة إلى تفنيد الاتّهامات التي وجهت للخليفة عبد الله كما يلي:
كان قاسياً وبلا رحمة إزاء معارضيه: مُقارنةً بالطُغاة أو زعماء الدول الآخرين في عصره لم يكن الخليفة عبد الله أكثرھم قسوةً، لقد اضطر للقسوة على الذين عارضوه، فقد كان مؤمناً مخلصاً بالمهدية وكانت أقوال المهدي قانوناً لديه. وقد قال عنه المهدي عند فتح الأبيض "جميع ما يفعله بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أو بإذن منا لا بمجرد اجتهاد منه وليس عن هوى" وقد كان يشعر أنه موجه شأنه في ذلك شأن جميع من يعتقدون أنهم مسخرون لتنفيذ مشيئة الله وكان يتصرف وفقاً لما يعتقد انه إلهام رباني. ولم يكن يقتل رغبة في القتل وإنما حماية لنفسه وسلطته. وتقول الكاتبة يجب ألا يلام على قسوته تجاه إحدى القبائل السودانية، فقد استحقت العقاب لإدانتها بجريمتين كبيرتين بمقتضى القانونين العسكري والمدني. فقد فر معظمهم من جيش ود النجومي، فأصبحوا بذلك مُدانين بتهمة الفرار أمام العدو وكذلك الفرار من الجهاد. ولدى عودتهم إلى ديارھم، استأنفوا أعمال السلب والنهب واستحقوا لذلك عقوبتي الإعدام والقطع من خلاف. فعقابهم لم يكن رغبة في الانتقام وإنما كان الخليفة يطبق القانون. كما أن إحسانه لأسراه من الأوروبيين وعدم قتل أيٍّ منهم يعتبر دليلاً على رحمته.
كان بغيضاً لشعبه: تقول الدكتورة فيفيان إنه لو كان مبغوضاً من شعبه لانتهزوا الفرصة للتخلُّص منه عندما دارت عليه الدوائر بهزيمة كرري، بيد أن الذي حدث قد أدهش تشرشيل الذي قال إن الخليفة عندما وصل إلى الجمع الرئيسي من جيشه المهزوم بعد معركة كرري وجد الذين تبقوا من جيشه مُصابين بخيبة أمل ولم يكن بإمكان من معه أن يحموه، ولم يكن مسلحاً، وكان لدى جنوده أسباب وجيهة تبرِر ذبح ذلك الرجل الذي تسبب في كل ما عانوه من عذاب، ومع ذلك لم يعتد عليه أحدٌ، بل وجد السلامة والترحيب بين جنوده والتف حوله الأمراء الذين نجوا من المعركة.
ومرة أخرى عندما علم أن الغزاة في طريقهم إليه في أم دبيكرات أحل الذين تجمعوا معه عن بيعتهم له وعددهم 5 آلاف معلناً لهم أنه قرر مقابلة العدو والاستشهاد فرفضوا اغتنام الفرصة وقاتلوا معه حتى النهاية. وبعد وفاته في عام 1899م أصبح قبره مزاراً للناس مما أقلق الإنجليز قلقاً بالغاً حتى أن مفتش كوستي طلب من حاكم مُحافظة النيل الأبيض ھدم قبر الخليفة. وحتى اليوم لا يزال قبر الخليفة في أم دبيكرات مزاراً بارزاً.
الظلم وحُب الاستيلاء على ممتلكات الغير: ھناك حادثتان تؤكدان حرصه على العدل وتكذبان ما يتهم به الخليفة من الظلم. روى إحداھما الشيخ مجذوب مدثر إبراھيم الحجاز، والثانية رواها يوسف ميخائيل. يقول الشيخ مجذوب إنّ خادمة ھربت من سيدها ودخلت بيت الخليفة واحتمت وسط نسائه، فقدم سيد الخادمة شكوى ضد الخليفة عبد الله إلى الشيخ سليمان الحجاز الذي كان حينئذ قاضي الإسلام. فاستدعى الشيخ سليمان الخليفة إلى محكمته وأوقفه هو وخصمه وقال له إنّه قد أخطأ في حق ذلك الرجل، وأكد الخليفة وجود الخادمة في داره بعد أن استفسر عنها، فأعلن الشيخ سليمان حكمه وهو ردها إلى سيدها، ووافق الخليفة على الحكم. وبعد أن أصدر الشيخ سليمان حكمه غادر مقعده وقال للخليفة "هذا هو القانون وقد انتهت المحكمة. الآن اجلس أنت، فأنت الخليفة، ونحن رعيتك"، وأثنى الخليفة على صنيعه وطلب من القضاة أن يكونوا مثل الشيخ سليمان.
وكان لدى زعيم العبدلاب، ناصر ود جمعة، سيف شهير بصرامته وحدته. وسمع الخليفة به وأثار بعض الحساد حفيظته على ناصر. فاستدعاه وطلب منه سيفه، فأعطاه ناصر إياه. فتفحصه الخليفة ثم قال هذا سيف يبدو مثل أي سيف آخر وقد قال لي الناس إنه صارم وفريد. فردّ عليه ناصر بأن السيف كان يخص أسلافه وورثه من أبيه وقتل به أكثر من أربعين شخصاً في حرب أبي روف، وهو يقطع بحدته البندقية وحاملها إلى نصفين، ويشهد بذلك عدد كبير من الأنصار والأمراء. فأعاد إليه الخليفة سيفه وقال له: خذ سيفك يا ناصر لأنك رجل أمين ومستقيم. فإن كان الخليفة ظالماً كيف يجرؤ رجل على تقديم شكوى ضده وكيف تؤاتي قاضياً الشجاعة على أن يصدر حكماً بحقه ويدينه آمراً إياه بإعادة موضوع الدعوى؟ وكذلك الأمر فيما يخص قصة سيف ناصر جمعة الذي أرجعه الخليفة إلى صاحبه رغم رغبته في الاحتفاظ به.
أما حالة الزاكي طمل، فكان الخليفة قد اعتقله ولكنه اكتفى بسجنه حتى يدرس الاتهامات المُوجّهة ضده. غير أن أوامره تم تجاوزها. وعندما علم الخليفة بموت الزاكي، أمر في الحال أن يحل قاضي الإسلام، أحمد علي، مكانه في السجن وأن يُعامل بنفس الطريقة التي عامل بها الزاكي طمل. وفي كثير من الأحيان كان العمال وغيرھم من المُوظّفين المُكلّفين يسيئون تنفيذ الأوامر التي يعطيها الخليفة لهم، وكان الخليفة يصل دائماً إلى اكتشاف الحقيقة ويطبق عليهم العقاب في الحال.
أما اتهامه بأنه كان غيوراً على سلطته ومكّن أهله فترجعه الكاتبة لاضطراره إلى تقريب أهله الذين هم أهل ثقته بطبيعة الحال، والاعتماد عليهم في إدارة شؤون الدولة في بلد تتربّص أعداؤه به من كل جانب، ولم يكن بإمكانه أن يثق في الآخرين الذين كان همّهم السلطة ويريدون بدرجات متفاوتة أن تنتقل الخلافة إلى أحد أقارب المهدي، وهنا أيضاً ينسى الناس بسهولة كبيرة أنه خلال حياة المهدي، كانت جميع الوظائف المهمة يحتلها أقارب المهدي ومختلف زعماء قبائل الشمال والجزيرة، ولا يستثنى من ذلك سوى الخليفة عبد الله الذي أصبح بعد وفاة شقيق المهدي، القائد العام لجميع جيوش المهدي، وأخيه يعقوب وحمدان أبي عنجة وعثمان دقنة. ولم يكن بوسع الخليفة أن يعوّل إلا على أهله وعلى من راعوا آخر رغبات المهدي واعتقدوا بصدق أن الخليفة عبد الله هو خليفته حقاً من سائر القبائل. وهذا هو ما ينساه كل أولئك الذين كانوا يرون أنّ السُّلطة بعد وفاة المهدي كان ينبغي أن تؤول إما إلى الخليفة شريف أو إلى أحد الأشراف وينسون ببساطة أنّ المهدي قبل موته قد تخلى علناً عن الأشراف وتبرأ منهم تماماً. كما يتجاهلون المكانة التي كان يحتلها الخليفة عبد الله في حياة المهدي. وقد كان الخليفة أول من آمن بالمهدي، ومنذ سُقوط الأبيض شدد المهدي على دور الخليفة من بعده، واستخدم عندما عينه الكلمات التي قالها النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة الذي جاءوا يبايعونه في العقبة: "أنا منكم وأنتم مني" وقال المهدي متحدثاً عن الخليفة عبد الله: "هو مني وأنا منه"، وأضاف "من عصاه فقد عصاني"، كما كان يؤم الناس في الصلاة أثناء مرض المهدي مثلما كان يفعل سيدنا أبو بكر الصديق عند مرض النبي صلى الله عليه وسلم. أما مُحاولة تصوير الأمر بأنه صراع بين أبناء غرب السودان وسكان المناطق النيلية وأدى في النهاية لسقوط الدولة المهدية فتعتبره الدكتورة ياجي تبسيطاً مخلاً وتورد أدلة بأن الصراع قد يحدث أيضاً بين أميرين من قبيلة واحدة أو تحت راية واحدة مما يشير إلى أنه تنافس وطموح شخصي للقيادة، مثلما حدث في بداية حملة مصر، حيث تعرّض الأمير عبد الرحمن النجومي لشتى أنواع المُضايقات من عامل بربر ودنقلا محمد الخير عبد الله خوجلي، بالرغم من أن كليهما ينتميان لقبيلة واحدة وينضويان تحت راية واحدة هي راية الخليفة شريف، فاضطر الخليفة عبد الله للتدخل لفض الخلاف ففصل العمالتين وجعل على بربر محمد الخير، وعلى دنقلا ود النجومي. وحدث الأمر نفسه بين أميرين من الراية الزرقاء هما يونس الدكيم وأحمد علي من جانب، ومساعد قيدوم من جانب آخر وثلاثتهم من قبائل الغرب حيث ينتمي الأولان للتعايشة والثالث للهبانية فتدخل الخليفة وفصل أماكنهم.
كما كان الخليفة يضطر في أحيان كثيرة لفض الاشتباك باستدعاء الأمير للعاصمة أم درمان حتى يتمكن الآخر من أداء المهمة المُوكلة إليه مثلما حدث مع يونس الدكيم ومحمد عثمان أبو قرجة، حيث استدعى الأول ليتمكّن حمدان أبو عنجة من الإعداد لحملة الحبشة واستدعى الثاني حتى يتمكّن الأمير عثمان دقنة من شن هجوم على القوات الإنجليزية المصرية في سواكن. كما كان بعض العمال يعصون أوامر القادة، مما اضطر محمد ود بشارة مثلاً لتسليم دنقلا للإنجليز. وتقول المؤلفة إنّ هذه أمثلة فقط من أحداث عديدة.
ويتّهم بالعيش في رفاهية: الذين اتهموا الخليفة بحب الملذات، كانوا قساوسة أو رجالاً ذوي عقلية محافظة، أو فكتورية يرون أن تعدد الزوجات هو قمة التحلل والفجور. غير أن زيجات الخليفة كانت بسبب سعي القبائل المحيطة به للامتياز وللتبرك به من خلال عقد زيجات معه باعتباره مصدراً للبركة بوصفه خليفة المهدي. وكان هذا وسيلة لضمان مكانته وتعضيد سلطته في أوساط شتى القبائل. وكان يقتدي في ذلك بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفوق ذلك فإن تعدد الزوجات ظل قائماً في الشرق وفي أفريقيا. وهذا الاتهام بحب الشهوات، قبل أن يوجه إلى المهدي، ثم إلى الخليفة من بعده، كان قد وجه إلى النبي وامتد ليشمل الإسلام كله وينسون أن الإسلام قد خفض العدد إلى أربع زوجات شرعيات كان عددهن من قبل بلا حدود.
حاشية: ذكر مهدي السيد حفيد الخليفة عبد الله في تقرير صحفي هذا العام أن كبار الموظفين الإنجليز الذي تعاقبوا على السكن في منزل الخليفة بأم درمان، الذي صار متحفاً الآن، أضافوا له الكثير من التحديثات منها الحمام الذي يعمل بالمياه الساخنة والباردة، وكذلك الطوابق ولكن المستعمرون لم يشيروا لهذا الأمر، فأصبحت كأنها شُيِّدت في عهد الخليفة، ولعل هذا قصد منه أيضاً الإشارة إلى عيشه في رفاهية.
ويتهم بالجهل: ولكن أبناؤه كانوا ينكرون هذه التهمة دوماً، فهي لا أساس لها من الصحة. صحيح ان الخليفة عبد الله لم يكن عالماً بالمعنى الذي يفهم اليوم ولكنه لم يكن أمياً، فقد جاء من بيت علم حيث كان أسلافه لعدة أجيال شيوخاً معروفين بعلمهم وورعهم. وقد أسس جده ووالده حيثما حلا مدارس لتعليم القرآن الكريم، ومساجد وكان الناس يطلبون منهما البقاء بين ظهرانيهم لتعليمهم. ويكون من البديهي أن طفلاً ينشأ في أسرة من العلماء، لن يكون جاهلاً، خاصة مع وجود مدرسة قرآنية يتردّد الطفل عليها ويكون والده حريصاً على تعليم أولاده لحفظ مكانة الأسرة. ويصدق ذلك معلومة معروفة وهي أنّ المهدي كان قد كلف الخليفة بتعليم نسائه وبناته القرآن، وقد أكد ابنه عبد السلام أن والده كان يكتب بطريقة ورش السائدة حتى اليوم في شمال أفريقيا. والدليل الذي يذكر لتعزيز فكرة أن الخليفة كان أمياً هو أنه "لم تصلنا وثيقة بخط يده وأنه كان يستخدم عدداً كبيراً من الكتاب" وهذا دليل ضعيف للغاية، حيث إن من الطبيعي ألا تكون جميع الوثائق قد وصلتنا كما أن استخدام رؤساء الدول للكتاب وإملاء الرسائل عليهم شئ مألوف حتى اليوم ولا يدل هذا على أميتهم.
واتهم بالنفاق: ولكن على العكس تماماً كان الخليفة عبد الله مؤمناً متحمساً ومخلصاً، كان قلبه يمور باعتقاد عميق واقتناع بصحة المهدية. ولم يكن لديه أي شك في أن محمد أحمد كان هو المهدي المنتظر المكلف من الله بتطهير الأرض من الشر وإقامة العدل. وكان مُقتنعاً بالطابع الديني لخلافته وان الله تعالى اختاره على لسان نبيه ليكون خليفة للمهدي. وبهذه الصفة كان عليه أن يواصل إكمال ما بدأ المهدي من عمل وتحقيق حلم الفتوحات. وكان واثقاً من أن كل الأرض شرقاً وغرباً ستتبع آثار المهدي وتؤمن بدعوته. ولتحقيق هذا الهدف، جعل من السودان معسكراً كبيراً تنطلق منه جيوش الجهاد المكلفة بتطهير العالم كله من الشر وإعادة الإسلام إلى نقائه الأول. وكان الإيمان هو الموجه الذي قاد كل أعماله وربما كان يكمن ھنا سبب فشله الرئيسي. فالإيمان سلاح ذو حدين، من الممكن أن يكون مصدر إلهام وقدرة على تحقيق المستحيل، ولكن من الممكن أن يكون حاجباً عن رؤية الواقع وصم الآذان عن سماع صوت العقل. وكان عبد الله واثقاً في جميع أفعاله من أنه يطيع إرادة الله تعالى. ولم يكن يهمه سوى انتصار الدين. وقد رد على عروض ملك الحبشة بالسلام بقوله: عليك أن تسلم أولاً وتؤمن بالمهدية، ثم نتحدّث بعد ذلك عن السلام. وكانت هذه سمة جميع أفعاله تجاه مخالفيه. ومما يدل أيضاً على أن حفظ العقيدة كان كل همّه أمره لجميع علماء الدين الذين لحقوا به في طريقه للغرب بعد معركة كرري لمشاركته في القتال أمرهم بالرجوع إلى مناطقهم ومُواصلة التعليم فيها حتى لا ينطفئ نور الإسلام والمهدية. وكان الخليفة مقتنعاً بأن الله يخاطبه عن طريق النبي والخضر والمهدي. ومن الصعب على الذين يعيشون في عصر من الشك والعقلانية أن يفهموا تلك العقلية. وبالنسبة لكل شخص مشبع بالنظريات العلمية أو شبه العلمية، يكون اعتقاد شخص ما بأنه يتكلم نيابة عن الله، ويتصرف وفقاً لأوامره هو عمل شخص منافق يختفي تحت رداء الدين لبلوغ غايات فردية أو نيل ثأرات شخصية.
وتختم الدكتورة فيفيان ياجي كتابها عن الخليفة عبد الله بذكر صفات عن الخليفة اعترف بها حتى مخالفيه، فالجميع متفقون على انه كان حاد الذكاء ذا عقل راجح، وطاقة لا تنفد وشجاعة لا تقهر، وكذلك صبر قوي عند الشدائد، أي كان يتسم بجميع صفات البطل العربي المُسلم، ولكنه لم يتمكن من جعل السودان بلداً موحداً وقوياً، فالسودان كان بلداً شاسعاً، تسكنه العديد من الأعراق المُختلفة ومن الصعب السيطرة عليه سيطرة تامة وربما كان يمكن له أن يفعل ذلك لو أمهله الزمن.
ومع أن الجذوة الروحية للمهدية التي كانت هي مصدر قوة المهدية قد انطفأت باستشهاد الخليفة في أم دبيكرات ولكن الفكرة ظلت حية، فقد ظل تأثير المهدية باقياً طوال سنوات الاستعمار الإنجليزي وألهم الحركات الوطنية. وقد بينت المهدية أنه يمكن لجميع الأعراق التي تشكل السودان أن تتجمّع خلف راية يحركها هدف سام واحد، ناسين كل ما يفرقهم أو يقسمهم فقد كانت جميع قبائل السودان، حضراً وبدواً، ممثلين بعدد قل أو كثر في جيش الخليفة. كما أخذت فكرة الأمة تنبثق في عقول السودانيين تدريجياً، وناضل أحفاد من شيّدوا الدولة المهدية لضمان استقلال بلادهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.