راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرحلة الأخيرة إلى بري الشريف
نشر في الصيحة يوم 11 - 01 - 2023


يكتب: الرحلة الأخيرة إلى بري الشريف
الساعة تشير إلى الرابعة عصراً وطائرة الخطوط الأردنية الملكية تبطئ بداية للهبوط على أرض مطار (أثينا) الدولي.
راكبان بمقصورة الدرجة الأولى أصغرهما شاب قوي البنية، موفور الصحة، يرتدي سترة داكنة وقد ظهر عليه القلق. أما الآخر فكان في منتصف العقد الخامس، ورغم مظهر الارهاق البدني الذي عليه، إلا أنه استرخى هادئاً، مستطرقاً في نومٍ عميق لم يفق منه حتى على نداءت (المضيفة) بربط الأحزمة والامتناع عن التدخين وهي تكررها بأكثر من لغة.
كانت تلك عادته المحببة إلى نفسه. لازمته لأكثر من ثلاثة عشر عاماً قضاها متنقلاً ومسافراً إلى أركان الدنيا الأربعة ونسبة الأمان حوله تتدنى أحيانا لدرجة الصفر. كان دأبه أن ينام حين يجد نفسه داخل طائرة تقلع به من مطار (شارل ديجول) أو (ميونخ), أو حتى عبر قارات ثلاث, إلى سيول في جنوب شرقي آسيا. وأحيانا كثيرة ينام وهو يركب ميني كاب, أو تاكسي, يسير به عند الغسق, عبر أحياء لندن مع سائق لا يعرفه, عبر دروب لم يألفها, وربما أكثر من ذلك في لاندروفر (ضهره حار) يبقى بداخله أياماً في فيافي الصحراء الكبرى, عند واحات (تازربو) (والطلاب) و(الكفرة) متجولاً بين المعسكرات استعداداً لعمليات يوليو 76.
خرجا من المطار, وكان صاحبنا يعرف المكان ومثله كثير من مطارات القارة الأوربية كما يعرف باطن كفه. وما أن وجد نفسه داخل التاكسي حتى وضع قبعته على وجهه, يكمل نوماً قطعه. أما مرافقه الشاب فكانت ثمة أشياء تجول بخاطره. يعرف أن عشرات الشخصيات الاتحادية تنتظرهم في جوف هذه المدينة العريقة. قيادات جاءت من السودان, ومن أماكن شتى, ومعهم مئات الطلاب تدفقوا من بلاد أوربية. من رومانيا , المجر, روسيا, من لندن وحتى الهند والباكستان. كانوا جميعا على موعد مع صاحبه, يحملون مقترحاتهم وتطلعاتهم وأشواقهم وأيضاً احتياجاتهم. ثمة مؤتمر كبير يخاطبه هذا الرجل الذي بجانبه صباح الغد, العاشر من يناير 82.
السائق يسأل عن وجهتهم والإجابة بلا تردد فندق (الملك ميناس). وهناك استقبلهم مدير الفندق بترحاب اعتاده الضيف الكبير. بعد دقائق معدودة كانا في الجناح 202. جلس إلى حافلة السرير وطلب من مرافقه الشاب أن يتصل بمنزل (عصام) ليطمئن على وصول الجميع, ولكنه يريد أن يرى خاله الأستاذ أحمد خير أولاً وبأسرع ما يمكن, والذي كان قد وصل من الخرطوم الليلة الماضية بناء على رسالة عاجلة منه. كان في مرات عديدة يطلب من خاله أن يلقاه في باريس أو جدة وأحياناً كثيرة لندن.
كان أحمد خير يلبي النداء من غير تعجل, ولكنه في هذه المرة شعر بشئ يدفعه ليكون في الموعد المحدد. طلب من صاحبه أن يأتيه قبل كل ذلك ببعض الطعام. إنها المرة الأولى التي يطلب فيها طعاماً. كل الذين عاشوا معه يعرفون قدرته على البقاء أياماً بلا طعام. لا يطلبه أبداً. ولكن إذا وجده أمامه, أكل منه بنهم. أذكر أنني رافقته لزيارة المرحوم الصادق أبو عاقلة وقد جاء (لندن) مستشفياً.
اتصل بالدكتور إبراهيم مصطفى (رحمه الله) وكان مساعداً للدكتور مجدي يعقوب جراح القلب المشهور وطلب منه أن يوافيه بفندق (لندن ديرى) لمعاينة الصادق. كان المفروض أن نتعشى مع بعض أصدقائه القادمين من الخرطوم, فوصلناهم عند الثانية صباحاً, ووجدناهما ومعهما السيدان, عز الدين السيد وعثمان عبد الرحمن يعقوب.
جاءت المائدة العامرة بكل أصناف الطعام ولكن صاحبنا لم يأكل إلا من صنف واح. وكانت تلك عادته: أن يأكل من الذي يليه. خرج صاحبه مهرولاً ولم يصدق ما سمع. عاد بعد دقائق يحمل شطائر الشاورما. نقر على الباب يطلب الإذن بالدخول, ولم يجبه أحد. وعاد النقر, ولكن بلا رد. كان بكامل زيه. الجاكت والصديري وربطة العنق المحلولة عند أعلى الياقة. كانت عادته ألا يكمل ربطة العنق عند أعلى الياقة. وهو كذلك منذ أيام (اللاوزغلي) وفندق الكونتيننتال عند ميدان الأوبرا. أيام مواصلة الليل بالنهار استعداداً لمؤتمر الخرطوم. وفي استراحة الجزيرة ينام على عنقريب مقطوعة حباله, في غرفة الغفير, وهو يومذاك وزير مالية السودان. أيام السهر حتى الخامسة صباحاً في الوزارة, بين الملفات والقرارات والكل نيام. ربطة العنق محلولة ونظراته إلى أعلى في تحدي لا يعرف الانكسار, وسبحان الدائم الذي لا يموت. لم يكن مرافقه (أحمد) ليستبين ما حدث, ويستوعب ما جرى. كانت عقارب الساعة تشير إلى الخامسة وعشرة دقائق مساء، اهتزت الأسلاك وانتقل الخبر إلى كل مكان.
ومثل ما لم يكن (حسين الهندي) رجلاً عادياً كان رحيله الفاجع كذلك. في مسجد مولاي محمد بالعاصمة الليبية طرابلس كانت الصلاة على جثمانه. تحدث رجال كانوا يعرفونه. غاصوا معه في قلب الشدائد. تحدث عمر الحامدي الأمين العام لمؤتمر الشعب العربي, وتحدث عبد الله الزهمول محافظ طرابلس وسارت المدينة في موكب حزين تودع الراحل حتى المطار. وفي بغداد كانت الصلاة بمسجد كربلاء. إنه يوم عطلة بالعاصمة العراقية ولكن الآلاف خرجوا لوداع رجل سمعوه يقول في التلفزيون, عند اندلاع الحرب العراقية الإيرانية: نحن مع العراق في خندق واحد. نحن معه قاتلون ومقتلون.
كان الخميس 13 يناير 82 يوماً حزيناً في تاريخ الخرطوم حين دفن جثمان الراحل إلى جوار والده ببري الشريف. ولم تزل بعض أحداث ذلك اليوم محفورة في الذاكرة. تلك المسرحية التي أخرجها جهاز أمن الدولة المايوي, حين اشترط على الحكومة العراقية وصول الطائرة العسكرية التي حملت الجثمان عند الثالثة فجر الخميس, بينما أشاعوا وصولها ظهر الجمعة, وجاءوا بالجثمان إلى بري عند الثالثة فجراً, والناس أكثرهم نيام.
حجزوا المرافقين له بمكاتب الأمن ومنهم أحمد خير ومحجوب الماحي ومصطفى وقيع الله وصديق الهندي وسراج عباس كنين وفتح الرحمن البدوي. تعرضوا للاستجواب بلا رحمة, دون اعتبار للحالة النفسية التي كانوا عليها. لن أنسى هتافات (سيد أبو علي) المدوية بمبادئ حسين التي لن تموت, بحياة الديمقراطية والحرية. وقد تم اعتقاله بعد التشييع.
كما لن أنسى الخطاب القوي الذي ارتجله العم محجوب الماحي وكذلك الخطاب القوى للدكتور أحمد السيد حمد وهو يقف على عتبة (القبة) والجثمان على الأعناق, في شجاعة وقوة, متحدثاً عن الراحل معزياً الأمة السودانية في فقده.
كانت حياة الشريف أحداثا متراصة بعضها يكمل بعضاً. كانت له صولات وجولات مع ثوار الكنغو في الستينات. دخل الغابات الاستوائية مع أعوان الثائر الأفريقي (باتريس لوممبا). وفي بيروت، رغم الصداقات التي ربطته برجال الحكم والمال هناك, ورغم الحياة المترفة التي كان يعيشها أصدقاؤه بمنتديات بيروت, وصالونات الأدب والسياسية في الروشة وأبو حمدون وعالية, إلا أنه وجد فرصة لمساعدة ثوار الجزائر حين كانت (بيروت) جسرا للتواصل, وأيام النضال الشرس والمد الثورى ضد الفرنسيين. ولعل المغفور له, الرئيس الجزائري (عبد العزيز بوتفليقة) وكان أصغر المناضلين التسعة الذين خرجوا للجبل وفجروا الكفاح المسلح كنواة لجبهة التحرير الجزائرية مطلع الستينات, لم تنقطع صلاته بصديقه الشريف حسين, الذي لم يبخل على الثوار بالمال والسلاح.
ولكن الخطر الحقيقي بدأ يرمي شباكه حول الشريف ليلة 25 مايو 1969, يوم ان تأمرت قوي كثيرة, داخلية وخارجية على السودان. كانوا يبحثون عنه في كل مكان. بيانات الراديو والتلفزيون. مراقبة لجميع المداخل والمخارج والمعابر. ظهر ان الامر اكبر من القبض علي رجل سياسي كان وزيرا للمالية ونائبا برلمانيا عن دائرة الحوش. كان اكبر من ذلك بكثير, وكان إختفاءه وبقاؤه, حيا, امرا جللا لكثيرين كانت مايو ثمرة لمؤامراتهم واجتماعاتهم في الظلام. كان قلقهم له ما يبرره, فالذين ايدوا مايو وباركوها قبل ان يستجم الضباط المنفذون لها ويجف عرقهم, هم الذين خططوا لها خلف الستار.
ولكن (الحسين) تجاوز كل الفخاخ المنصوبة له, وكانت ارادة الله اكبر. وظل الشريف تحت المجهز لثلاثة عشر عاما, تعرض فيها للموت مرات . بعضها فى احراش (اثيوبيا) عند (الردوك), واخريات عند اطراف الصحراء الليبية, وهو علي ظهر سيارة (جيب) يجوب بها الوهاد والغفار, من (اجدابيا) جنوبا مرورا بواحات (جالو) و(أوجله) . مئات الاميال من الرمال المتحركة يسير فيها المرء اياما فلا يري عبر السيوف الرملية الخطرة ,ولا يسمع غير العواصف والرياح.
كانت ايامه فى (الكفرة) وما حولها عالما قائما بذاته. يقضيها مفترشا الارض. يأكل ما يأكله مرافقوه الشجعان امثال (ابوبكر سويلم)، و(ابراهيم ابو مليم), وغيرهم من الذين تركوا اسرهم واطفالهم في طرابلس وبنغازي, وامضوا سنوات بين فيافي الصحراء الكبري, يدربون ويساعدون اخوانهم من اجل القضية السودانية. اشتد الخطر علي الشريف يوم عبر الحدود الي الحبشة, وكل اجهزة الانقلاب تتعقبه. عاد الي الجزيرة ابا لنجدة الامام الهادى. و مرة اخري عبر الحدود للحصول علي السلاح , ولما علم باستشهاد الامام الهادي , تحرك حتي وصل جدة وقابل المغفور له الملك فيصل , وأخذ يعمل مع اخرين (الانصار وجبهة الميثاق الاسلامى ) لتكوين الجبهة الوطنية ضد النظام , بينما جندت مايو ابرع رجال امنها لمتابعة ومعرفة اخباره وتحركاته . فهاهو احدهم اصبح ملازما للسفارة السودانية في تونس حين كانت العلاقات مقطوعة مع طرابلس , ولعله نفسه الذي كان بمدينة ( جدة ) حين كان الشريف يعود الي السعودية كثيرا . اما في لندن فحدث ولا حرج . كانت سفارة السودان في ميدان ( سان جميس ) تعج بعملاء الامن الخارجي التابع لجهاز امن الدولة. كانت للشريف اجهزته المضادة التي ترصد هؤلاء وتعرف مخططاتهم . كان نظام مايو في حيرة من امره , رغم الرقابة اللصيقة علي الشريف واعوانه في الداخل والخارج . كانت احاديث الرجل تفيض باسرار النظام وخبايا لايعرفها الا من هم حول نميري والذي كان يرد علي الشريف بشتمه في خطبه العامة . استطاع الشريف ان يمتلك مجلة الدستور التي تصدر فى لندن ويشتريها من الصحفي اللبناني ( علي بلوط ) . كانت مجلة معروفة واسعة الانتشار وفر لها الشريف احدث المطابع وامهر الكتاب والمراسلين علي راسهم الاستاذ (خلدون الشعمة ) رئيسا للتحرير و ( بيير عقل ) مدير مكتبها في باريس وغيرهم . كان الشريف غالبا مايكتب الافتتاحية بنفسه . ومن خلال الدستور وبمساعدة طاقم متخصص كان الشريف وفريق خاص يعاونه , يجهزون الملفات عن مفساد النظام . عن الخراب الاقتصادي والعمولات .عن الدمار الاجتماعي الذي طفح كيله . صدر ملف ( الفساد ) وبعده (الملف الاسود ) ثم ( الانهيار ) لم يكتفي الشريف بالدستور فكانت له احاديث اسبوعية في صحف ومجلات المهجر , مثل ( الوطن العربي ) و( التضامن ) و( الكفاح العربي ) و (جريدة العرب الدولية ) وغيرها كان يتحدث الي اذاعات (لندن ) و ( مونت كارلو ) واذاعة ( صوت الوطن العربي ) التي اطلق عليها الرئيس السادات اذاعة نصف الليل وكان مديرها حين ذاك صديقا حميما للشريف حسين وهو المرحوم ابراهيم البشاري, والذي اصبح بعد صفاء العلاقات بين ليبيا ومصر , سفيرا لطرابلس بالقاهرة ومندوبا لها بالجامعة العربية.
كانت مجلة الدستور تصل الخرطوم اسبوعيا بالطائرة البريطانية في حاويات, (تركنات) , مغطاة في اعلي بمجعون اسنان (سيجنال) الذي يحبه السودانيون وكذلك بعض الملابس المشتراة من اسواق (شبربوش) , ويتم تخليص الحاويات بسرعة بمساعدة بعض رجال الامن الاتحاديين بمطار الخرطوم . اذكر منهم الاخ العزيز بابكر عبدالجبار والذى كان يساعد فى اخراج الحاويات من المطار . ويبدا التوزيع عبر شبكات متخصصة في سرعة وسرية واتقان. ولعل الاخوة (الحضراب) وفى مقدمتهم الاخ الحاج عمر حضرة وحسن حضره ومجموعتهم, كانوا يتولون امر الاستلام والتوزيع ضمن مهامهم الصعبة الاخرى فى تلك الفترة الحرجة من تاريخ النضال الاتحادى ضد سلطة مايو.
كان كثير من رجال النظام في الوزارات المختلفة يجدون مجلة الدستور داخل مكاتبهم في الصباح . كانت المعلومات عن السلبيات تصل الشريف بانتظام عن طريق اشخاص من امن مايو يتعاونون معه . بعضهم اصحاب رتب عالية , هم الان خارج الخدمة , ولكنهم فخورون بتعاونهم مع رجل وطني في قامة الشريف حسين . كان بعض رجال النظام علي اتصال بالشريف . يسلكون طرقا مختلفة حتي لاينكشف امر مقابلتهم له . احيانا يكون اللقاء في عواصم غير مطروقة . واذكر ان احد معاوني نميري ، مازال حي يرزق , تم ترتيب لقاء له مع الشريف بمدينة ميلانو الايطالية , وكان المسئول اياه يزورها لحضور مؤتمر دولي . وجاء الشريف بالقطار من روما . تحرك عند منتصف الليل ووصل ( ميلانو ) في الصباح . وتم اللقاء في نفس اليوم علي دعوة للغداء في فيلا مليونير اثيوبي من اصدقاء الشريف , يحمل الجنسية الايطالية ومقيم هناك منذ مدة طويلة . وبعد اللقاء والمغادرة , ظل الشريف قلقا علي الرجل فقد كان كشف امره يعرضه لبطش النظام , ولكن الامر مر بسلام . وعلي العكس تماما كانت هناك شخصيات مايوية علي المستوي العالي تقابل الشريف في وضح النهار ودون اي تحفظ او خوف . كانت لهذه الشخصيات صلات صداقه وثيقة مع الشريف رغم اختلاف وجهات النظر .ومن هذه الشخصيات علي سبيل المثال , السيد عز الدين السيد الذي كان ما ان يصل ( لندن ) وينزل بفندق ( شيرشل ) الشهير , حتي يلتقيه الشريف ويبقي معه لساعات . اما الفريق عمر الطيب فكان اتصاله المباشر بالشريف يتم بحسبانه رئيس جهاز الامن , وقد كرس جل وقته لابطال مفعول الشريف وجره الي مصالحة مع النظام , وقد فشل في المسعيين . ومن الوسائل الاعلامية التي كانت تصل بها رسالة الشريف للجماهير ( الكاست ) الذي يتم تسجيله وارسال نسخة منه , ويتم طبع المئات منها بالداخل وتوزيعها , ثم شرائط ( الفيديو ) التي يشاهد فيها الشريف وهو يتحدث صوت وصورة . كما كان الحج موسما اعلاميا قويا , تاتيه القيادات الاتحادية الرفيعة والوسيطة من مدن السودان المختلفة للتفاكر والتشاور وفق ترتيبات مسبقة . وهكذا اخذ الشريف في بناء معارضة قوية ضد النظام المايوي رغم خروج شركائه بالجبهة الوطنية ومشاركتهم للنظام وانخراطهم في مؤسساته وفق رؤيتهم , فكان اضراب السكة حديد الشهير, واضراب المزارعين واضراب المحاسبين . وتحمل الاتحاديون تنكيل النظام بهم وتشريدهم ومراقبتهم وكانوا علي يقين من سقوط النظام مهما طال الزمن . الذين عرفوا الشريف يذكرون قدرته علي التحمل , فهو يبقي جالسا احيانا علي كرسي لعدة ايام دون نوم او اكل . لا يعرف البروتوكلات والتعالي علي الناس وهو قد يجلس مستمعا ساعات طويلة لمزارع قادم من الجزيرة , تاركا موعدا هاما محدد مع وزير أو اي شخصية اخري .
كان انتماءه وخلقه ومأكله ومشربه اقرب الي الطبقات الشعبية السودانية وهو الذي عاش مع ابناء الطبقات العليا في العالم العربي . تعلم في كلية فكتوريا وهى يومذاك المكان المفضل لتعليم ابناء الملوك والامراء والاعيان . وكان صديقا حميما للكثيرين منهم. يتحدث الانجليزية بطلاقة والفرنسية بلهجة الصالونات الفخمة , فاذا تحدث اليك حسبته جاء من الريف لتوه في بساطة ورقته وادبه . وان جلس ليأكل تراه يغوص باصابعه في العصيدة والملاح , وقد سال الايدام علي سترته وكمه وقميصه . كان ( حسين ) لا يسمع نصائح اطباءه ويكره ان يذهب اليهم . وكان طبيبه الخاص البروفيسور ( سايمون ) يحاول اصطياده لمتابعة حالته , ولكنه لايجد الي ذلك سبيلا . وجاء صيف عام 1981م . لندن كعادتها تمتلئ بالسودانيين وكان السفر الي هناك متيسرا والسفارة البريطانية بالخرطوم تعطي تاشيرة الدخول دون تعقيدات . الكل يريد ان يري ويلتقى الشريف . بعضهم اصدقاء وبعضهم اعوان وزملاء في الحزب وقيادات جاءت بمواعيد مرتبة . وغيرهم يطلبون مساعدته في امور علاجهم ودراسة ابناءهم . كان الصيف عنده موسما للتعب والسهر المتواصل . وفجاة اختفي عن لندن لمدة اسبوع او يزيد . كان الاختفاء يعني السفر الي خارج الجزر البريطانية . ربما بغداد او باريس او الدار البيضاء . لا احد يجزم ولكن علي غير عادته , لم يكن الامر كذلك كان غيابه يعني القلق عليه من الذين يعملون معه , واكثرهم قلقا الذين هم فى الدائرة القريبة منه . كنت احبس نفسي داخل شقتي الصغيرة بضاحية (ارليز كورت ) . قلبي يحدثني ان ثمة امر يحدث ولكن ماهو ؟ . ورن الهاتف . كنا نعمل كفريق عمل واحد , رغم التكليف بمهام مختلفة احيانا . رن جرس الهاتف . جاءني صوته واضحا قاطعا بلا مقدمات . انه الدكتور جلال الدقير . الشريف يريد ان يراك قلت : متي ؟ قال : الان . وخلال نصف ساعة كنت معه في عربتة المازدا الزرقاء . لم نتبادل الحديث طيلة الطريق لم اساله ولم يشاء ان يفصح . ودخلنا مستشفي ( الاميرة جريس ) . انه الطابق العاشرفى ذاك المستشفى اللندنى الشهير . كانت الغرفة تبدو كأنها للعناية المركزة , ولكن لم تكن كذلك . او انني لم اتبين الامر في لحظته . كان تفكيري مشلولا. رايت ( حسين ) يرقد منهكا , و ظهر كمن زال عنه التعب , ولكن بقى اثره . كأنه خرج من معركة انتصر فيها بعد ان استهلكت قواه . واخرجني من شرودى , صوته الذي جاء قويا بلا تعب او وهن . هو صوت الشريف حسين في احسن حالاته . قال لنا انه سوف يغادر المستشفي بعد يوم او اثنين وان الحج علي الابواب . واخذ في اصدار التعليمات , تذاكر للسفر ، تاشيرات جوازات , قوائم من قيادات حزبيه للتحرك من السودان . خرجنا من المستشفى . وفى الطريق حدثني جلال عن ازمة قلبية شديدة تعرض لها , ولكنه تجاوزها بفضل روحه المعنوية العالية وقدرته على التحمل وبإرادة المولى سبحانه وتعالى. كانت حجة للوداع . ولعل الذين التقوا به هناك يذكرون الايام الخوالى فى تلك الديار المباركة . يذكرونه وهو يسابق الزمن .استقبال ووداع . مناقشات ومداولات من بعد صلاة العشاء الى نداء الفجر. تلك ايام محفورة فى الذاكرة . لعل بعض الاشقاء واذكر , منهم صديق الهندى و مضوى والسمانى الوسيلة والباقر احمد عبدالله وفتح الرحمن البدوى , وغيرهم من بقية العقد الفريد , يذكرون تلك الايام وهم يتحلقون حول الحسين , يضعون اللمسات الأخيرة لمؤتمر الحزب الذى كان المقرر له العاشر من يناير 1982 . وما ان انتهى الحج وانفض جمعه , حتي اصابته نوبة قلبية اخري ,اكثر قوة من سابقتها , وتجاوزها بعد فترة من المعاناة والتعب قضاه فى ضيافة بعض اصدقائه فى المدينة المنورة . سافر الي الاردن بدعوة من العاهل الاردني الملك الراحل حسين . كان عليه ان يجرى بعض التحاليل الطبية هناك ثم يعود بعد مؤتمر اثينا ليمضى فترة علاج ونقاهة . قضى فى عمان يومين وغادرها الي اثينا ليلحق بالمؤتمر الذي دعي ورتب له . قيادات اتحادية , كوادر حزبية , شباب, جاءوا جميعا للقائه , اوراق عمل وبرامج عن مستقبل الحركة الاتحادية كانت في انتظار انطلاقة البداية .كان هو حاديها وحامل مشعلها , ولكنه رحل بعد وصوله الي فندق ( الملك مينا ) بدقائق ولم يلتقي بأحد.
………………………………………………
9 يناير 1982م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.