عاد إعلان أديس أبابا الموقّع في يناير (كانون الثاني) الماضي بين تنسيقية «تقدم» و«قوات الدعم السريع» ليتصدر النقاشات والحوارات في الأسافير السودانية بعد عشرة أشهر من توقيعه، بين المهاجمين له والمدافعين عنه. ولعل مسألتي الهجوم والدفاع عن الوثائق السياسية بناء على المواقف السياسية المسبقة ليستا أمراً جديداً في السياسة السودانية، فغالباً لا يتم تحديد المواقف من الوثائق والاتفاقات بناء على نصوصها، بل بناء على مُوقّعيها، وهذه من آفات السياسة السودانية المزمنة. صدر هذا الإعلان في يناير 2024، وقد سبقته اجتماعات للقوى التي كونت «تقدم»، وبعد انتهاء الاجتماعات أعلنت قيادة «تقدم» أنها ستسعى للقاء طرفي الحرب: القوات المسلحة و«قوات الدعم السريع»، ثم دفعت بطلب رسمي لقيادة الطرفين، وقالت إنها تلقت موافقة مبدئية من الطرفين، وإنها ستستمر في جهودها. لكن بدا أن لقيادة القوات المسلحة مواقف مترددة وبعض الشروط، فيما استجابت «قوات الدعم السريع» وأرسلت رداً إيجابياً، وطلبت عقد اللقاء في أديس أبابا. وفعلاً، انعقد اللقاء الذي استمر يومين، وأسفر عن توقيع الإعلان الذي نُشر على نطاق واسع، وأعلنت قيادة «تقدم» أنها ستحمل النقاط نفسها لنقاشها مع قيادة الجيش. ووجد الإعلان ردود فعل متفاوتة؛ رحبت به بعض الأطراف، فيما رفضته مجموعات أخرى استنكرت مجرد اللقاء بقائد «الدعم السريع»، ورأت في ذلك خيانة وطنية. ترددت قيادة الجيش في الأيام الأولى في إبداء ردود فعل على الاتفاق، لكن كان واضحاً عدم ارتياحها له، ثم أرسلت رداً مطولاً يحمل شروطاً قبل لقاء «تقدم». وتكاثرت الشروط والملاحظات، ومن بينها أن يتم اللقاء في بورتسودان. ثم بدأ الهجوم عبر الإعلام الرسمي على الإعلان وعلى قيادة «تقدم»، وكان ذلك إعلاناً بوأد أي محاولات للقاء بين الطرفين. نأتي لما حمله الإعلان من نقاط ومواقف؛ فقد جاء في ديباجة وثلاثة أجزاء، هي أولاً: قضایا وقف العدائیات، وإیصال المساعدات الإنسانیة، وحمایة المدنیین. ثانیاً: قضایا إنهاء الحرب وتأسیس الدولة السودانیة. ثالثاً: الآلیات. ومن خلال هذه العناوين يتضح أنه تركز حول سبل إنهاء الحرب وحماية المدنيين، ثم تصور أولي لمرحلة ما بعد نهاية الحرب. حمل الجزء الأول تعهدات «الدعم السريع» باستعدادها التام لوقف عدائیات غیر مشروط عبر تفاوض مباشر مع القوات المسلحة، وفتح ممرات آمنة لوصول المساعدات الإنسانیة، وتهیئة الأجواء لعودة المواطنین لمنازلهم في المناطق التي تأثرت بالحرب. وحمل الجزء الثاني المبادئ الأساسية للحل السياسي، ومنها التأكيد على وحدة السودان شعباً وأرضاً، والمواطنة المتساوية، وأن تقوم وحدة السودان على الاعتراف والاحترام للتنوع والتعدد السوداني، وأن یكون الحكم في السودان فيدرالیاً ومدنیاً ودیمقراطیاً، وتنفیذ برامج شاملة لإعادة بناء وتأسیس القطاع الأمني، للوصول إلى جیش واحد مهني وقومي یخضع للسلطة المدنیة، لتضع حداً قاطعاً لظاهرة تعدد الجیوش (القوات المسلحة، «الدعم السریع»، الحركات المسلحة، الميليشيات)، مع ضمان خروج المنظومة الأمنیة من النشاط السياسي والاقتصادي، وإطلاق عملیة شاملة للعدالة الانتقالیة، والقیادة المدنیة للعملیة السیاسیة، مع الالتزام بمشاركة واسعة لا تستثني إلا المؤتمر الوطني/ الحركة الإسلامية… إلخ. ثم تحدث الجزء الثالث عن الآليات، وهي: اللجنة الوطنیة لحماية المدنيين، واللجنة المشتركة للوصول لوقف وإنهاء الحرب وبناء السلام، واللجنة الوطنیة الدولیة للتحقیق حول من الذي أشعل الحرب، واللجنة الوطنیة المستقلة لرصد كافة الانتهاكات في جمیع أنحاء السودان، وتحدید المسؤولین عن ارتكابها، وذلك بما یضمن محاسبتهم. وقالت الوثيقة إن التفاهمات الواردة في هذا الإعلان ستطرح بواسطة تنسیقیة «تقدم» لقیادة القوات المسلحة، لتكون أساساً للوصول لحل سلمي ینهي الحرب. لا يبدو الإعلان غير مجموعة مبادئ أساسية للحل الشامل، قد يتوافق معها الناس أو يختلفون في بعض نقاطها، لكنها قطعاً لا تكشف عن تكوين تحالف سياسي أو دعم من أي نوع ل«قوات الدعم السريع»، أو انحياز له، وهو شبيه جداً بإعلان جدة الذي وقّعت عليه القوات المسلحة مع «قوات الدعم السريع» في مايو (أيار) 2023، فلماذا صدرت مواقف عنيفة معادية له؟ الإجابة موجودة بدرجة ما في مقدمة هذا المقال، لكن للأمانة هناك نقطة يثيرها البعض، وهم ليسوا بالضرورة من خصوم «تقدم»، وهي أن «قوات الدعم السريع» لم تلتزم بهذا الإعلان، بل عملت عكسه، وبالتالي فإن هذا سبب كافٍ لكي تعلن «تقدم» تخليها عن الإعلان، وتغلق الباب أمام من يتهمها بالتحالف مع «قوات الدعم السريع»، وتشكيل سند سياسي لها. هذه وجهة نظر قابلة للنقاش، لكن هل يظن أحد أن خصوم «تقدم» سيرحبون بذلك ويقولون إنها لم تعد حليفاً ل«الدعم السريع»، وإنها «عادت للصف الوطني؟!».