[email protected] طال عهدي بنظام إمتحانات الشهادة الثانوية السودانية، ولكنني أذكر تماماً أن النجاح في امتحان اللغة العربية، في العهد الذي عرفته، كان شرطاً حاسماً للحصول عليها. بمعنى أنه حتي في حالة اجتياز جميع المواد الأخرى بتفوق فإن الفشل في الحصول على درجة النجاح في اللغة العربية يحرم الطالب من الحصول على الشهادة جملةً واحدة. وكان يُقال عن الطالب الذي حرم من الشهادة بسبب اللغة العربية: “قادّي عربي”! ويبدو لي أنه برغم دعاوى العصبة المنقذة العريضة عن التأصيل والتجذير فإن مستوى اللغة العربية في عهدها تدني فبلغ الحضيض. والا فكيف تفسر لي، أعزك الله، عبارة (لا “حولة” ولا قوة الا بالله)، التي يكتبها آلاف المتعلمين السودانيين داخل السودان وخارجه، وبعضهم يحمل درجة الدكتوراه، للتعبير عن فجيعتهم، أوتعازيهم لمن فقد عزيزا من الأحباب؟ قبل سنوات نصّب رجل تخرج في إحدى كليات القانون وجرب المحاماة ردحاً من الزمن ولم يكتب الله له فيها توفيقاً، نصب من نفسه مدافعاً عن حقوق الانسان (التي أهدرتها العصبة المنقذة). ثم ألحق صاحبنا باسمه اللقب الذهبي: (ناشط حقوقي). وكانت أداة نشاطه، كماهو متوقع، الكتابة في حوائط الأسافير، فأخذ يكتب بحماسة يُحسد عليها مدافعاً عن حقوق الانسان السوداني. وذلك عملٌ جليل بغير شك، نرجو أن يؤجر عليه في الدنيا والآخرة. المشكلة أن لغة الرجل العربية كانت من السوء والتدني والهوان بحيث أن من يقرأ كتاباته كان يُصدم بفظاعة الأخطاء اللغوية والنحوية وكثرتها، فيصاب بالإعياء. ذات يوم علق كاتب صحفي معروف علي بيانات الرجل النضالية الخادشة لكل ذوق فكتب: (إذا كان قضاء الله وقدره ان يكون فلان هو المدافع عن حقوقنا كسودانيين، فلا أقل من ان يُحسن اللسان المنوط به ذلك العمل الجليل). هنا انفتحت على أخينا الكاتب الصحفي أبواب جهنم، ونهض اليه عتاة المناضلين، فزجروه زجراً عنيفاً، وفتكوا به فتكاً غير رحيم، وأبلغوه أن العبرة إنما تكون بالموقف النضالي لا بإجادة اللغة، وطالما كان الناشط في صف النضال فلتذهب اللغة العربية الى الجحيم. وهكذا انطلق الناشط الحقوقي المناضل في مسيرته الظافرة، لا يلوي على شي، ينصب الفاعل ويرفع المفعول، ويذكّر المؤنث ويؤنث المذكر، حتي ظننا انه يناضل ضد سيبويه، لا ضد نظام الانقاذ! قبل فترة من الزمن أصدر ثوار كاودا ميثاقاً أطلقوا عليه عنوان “ميثاق الفجر الجديد”، هللت له بعض فصائل المعارضة تهليلاً جاوز المدى. وقد جاء الميثاق ركيكاً في صياغته، ضاجاً بالأخطاء اللغوية الفاضحة، الى حدٍ لم يُطق معه القائد السياسي الاستاذ الحاج وراق صبراً. والحاج وراق رجل يحترم نفسه ويحترم قضيته، وواحد من قلة نادرة في صفوف المعارضة تأخذ الموقف النضالي بحقه، وتمارسه بدرجة عالية من الجدية والكفاءة والصدقية والنبل. أخذ ورّاق القوم أخذاً وبيلاً، وعبر عن سخطه جهاراً، كون أن صف الجبهة التي أصدرت البيان يضم عدداً من خيار (المثقفين الديمقراطيين)، ذوي القدرات الابداعية المتميزة في مضمار الثقافة، ولكن أحداً من أصحاب الكلمة لم يكترث لوجودهم او يلق إليهم بالا! بتاريخ الثاني من يناير الماضي أصدرت الجبهة الثورية – مأجورةً بإذن ربها – بياناً تنعي فيه الفنان محمود عبدالعزيز. جاء في بيان النعي الذي نشرته عددٌ من الوسائط الإعلامية، وأنا هنا أنقل الفقرة الأولى بنصها وفصها: ( بعد أن أطل إشراقة الفجر الجديد علي سموات السودان إشراقاً بدلاً من الظلام، تنعي الجبهة الثورية السودانية الفنان محمود عبد العزيز وأسرته وأهله ومحبيه واسرته الفنية والشعب السوداني ..). إذن لم يكن الفنان وحده هو الذي رحل الى عفو ربه، بل – وبحسب البيان – رحل معه الي الدار الآخرة أيضا اسرته، وأهله، ومحبيه، بل والشعب السوداني كله بقضّه وقضيضه. فالجبهة هنا تنعاهم جميعاً على صعيدٍ واحد، والنعي، كما هو معلوم، إنما يكون للميت، لا للحي! قرأت النعي مثني وثلاث، وتحسست كتفي ورأسى، فوجدت نفسي حياً وعلى خير حال. واستغربت كيف تنعاني الجبهة الثورية، وأنا على قيد الحياة؟ العبد الفقير بلا شك واحد من أفراد الشعب السوداني المشمولين بنعي الجبهة. وبرغم أنني لست من جيل الفنان محمود عبد العزيز، ولم أعرف أغنياته التي سحرت الشباب، فإن زميلتنا الكاتبة اللامعة منى عبدالفتاح نصحتني ذات يوم بالاستماع الى اغنية “خِلي العيش حرام” بصوته، ففعلت، وأعجبت بأدائه، وأصبحت تلقائياً من محبيه ومعجبيه الذين ماتوا حتف أُنوفهم فوق سطور البيان! خاطرة مريبة حوّمت فوق رأسي، وهي أن الأمر ربما لم تكن له علاقة بهوان اللغة العربية عند الثوار، وإنما هي تفاعلات وتداعيات العقل الباطن واللاوعي. إذ ربما استبطنت الجبهة في الغياب المفاجئ لكل هذه الجموع عن الحياة ما يسهل عليها مهمتها، فتزحف بحشودها الى قلب السودان النيلي، وتحتل عاصمته دون مقاومة، وترفع راية “الفجر الجديد” على سراى القصر الذي بناه غردون! الجبهة الثورية: صفر في اللغة العربية، ولن تنال الشهادة الثانوية هذا العام!