:: السبت الفائت، بقاعة جامعة الخرطوم، مُخاطباً مؤتمر ثورة ديسمبر للنهوض بالتعليم، والذي نظّمته وزارة التربية والتعليم، أكّد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بأن مجّانية التعليم حَقٌ أَساسيٌّ وأَصيلٌ، و(لولا مجّانية التعليم في الستينيات والسبعينيات لما خاطبتكم اليوم)، وموضحاً بأنّ الفاقد التربوي من أكبر المُهدِّدات الأمنية والاقتصادية، وقد صدق.. والأخطر من هذا، ما عليه حال الناس والبلد، من ضنكٍ ومُعاناةٍ، يُساهِم في رفع نسب الفاقد التعليمي..!! :: وفي الخاطر حدثان سردتهما في مارس 2019، حدثا في ذات اليوم.. حيث أعلنت رواندا إطلاق قمر صناعي خصيصاً لتزويد مدارس الأرياف بخدمات الإنترنت (مجاناً)، وقالت حكومة رواندا: (كان ضرورياً إنفاق ما يقارب الاثنين مليار دولار لمد مدارس المُجتمعات النائية بخدمات الإنترنت).. ولكن في بلادنا، حَيث مَوطن المَآسِي، بالتزامُن مع انطلاقة خدمات القمر الصناعي الرواندي، تحدثت أخبار الصحف عن إحدى كوارث التعليم العام..!! :: قالت صحف ذاك اليوم بالنص: أكّد مُعتمد البطانة، بولاية القضارف، إغلاق ما يزيد عن (60 فصلاً) من فصول الصف الأول بمدارس مرحلة الأساس بمحلية البطانة، وذلك بسبب الجُوع والتسرُّب، مُوضحاً بأنّ بعض المدارس شهدت تسرُّباً أفضى إلى (اختفاء فصول)، وهُناك انخفاضٌ مُريعٌ في عَدَدَ الجَالسين لامتحانات شهادة الأساس بمدارس المحلية.. وعَلَى سبيل المثال، هناك أربعة تلاميذ في المدرسة الواحدة..!! :: هكذا الفرق.. في رواندا يصرفون المليارات ويطلقون الأقمار لتوزيع خدمات الإنترنت مجّاناً على مدارس الأرياف، وهنا يغلقون فصول أهم مراحل التعليم بسبب جوع التلاميذ وارتفاع نسب التسرُّب.. وليست في البطانة فقط، بل في قلب الخرطوم، يتوافد الصغار لغسل السّيّارات، وذلك مُنذ الصباح الباكر وحتى نهاية اليوم الدراسي، أي يتسرّبون من الفصول، ثُمّ يُغادرون إلى ديارهم بجنيهات بالكاد تسد رمقهم وأُسرهم..!! :: ولذلك لم يكن صادماً تصريح وزير التربية والتعليم البروفيسور محمد الأمين، بأن أكثر من (3) ملايين طفل في سن المدرسة لا يجدون مَقعداً للدراسة في بلادنا، وذلك بنسبة استيعاب لا تتجاوز (37%)، مُقارنةً مع دول الجوار التي تَصِل فيها نسبة الاستيعاب إلى أكثر من (80%).. هذا حجم تسرُّب الصغار.. وبين الحين والآخر تُذكِّرنا السُّلطات والمُنظّمات عن مخاطر الأمية، ثُمّ التذكير أنّ بالسودان (مليون أمي)، وهذا ما يُعادل ثُلث السُّكّان تقريباً..!! :: وليس في الأرقام والنسب عجب، فعندما يتم تجفيف المدارس من الكُتب بحيث تُباع في الأسواق، من الطبيعي جداً ألا ينجح أبناء الفقراء، ومن الطبيعي للغاية أن يرتفع مُعدّل الأمية إلى ما يُقارب ثُلث السُّكان.. وعفواً، ليست الكُتب وحدها هي التي تُباع في (الأسواق)، بل كل التعليم في بلادنا – أصبح كَمَا الحج – لمن استطاع إليه سبيلاً.. ولهذا تتّسع دائرتا التسرُّب والأمية في المُجتمعات الفقيرة..!! :: فالتعليم العام يجب أن يصبح مَجّاناً في الواقع، وليس في الشعارات والخُطب والمُؤتمرات.. وكذلك يجب تعديل وتفعيل قانون الطفل بحيث يكون رادعاً لمن يستغل الأطفال في الأعمال، وأن يطال العقاب أولياء الأمور في حال تجاهُلهم تعليم أطفالهم، ويطال أيضاً مَن يستغلهم في الأعمال.. مُعاناة الأطفال في الأسواق وفيافي الذهب والمراعي من مآسي البلد، وليس من العدل أن تكتفي السُّلطات برصد وتوثيق نسب التسرُّب والأمية وغيرها من مُهدِّدات الأمن والاقتصاد..!!