د. الوليد مادبو "حين يُستهدف الأبرياء، يُنتهك جوهر إنسانيتنا. الصمت ليس حيادًا، بل تواطؤ" كوفي عنان ما بعد المجزرة الكيميائية في السودان ليس كما قبلها. إنها لحظة فاصلة، كسرت ما تبقى من وهم الحياد ودفعت الضمير الإنساني إلى حافة الحقيقة: ما جرى ليس مجرد خطأ عسكري، بل جريمة حرب مكتملة الأركان، تكشف عن الانهيار الكامل لمؤسسات الدولة وتحول الجيش السوداني إلى أداة قتل جماعي بيد التحالفات القديمة والولاءات الضيقة. تقارير طبية وشهادات ميدانية من دارفور والخرطوم وأم درمان توثق استخدام أسلحة يُشتبه باحتوائها على مواد كيميائية في مناطق مأهولة بالسكان. لم تكن تلك هجمات عرضية، بل قصفاً ممنهجاً يستهدف المدنيين العُزّل، ما يرقى لجرائم ضد الإنسانية، تتطلب مساءلة لا تعرف التسويف. في ظل هذا الواقع، لم يعد مقبولاً أن يلوذ المجتمع الدولي، بما في ذلك الأممالمتحدة والاتحاد الإفريقي، خلف عبارات "القلق العميق". فالصمت على جرائم الأسلحة الكيميائية تواطؤ صريح، والتهاون في المحاسبة ضوء أخضر لمزيد من الفظائع. ما هو مطلوب فورًا: تحقيق دولي مستقل، وإحالة كل المتورطين، بمن فيهم قيادات الجيش، إلى المحكمة الجنائية الدولية. كما صار فرض حظر جوي فوق المناطق المدنية ضرورة إنسانية عاجلة، لحماية الأرواح التي ما زالت تحت رحمة القصف. لقد فقد الجيش السوداني صفته كمؤسسة وطنية. تحول إلى ميليشيا بملامح رسمية، يتكون من بقايا تحالفات الإسلام السياسي وضباط خاضعين لولاءات قبلية ومصالح فاسدة. لم يعد يحمي الوطن، بل يحكمه بالإرهاب الداخلي. استخدام الأسلحة الكيميائية ليس حدثًا معزولًا، بل تتويج لسلسلة طويلة من الانتهاكات: من قصف المستشفيات والمخابز، إلى مذابح الجنينة وكرينك وكتم، إلى حملات التطهير العرقي في غرب دارفور. جميعها موثقة بالأدلة، بالصوت والصورة. الواقع لم يعد يحتمل التجميل أو الإنكار: لا مستقبل للسودان في ظل جيش تقليدي يحتكر السلاح ويستخدمه ضد شعبه. الإصلاح لم يعد خيارًا، بل صار التفكيك الكامل واجبًا وطنيًا. المطلوب جيش جديد، بعقيدة دفاعية واضحة، تحت قيادة مدنية، ينشأ من الصفر لخدمة المواطنين لا قمعهم. المحاسبة يجب أن تكون الخطوة الأولى، والعدالة هي الطريق الوحيد نحو السلام. في هذا السياق، تُذكرنا الصحفية رشا عوض، في مقالها "الجيش المصري في السودان"، بأن مؤسسة الجيش لم تكن يومًا وطنية خالصة، بل وُلدت خاضعة للنفوذ المصري، وتاريخها سلسلة من الخيانات لمصالح السودان وسيادته. هذه التبعية البنيوية تفسر انحياز الجيش الدائم ضد أي مشروع وطني مستقل. السودان لا يحتاج إلى اتفاقية جديدة تعيد تدوير جنرالات الحرب وتكافئ مجرمي السلطة، بل يحتاج إلى قطيعة جذرية مع الدولة العسكرية وميليشياتها الإسلامية. أي تأخير في هذه القطيعة يعني المزيد من الضحايا، المزيد من المقابر الجماعية، والمزيد من البيوت التي تنهار على رؤوس أصحابها تحت القصف الكيماوي. إن استخدام الأسلحة الكيميائية ليس مجرد جريمة، بل صرخة دامية تدعونا لبدء جديد، بعيدًا عن المؤسسة العسكرية والدولة الدينية. آن الأوان لدستور جديد، ومؤسسات مدنية نزيهة، وأدوات حكم لا تُلوثها دماء الأبرياء.