لا يضحك سياسيو الاحتيال السياسي على ضحاياهم، وإنما على النقيض يكشفون خواء أخلاقيا، وروحيا، وإنسانيا. فعندما يفكر واحد من هذه الفئة المضرة في اللحاق بالسلطة من بعد معارضة، أو صمت، فإنه يتفنن في صياغة بيت الشعر السياسي المبرر لحيازة الوزارة، أو إدارة المرفق الخدمي. أحدهم قال مؤخرا إنه فضل أن يكون بجانب وطنه صدا لمؤامرات إسرائيل. أي أن وجود هذا الشخص الكريم في السلطة، كما رأى، سيجنب البلاد، هكذا دفعة واحدة، مغبة الفعل الإسرائيلي العتريف، وهو الغاشم. والغريب أن إسرائيل صامتة هناك بينما يعملقها هذا الأخ، وكذلك تفعل صحافة تيتاوي، وقصيدة روضة الحاج، وشعوذة أو تعاويذ إسحق أحمد فضل الله، حتى أن هذين الأخوين، وبينهما أخت، أماتوا في الناس الإحساس بمقاومة بني إسرائيل كما قاومهم السادات في معركة العبور إلى أن رضخت بلاده إلى الصلح. فمادام أن هذه الدولة التي تترجم أضعاف أضعاف حجم ما يترجم العالم العربي بأكمله بدت بهذه القدرة الخارقة على تحريك الجراد نحو مزارع أهلنا الطيبين في قنتي، والباوقة، والسليم، فإن على العقل السوداني في (نسخته) العربية أن يرعوي، ولا يتكلف، أو ينتفخ، كالهر يحاكي صولة الأسد. على هذه الأسس التربوية، والإعلامية للبناء الوطني المائل، ترسخ الاستبداد، وتبعثر الإقليم، وتاه الإنسان. ونخشى أن يأتي يوم نجد فيه المد الإسرائيلي وقد اخترق مزاج البرامجيين الإذاعيين كما تنوي “الصين الشيوعية” اختراقنا عبر ملابسات مفاوضاتها لحيازة ملكية استثمارية في حوش التلفزيون السيادي. وللأسف أن المفاوض الوطني لم يكن حريصا في تحجيم نيات الصين التي كادت أن تدير القصر الجمهوري. وليت البرلمان لا “ينط” من أمر رفضه، في مرحلة القراءة الثانية، فكرة استثمار الصين في الشاشة البلورية. نأمل ذلك حتى لا يصحى الريس يوما وقد وجد أن “سادتي آنساتي الجزارين وستات الشاي” تحولت في الشاشة إلى “تشنكو سجمكو جزارينكوش..تسنكو شربتو شاي ستاتو”!. في الواقع أن أحجام التصريحات التي يبرزها المهرولون الجدد الظرفاء إلى بوابة السلطة تختلف في مقادير مواعينها الفكرية، أو الثقافية، أو الأخلاقية. فبعض المثقفين الذين ينضوون حديثا تحت مظلة السلطة يركزون على مخادعة العقل الجمعي وتخويفه بما لا يحب طبعا. فإسرائيل تبقى عند المنضويين الجدد من غير ما تحتسب تجارة رائجة ورابحة لهم حين يحملونها سبب عيشهم على الحكومة. طبعا بعضهم الآخر، أي المثقفين، يفضل النطق بالصهيونية عوضا عن إسرائيل مظنة أن إقناع شعبنا بسبب توزيرهم سيكون أبقى وأمضى. آخرون من المستقطبين إخوانيا من سدنة القلم، والأكاديمية، والدبلوماسية المعاشية، يفلسفون الأمر ويكيلون السباب للإمبريالية الغربية بوصفها حاملة لقيم التفسخ الأخلاقي، كما يصرح كثير من أهل الإفتاء الشرعي وغير الشرعي، وبالتالي يطرقون ركن الجنس في العقل الذكوري حتى يظهروا الإنسان الغربي نقيضا للعفة، أو الشرف. وهكذا يهيج السلفيون المتطرفون مشاعر أهلنا البسطاء. أما السياسيون الغشاشون، ضعاف التأهيل الثقافي، فإنهم يبررون ضمهم بأسمائهم إلى دفتر مرتبات الحكومة بأن البلاد تحتاج للتضامن وتناسي خلافاتها. وآخرون يقولون بضرورة (تحكيم صوت العقل) وتدعيم (الصف الوطني) أو (تمتين الجبهة الوطنية) أو (مواجهة التآمر الخارجي)، إلى آخره. صحيح أن (نظرية المؤامرة) ضاربة في أطناب العقل السوداني، وتحتاج إلى وقت طويل لدحضها. ولكن حين لا تجد الأخت التي تترك حزبها وتتجه للمؤتمر الوطني غير إسرائيل، سببا للتبرير، فهذا دليل على الخواء في تحديث أسباب الدخول إلى السلطة. والحقيقة أن أسهل شئ للسياسي الغشاش هو تبرير الخطأ. وللأسف بعض أتباعه يدافع عنه، ويدفع النقد الحادب دونه حين نرفض نحن بموضوعية هذا التبرير الساذج كتابة، أو شفاهة، أو بالكاريكاتير. النوع الآخر من المحتالين سياسيا يمارس السكوت على الاستبداد الذي يدفع ثمنه بنوه، وأحفاده، وخالاته. تراهم في كل ملتقى ينادون بضرورة الحوار الوطني عوضا عن تجديد ذكرى إكتوبر الثورة، وأبريل الانتفاضة. هذا الصمت على جرائم الاستبداد، واستعداد هذا النوع من السياسيين الدائم للهرولة إلى أي مؤتمر أو ملتقى حكومي للحوار، يتيح لهم التحرك في المنطقة الضبابية، وقضاء حوائجهم الكثيرة بينما تضيق الدوائر على الشعب كل صباح. طبعا نتفق مع هؤلاء (الحواريين الوطنجية) بأن لا عاقل في ظهر الكون يرفض الحوار إذا كان حقا يفضي إلى نتائج إيجابية تقلل الصدامات الأيديولوجية، والإثنية، وما خفي منها. ولكن للأسف لا يتفق الحواريون معنا جهرا بأن الاستبداد أصلا لا يعرف لغة الحوار. ومع ذلك فإن هؤلاء الوطنجية الأونطجية يدركون ضمنيا بأن الحكومة تعني بالحوار استقطاب المكونات المسيسة كلها، أو هضمها في كرشها و”تفجير” مطالبها، وهكذا يحاولون الضحك على ذقوننا. وهذا الاستقطاب المعني يشمل حتى الطيبين الذين يدركون، أو لا يدركون، القصة وراء فكرة شركات الإسلام السياسي لتكريم الإبداع في شخص الأديب الراحل وشخص الذين يشاركون في الفاعليات الثقافية للشركة! قال حوار قال. منذ أن أقام الاستبداد الوطني أعمدته في تاريخ الدنيا العربسلاموية لم يتنازل في حوار لصالح فنائه. وما كان تاريخ الصراع بين السلطويين والوطنيين إلا الصراع القائم على محاولة كل طرف على نفي الآخر. السلطويون الديكتاتوريون، من جهة، يريدون من دعاة الديموقراطية الصمت على برامجهم الفاشلة، ولذلك يسعون إلى تحجيم فرص التعبير وقصرها على الراضين بالتطبيل للخطوات “العديلة” لقائد الأمة. والديموقراطيون، من الجهة الأخرى، يريدون فقط أن ينجلي بلاء عصبة الديكتاتورية التي تستخدم الدعوة للحوار كوسيلة للالتفاف على النهج الجماعي في العمل الوطني. وهذا النهج يقوم أول ما يقوم على الحرية والديموقراطية، والتنافس الحر لكسب عقل الجمهور. إذن فإن الحجتين الأساسيتين لمحترفي الاحتيال السياسي في رد هجوم القائلين بانتهازيتهم هما حماية الوطن وسط مؤامرات يظنونها حامضة، والإيمان بالحوار وسيلة لحل مشاكله. ولكن إذا كان هناك شهود ثقاة فإنهم سيلحظون، حتما، أن أعضاء حكومة الاستبداد، والمحتالين السياسيين، ومحترفي الدعوة إلى الحوار يمثلون المؤامرة الحقيقية لإضعاف الوطن وحمايته. فالتآمر على الوطن يبدأ بتكميم الأفواه، وخلق اتجاه واحد للرأي، وتحطيم فاعلية النقابات، ومحاربة الإبداع والمبدعين، ومحاصرة النشر الثقافي، وسن رقابة قبلية على الصحف، والمحاباة الآيديولوجية والإثنية في توظيف الأجهزة الخدمية، وغيره من الكدر السياسي الذي يلازم بناء القطر المتعدد الأقوام. وما دام أن هذا هو الواقع المحمي بمدافع الحكومة الثقيلة فعلى أي أساس يبنى الوطن بالشكل الذي يحقق تقدمه؟. وعلى أي مرجعية يتم الحوار؟ وما هي قيمته إن كان الطرف الآخر لا يجد حتى الفرصة للكلام الحر في لحظة استعداده للرد على الطرف المدجج بالسلاح، والمحصن بكل أنواع الدعم الحكومي؟. سياسيو الاحتيال حين ينظرون بأي منهجية إلى الواقع سيجدون أن لا تأثير إيجابي لانضمامهم، وانضمام غيرهم، إلى السلطة في واقع الناس. ولكنهم يخادعوننا، ويخادعون الله ورسوله، وأي إله وشعب خدعوا. الشهود الثقاة أيضا سيجدون كذلك أن لا قيمة لحوار مع حكومة دلت كل التجارب على أن الحوار بالنسبة لها لا يعني غير استيعاب المخالف في الرأي، وتوريطه في الفساد، والتحايل على ما تم تدوينه في مسودة الاتفاق معه. وهناك أمر لا يمكن إغفاله وهو يتعلق بطبيعة الآيديولوجية الإسلاموية وعلاقتها بالآخر الوطني. فهذه الآيديولوجية يا أهل الفكر، والأكاديمية، إذا قمت بدراستها، وأنتم المتخصصون في الفكر السياسي وعلوم الإجتماع الأخرى، ستصلون إلى حقيقة أنها آيديولوجية مميتة للآخر، وتأسست على برنامج لا يأبه بغير رؤاها الصمدية القهرية. أما إذا درس مفكرون كبار هذه الآيديولوجية ولم يخلصوا إلى هذه النتيجة بناء على واقع الحال، وبناء على تجاربهم، ومرجعيات التاريخ، والشواهد، ومقولات روادها، فعلى جيل الأنترنت أن يبحث، وحده، للمعرفة عبر ماكينة قوقل، عوضا عن اعتماده على رموزنا المثقفة التي جعلت خلاصات البحث مسيخة، ومكررة، ومتسخة.