ما زال السودان جنوبا وشمالا يعايش الحدث التاريخي الكبير لحظة بلحظة، ما زال شعب الجنوب يقف أمام صناديق الاقتراع ليصوت على تقرير مصيره، يقف في صفوف طويلة متراصة عاقدا العزم على التصويت للحرية والكرامة والانعتاق من أسر هذه الدولة بعد أن ثبت له من تجربته التي امتدت لخمس وخمسين عاما أن لا حرية ولا كرامة إلا بالانفصال وتكوين دولته المستقلة، من حق شعب الجنوب أن يفرح ويرقص طربا لأنه بممارسة حق تقرير المصير يقطف ثمرة كفاح طويل ونضالات شاقة ومضنية وعذابات مريرة ، يقطف الثمرة التي دفع ثمنها مئات الآلاف من القتلى ومن المعاقين والمشوهين، وملايين النازحين واللاجئين، ودفع ثمنها فقرا ومرضا وتشردا ومكابدة لآلام وعذابات إنسانية تفوق كل وصف وتعجز كل بلاغة، فالحرب اللعينة اقتلعت ملايين الجنوبيين من مدنهم وقراهم البائسة في مشاهد رعب وعذاب لم تجد حظها من التوثيق والإدانة ولم يعتذر عنها أحد اعتذارا تاريخيا يليق بضخامتها، ولم نعلم عنها إلا من روايات فردية لبعض من عرفناهم من النازحين، منهم من روى كيف ماتت عائلته كلها ونجا هو بأعجوبة، منهم من روى كيف مات نصف إخوته جوعا في طريق النزوح الطويل بعد أن قتل أبوه وأمه ضمن عشرات من أقاربه في غارة على قريته، منهم من روى أنه لا يعرف من هو ولا يعرف شيئا عن أمه أو أبيه أو موطنه الأصلي لأن عينيه تفتحتا على الدنيا في معسكر لاجئين .. وهكذا.. الحرب اللعينة أضرت بالسودان ككل واستنزفت موارده وعطلت التنمية فيه وأضاعت عليه فرصا كبيرة في التقدم وفي هذا الإطار تأتي معاناة الشمال، ولكن معاناة الشمال لا يمكن مقارنتها بمعاناة الجنوب التي تختلف نوعيا وبكل المقاييس، ولكن دهاقنة العنصرية وحراس دولة الاستعلاء العرقي والديني وحراس مشروع(الاستبداد والفساد) المتسربل بشعارات الإسلام السياسي وكعادتهم في لي أعناق الحقائق، خرجوا علينا في هذه الأيام التاريخية التي كان من المفترض أن تكون مناسبة للوقوف مع الذات في الشمال من أجل التصحيح والمراجعة التاريخية لمنهج التفكير الذي قاد إلى الأزمات الراهنة ومن أجل استكشاف رؤى جديدة وطرائق عمل جديدة من أجل الحفاظ على ما تبقى من السودان ومن أجل طي صفحة الصراع مع الجنوب بشكل نهائي واستشراف عهد جديد من السلام والتجاور الأخوي؛ بدلا من كل ذلك جعل دهاقنة العنصرية ممثلين فيما يسمى ب(منبر السلام العادل) بقيادة الطيب مصطفى – وهو في حقيقته منبر للخراب العاجل في كل أرجاء السودان شمالا وغربا وشرقا؛ جعلوا من هذه الأيام التاريخية مناسبة للفرح والبهجة ونحر الذبائح ابتهاجا بمغادرة الجنوب الذي كلف الشمال دموعا ودماء وعطل مسيرة تنميته وازدهاره معلنين أن يوم انفصال الجنوب هو يوم الاستقلال الحقيقي لشعب السودان الشمالي ويوم الانتصار للهوية العربية الإسلامية !! هكذا وبهذه الصورة الدراماتيكية المحيرة تحول الجلاد إلى ضحية، وتحولت الخيبة التاريخية ممثلة في الإخفاق السياسي بل الإخفاق الحضاري في بناء وطن موحد قادر على استيعاب التعددية والتنوع وإدارة التباينات وجعلها مصدر قوة وثراء، تحولت هذه الخيبة التاريخية الكبرى إلى انتصار وهمي اسمه (الاستقلال الحقيقي للسودان الشمالي وحسم موضوع الهوية فيه لصالح الهوية العربية الإسلامية)، دهاقنة العنصرية عندما يتباكون على الدموع والدماء يتجاهلون دموع ودماء الجنوب الذي اقتلع الملايين من أهله من جذورهم وتبدد مجتمعهم ويتجاهلون عهود الرق الذي ما زالت مفرداته وذهنيته البغيضة تفعل فعلها في العقل الجمعي الشمالي، وما زالت ترسباتها في اللاوعي الشمالي تتحكم في الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ليس لأهل الجنوب فحسب بل لكل القوميات المهمشة في السودان من البجا في الشرق والفور والمساليت والزغاوة وكل القبائل الأفريقية في الغرب وكذلك النوبة في جنوب كردفان والانقسنا في النيل الأزرق، إن احتفالات العنصريين الشماليين بانفصال الجنوب هي وصمة عار في جبين الشمال، ولا مجال لمقارنتها باحتفالات الجنوب باقتراب موعد استقلاله ونيل حريته وكرامته، إذ إن من الطبيعي أن يحتفل الأسير بالانعتاق من أسره ومن الطبيعي أن يحتفل صاحب العرق المضطهد والثقافة المهمشة والوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الأدنى بالاستقلال، ولكن أن يحتفل صاحب الثقافة المستعلية وصاحب الوضعية المهيمنة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا زاعما أن الضحية كان عبئا عليه فهذه صورة مقلوبة ووضعية مأزومة وسلوك عنصري مشين ومسيء لكل الأحرار والمستنيرين في الشمال، وهذا نذير شؤم بأن العنصريين الشماليين عاقدين العزم على المضي قدما في طريق الأحادية والاستعلاء والاستبداد والدكتاتورية باسم الدين، ومصرين على عدم الاعتراف بالخطأ في ممارسات الشمال السياسي وعدم الاعتراف بالمسئولية التاريخية تجاه انفصال الجنوب والترديد السمج لمسلّمات نظرية المؤامرة، وهذا التفكير القاصر يعوق بناء أي مشروع ديمقراطي تقدمي في الشمال ويهدد وحدته واستقراره. وانطلاقا من ذلك يجب على كل القوى الديمقراطية المستنيرة في الشمال أن تتبرأ من كل الممارسات العنصرية البغيضة التي تدعي زورا وبهتانا أنها تمثل الشمال، فالعنصرية عار يسعى كل الأسوياء والخيرين والمستنيرين من بني البشر إلى التخلص منه، وكل المجتمعات الإنسانية بلا استثناء مارست العنصرية ومارست الرق ومارست الظلم والاستبداد بدرجات متفاوتة ولكن لا يوجد في عالم اليوم من يتباهى بهذه الشرور ويقيم الكرنفالات ليفخر بها ويجعل لها صحفا ومنابر تدافع عنها كما هو الحال في هذه البلاد المنكوبة، القوى المستنيرة في الشمال مطالبة في هذه الأيام التاريخية أن تسجل كلمتها وتضع بصمتها التاريخية، عليها أن تنتظم في فعاليات تظهر فيها الحزن النبيل على فراق الجنوب، عليها أن ترتدي أثواب الحداد على ضياع وحدة الوطن كما دعت إلى ذلك الأستاذة هادية حسب الله في مقالتها في هذه الصحيفة الأسبوع الماضي، رغم كل القيود على حرية التنظيم وحرية التعبير لا سيما عبر تسيير المسيرات والمواكب وإظهار أي مظاهر للتحرك الجماهيري في الشارع لا بد أن تبتدع القوى الحية في المجتمع السوداني وسائل تعبيرية مؤثرة تصل كل جماهير الشعب السوداني وتصل إلى كل العالم هدفها تسجيل موقف تاريخي تجاه ما يحدث حاليا، تسجيل مثل هذا الموقف الآن هو عربون الجوار الأخوي بين الشمال والجنوب وربما يكون عربون الوحدة في المستقبل! نعم يجب علينا جميعا أن نقول للجنوب نحن في غاية الحزن لفراقكم ولكن حزننا النبيل يختلط بأفراحكم باستقلالكم وحريتكم وكرامتكم، لأن حريتكم وكرامتكم هي جزء من حريتنا وكرامتنا نحن، حزننا سببه الفشل في الانتصار لمشروع الدولة العلمانية الديمقراطية، مشروع الوحدة في التنوع، مشروع العدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة المتوازنة، مشروع الوصال العربي الإسلامي الأفريقي عبر الحوار الديمقراطي وعلى أرضية الحرية والعدل والمساواة، مشروع النهضة الاقتصادية عبر تجميع القدرات والإمكانيات والموارد المادية والبشرية في هذا السودان الذي يمثل صورة مصغرة لأفريقيا، وقد راود مفكري ومثقفي السودان في الشمال والجنوب حلم الوحدة الأفريقية!! فكيف لا نحزن وقد فشلنا في تحقيق وحدة السودان! علينا أن نحزن ونبذل قصارى جهدنا في إظهار الحزن وإبراز مظاهر الحداد لأن فقدان وطن لثلثه يستحق الحزن، وليس أي حزن بل ذلك الحزن الخلّاق الملهم الذي يتحول إلى طاقة جبارة للتغيير، الشمال الحزين يحتاج إلى مشروع تغيير شامل لكي يحافظ على وحدته ولا يعيد إنتاج أزمة الجنوب في أجزاء أخرى.