الوطن ليس مجرد مساحة في مكان ما من الكرة الأرضية، نعم الوطن تاريخ وجغرافيا وحقائق جيوسياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية ولكن للأوطان معنى أكبر يستوعب كل ذلك ويتجاوزه إلى آفاق أرحب، فيصبح للوطن معنى (ميتافيزيقيا) يفعل فعل السحر في الوجدان والإرادة والعزيمة، ربما كان هذا المعنى (الميتافيزيقي) الغامض والمبهم هو ما أبكاني أثناء متابعتي للإعلان الرسمي لانفصال الجنوب! وهو ما سيجعلني أجد صعوبة بالغة في خلع أثواب الحداد التي اتشحنا بها منذ الخامس عشر من يناير الماضي(تاريخ انتهاء عملية التصويت في الاستفتاء) وقررنا الاستمرار في ارتدائها حتى إعلان نتيجة الاستفتاء، وذلك ضمن برنامج مبادرة(لا لقهر النساء) التي أرادت أن تجعل هذا الحداد تعبيرا عن حزن المرأة السودانية على فشل الدولة السودانية في إدارة التنوع العرقي والديني والثقافي على أسس الديمقراطية والعدالة والمساواة، وهذا الفشل لابد أن يجعل القوى الحية والحرة المنحازة للمشروع الديمقراطي تشعربهزيمة مريرة، اعتصرني الحزن وشرقتني الدموع يوم الإثنين السابع من فبراير 2011م عندما تم اعتماد النتيجة النهائية لاستفتاء جنوب السودان بشكل رسمي، وجاءت النتيجة لصالح خيار الانفصال وتكوين دولة مستقلة في الجنوب بنسبة 99%، رغم أنني لم أتفاجأ بهذه النتيجة ولم أكن أتوقع غيرها،وإعلانها رسميا لم يكن يعني سوى مراسم إجرائية لتحصيل حاصل، ولكن رغم ذلك ورغم أن آرائي المنشورة في هذه الصحيفة منذ ان أسدل الستار على مهزلة انتخابات 2010 وأصبحت قضية الاستفتاء على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان هي القضية المركزية في الساحة السياسية هي آراء منحازة بلا مواربة لقبول خيار الجنوبيين الذي كان واضحا لنا من خلال المعطيات الماثلة أنه سيكون انفصالا، وفي هذا المقال سوف أستعرض فقرات من مقالاتي عبرت عن هذا المعنى، ولكن في لحظة إعلان النتيجة تنحت كل حسابات العقل الباردة وطغت العاطفة! فكان الحزن والشعور بالخواء والهزيمة، والشعور بالحسرة على فقدان السودان بعد ذهاب الجنوب لجزء من (معنى وجوده ورسالته)، وهو شعور رغم مرارته يمتزج بفرحة صادقة لشعب جنوب السودان وهو يصوت للحرية والكرامة! فلشعب الجنوب التهنئة الخالصة باستقلاله المجيد، وله اعتذار مستحق عن الاستعلاء العنصري والتهميش السياسي والاقتصادي والثقافي وعن فظائع الحرب الطويلة. مقتطفات من مقالات سابقة حول تقرير المصير والوحدة والانفصال: (بعيدا عن العواطف والتمنيات.. معطيات لحظتنا التاريخية الراهنة بكل إحداثياتها الظرفية الماثلة تقول إن السودان الآن بحكومته ومعارضته المدنية والمسلحة ليست لديه القدرة على إنجاز تحول تاريخي نوعي بموجبه ينجح في الفوز بمأثرة تاريخية كبرى وغير مسبوقة تتمثل في إقناع غالبية الجنوبيين بالتصويت للوحدة طوعا واختيارا في الاستفتاء القادم، فمن المتواتر تاريخيا أن أي شعب تتاح له فرصة الاستقلال بكيانه الخاص ودولته الخاصة لا يتردد في اختيار الاستقلال حتى وإن كانت علاقته بالدولة الأم خالية من الدماء والمرارات، ولذلك فإن اختيار الجنوبيين للوحدة إن تم فسيكون حالة استثنائية أشبه بالمعجزة، والسؤال المنطقي الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا ماذا فعل الحزب الحاكم في السودان- الذي أصابه هذه الأيام هوس جديد اسمه الوحدة طغى على بعض من هوسه الآيدولوجي القديم- من أجل تحقيق هذه المعجزة وهو الحزب المحتكر للسلطة والثروة والإعلام والمهيمن على كل مفاصل الدولة السودانية ؟ وما هي الاختراقات النوعية التي حققتها المعارضة الشمالية ممثلة في الأحزاب الكبيرة والأحزاب اليسارية في مواجهتها للمؤتمر الوطني حتى يقتنع الجنوبيون أن المؤتمر الوطني (أكبر عنصر منفر من الوحدة) مواجه في الشمال بتحديات كبيرة يمكن أن تؤدي للإطاحة به واستبدال مشروعه الإقصائي بمشروع ديمقراطي تعددي يضمن قيام الوحدة على أسس جديدة؟ وماذا فعلت الحركة الشعبية نفسها وهي الشريك في اتفاقية السلام الشامل من أجل “تغيير الخرطوم” في السنوات الخمس التي انقضت من عمر الفترة الانتقالية وهي الحركة التي قال مؤسسها الراحل الدكتور جون قرنق أن اتفاقية السلام الشامل هي السودان الجديد في حده الأدنى .. لماذا لم تنجح الحركة الشعبية حتى في استيفاء هذا الحد الأدنى ناهيك عن المضي قدما صوب الحد الأعلى أو حتى المتوسط؟ كل سؤال من الأسئلة السابقة يصلح أن يكون مقدمة لجرد حساب طويل على أساسه تقيّم وتقوّم المسيرة الوطنية وهذا واجب على كل القوى السياسية، ولكن الخمسة أشهر المتبقية على موعد الاستفتاء لا تكفي لجرد حساب تاريخي كهذا، ولا تكفي لصنع التغيرات والتحولات الكبرى، ولكنها يمكن أن تكفي لاستجماع ما نمتلك من إرادة سياسية ورشد ومسئولية وعقلانية من أجل تحقيق هدف وطني واحد يبدو في أذهان الحالمين ب”التحولات الكبرى” متواضعا، ولكنه بالحسابات الواقعية لقدراتنا وطاقاتنا واستعداداتنا كبير، هذا الهدف هو نزع فتيل الحرب بين الشمال والجنوب بشكل نهائي، فالبقرة المقدسة الآن لا ينبغي أن تكون الوحدة أو الانفصال بل يجب أن يكون التقديس للسلام واستدامته وطرد شبح الحرب بشكل حاسم ونهائي، ولن يتحقق ذلك إلا بإجراء الاستفتاء في موعده المحدد وبأقصى درجة من الشفافية والنزاهة والدقة الإجرائية، ومن ثم القبول بنتائجه أيا كانت، وتهيئة الشارع الشمالي للقبول بخيار شعب الجنوب سواء كان وحدة أو انفصالا، وبعد ذلك ذلك إعلاء منطق العقل والمصالح المشتركة والتعاون المخلص في الحلول السلمية لكل ما يطرأ من خلافات في إدارة العلاقة بين دولتي الشمال والجنوب وضمان الجوار السلمي الأخوي.. من مقال أخي منقو لا عاش من يوحدنا قهرا، المنشور في يوليو 2010 م) (يجب أن تنصب مبادرات القوى الديمقراطية الحية والقطاعات المستنيرة والكيانات الجماهيرية في السودان على إنقاذ المستقبل من مرارات وإخفاقات الماضي والحاضر، فالرهان على المستقبل هو المطلوب بإلحاح، إذ أن الجنوب سيبقى جنوب السودان، والشمال سيبقى شمال السودان، وحتى يتحقق السلام والازدهار والتقدم في الشمال والجنوب معا لا بد من بناء علاقات متينة واستراتيجية بين دولتي الشمال والجنوب في حالة الانفصال، ومثل هذه العلاقات لا يمكن بناؤها إلا بالتصافي والتعافي بين الشعبين، ومن وسائل تحقيق هذا الهدف النبيل تسجيل مواقف تاريخية حية لتستقر في ذاكرة شعب جنوب السودان وهو يتجه نحو دولته المستقلة، مواقف تثبت لشعب جنوب السودان أن الشمال ليس كتلة واحدة صماء في نظرته للجنوب، فالشمال فيه قوى مستنيرة ديمقراطية ذات مواقف مبدئية ضد العنصرية، وضد التهميش السياسي والاقتصادي والثقافي الذي مورس على الجنوب وغيره من أقاليم السودان، والشمال فيه قوى مستنيرة تعتقد أن خلاص الشمال والجنوب والغرب والشرق في توحيد النضال السياسي من أجل إعادة هيكلة الدولة السودانية على أسس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية واستيعاب التنوع العرقي والديني والثقافي، كما يجب أن يستقر في ذاكرة شعب جنوب السودان وهو يجتاز هذه المرحلة المفصلية في تاريخه أي لحظة ممارسة حق تقرير المصير أن الشمال ليس كتلة واحدة صماء في موقفه من حق تقرير المصير ومن قضايا ما قبل وما بعد الاستفتاء، فكما يوجد في الشمال من ينكرون على الجنوب الحق في تقرير مصيره فإن هناك شماليون مستعدون للقتال من أجل هذا الحق، وكما يوجد شماليون متعصبون محدودو السقف السياسي والأخلاقي يعتقدون أن خيار الانفصال جريمة يجب أن يعاقب عليها أبناء الجنوب المقيمين في الشمال بالطرد الجماعي؛ يوجد شماليون ينادون بمنح الجنوبيين المقيمين في الشمال الجنسية المزدوجة ليس كمنحة بل كحق دستوري، وإن لم يجد مطلب الجنسية المزدوجة استجابة بسبب تعنت الحزب الحاكم فإن الحد الأدني الذي لا يمكن التقاصر عنه أبدا هو كفالة الحريات الأربعة لشعبي الشمال والجنوب أي (حرية الإقامة والعمل والتملك والتنقل)، وكما يوجد في الشمال من هم مصابون بالعته السياسي والعمى الاستراتيجي يتحرقون شوقا لرؤية دولة الجنوب الوليدة وهي غارقة في الحروب القبلية والفشل السياسي والتنموي والانهيار الكلي؛ يوجد في الشمال من يعتقد أن المساهمة في نهضة الجنوب وتنميته وإعماره من أوجب واجبات الشمال، وأن استقرار الجنوب شرط لاستقرار الشمال وأن مساعدة الشمال للجنوب واجبة ليس فقط من الناحية الأخلاقية والإنسانية بل واجبة بمنطق البراغماتية السياسية والتفكير المصلحي.. من مقال كيف نودع الراحلين جنوبا المنشور ..نوفمبر 2010م) (انفصال الجنوب شأنه شأن كل الأحداث الكبيرة في تاريخ الشعوب لا يقتصر أثره على التداعيات المباشرة وما يترتب عليها من تغيرات آنية على أرض الواقع السياسي..الاجتماعي..الاقتصادي، بل لعل الأثر الأكبر والأهم لهذا الحدث هو ما يستتبعه من تأملات ومراجعات وتفكر عميق في سياق استخلاص الدروس التاريخية الصحيحة ومن ثم استشراف المستقبل شمالا وجنوبا بوعي جديد ولد من بطن التجربة ومن رهق المعاناة، وبالتالي يتحول حدث الانفصال إلى فرصة للتفكير مجددا في الوحدة، وإلى فرصة لانفراد الشمال بذاته ومواجهة تناقضاته واختبار مشاريعه الفكرية والسياسية ومدى قدرتها على توحيد الشمال نفسه، وكذلك فرصة لانفراد الجنوب بذاته ليفعل ذات الفعل، وفي هذا السياق يتمكن كل من الشمال والجنوب من استكشاف معوقات نهوضهما وتقدمهما، وهذه العملية الاستكشافية النبيلة ستجعل كلا منهما يفهم ذاته بصورة أشمل وأعمق وحتما ستقود كلا منهما إلى استكمال رشده ونضجه، وبهذا التطور ينفتح الباب أمام إدراك التاريخ المشترك والروابط والصلات المشتركة والمصالح المشتركة و(النقائص والعيوب المشتركة في النخب السياسية) وهذا يمكن أن يقود إلى النضال المشترك بين شعبي الجنوب والشمال لتحقيق (أحلامهما المشتركة) !! في دولتين.. في اتحاد كونفدرالي.. في دولة واحدة.. كل هذا متروك للزمن ولإرادة الشعبين وعزيمتهما، متى يتحقق ذلك وما هو المدى الذي يفصلنا عنه سواء بحساب السنوات أو بحساب الفعل والإنجاز؟ هذا ليس مهما ، فالسؤال الأهم ليس هو أين نحن الآن بل أهم سؤال هو: في أي اتجاه نحن نتحرك! ولن نتحرك في الاتجاه الصحيح نحو السلام والاستقرار، نحو الحرية والعدالة، نحو بناء مشروع وطني كبير عروته الوثقى المواطنة المتساوية والتنمية المتوازنة والإدارة الديمقراطية للتنوع الإثني والديني والثقافي ضمن إطار دولة علمانية، لن نتحرك في هذا الاتجاه بفاعلية إلا بإحسان التفكر والتدبر والتذكر في(حدث الانفصال)، فلا يمكن الانغماس كلية في الملابسات الظرفية للحدث والغفلة عن الملابسات التاريخية وعن استخلاص العبر والدروس الضرورية لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.. من مقال التذكّر الخلّاق على أعتاب الحدث الكبير المنشور في ديسمبر 2010م) رشا عوض [email protected]