[email protected] قابلت أحد الأصدقاء القدامى والقادم لتوه من ليبيا بعد الثورة التى اندلعت ضد نظام القذافي , كان كغيره من الشباب يتنقل من ظل إلى آخر دونما هدف , قابلته جوار إحدى تلك الحوائط وسط ثلة من الشباب العاطلين عن العمل , سألته عن حاله وعن الأوضاع فى ليبيا فأخبرنى أنهم كانو بخير قبل أن تندلع ثورة السابع عشر من فبراير ضد نظام القذاقي , تلك الثورة التى أدت إلى حرب ضروس عاد بفعلها ألاف السودانيين مكرهين إلى بلادهم , أخبرنى أنه كان بصدد الهجرة إلى إيطاليا على متن إحدى قوارب تهريب المهاجرين قبل أن تقطع عليه الحرب خطته . قلت له : ولكن سفن التهريب تلك شديدة الخطورة وكثيرا ماتغرق فى عرض البحر ويموت من فيها . لكنه ودون كثير تفكير قال لى بسخرية مرّة : وهل تعتقد أننا أحياء هاهنا !! صدمتنى الإجابة الصريحة والسريعة ولكننى كنت متيقنا من صحة مايقول , فالفقر الشديد وبؤس الحال وانعدام الفرص فى أرض الجزيرة موت حقيقي .. ولأن تموت وأنت تحاول العيش بكرامة خير من القناعة بموت مقنع .. الحياة ميتة بالفعل فى قرى الجزيرة حيث لا إنتاج ولامشاريع ولامصانع ولا مؤسسات خدمية بالمعنى الفعلي . الزراعة التى كانت تُشغِل الناس بعض شهور العام وتوفر لهم قوتهم أصبحت أثرا بعد عين بعد أن جفت – أو جففت – الترع وامتلأت بالحشائش بفعل الإهمال المتعمد لإدارة مشروع الجزيرة , وبفعل التغير المناخي تكالبت على المزارعين جفاء الطبيعة والظلم الحكومي , بل قامت إدارة مشروع الجزيرة ببيع أصول المشروع من صرايات ومنازل ومراكز أبحاث فى عمليات تصفية غير مسبوقة , و فككت حتى قضبان السكة حديد التى كانت تنقل محصول القطن إلى المحالج فى عملية تدمير ممنهجة لأكبر مشروع زراعي مروي فى العالم أنشأة الإنجليز قبل مئة عام . وأتذكر حتى فى سنين الأمطار الجيدة وانسياب المياه كان المزارعون يترددون فى الزراعة بفعل الضرائب الكبيرة والزكاة غير العادلة التى كانت تحصلها الدولة , وغيرها من الجبايات ورسوم الطريق الباهظة التى كانت تمنع المزارعين من تسويق منتجاتهم فى المدن الكبيرة , كان كثير منهم ولحوجته الماسة للنقود يبيع محصوله – المتبقي – بأبخس الأثمان لتجار المحاصيل والمضاربين والسماسرة , ويعود ليشتري ذات المحصول بأغلى الأسعار فى مفارقة مؤلمة . وسط كل هذا الإنهيار والتدمير الممنهج للمشروع وبناه التحتية إنهار الإقتصاد المحلي وتوقفت عملية الإنتاج , ووجد الشباب أنفسهم بلا عمل وبلا أمل سوى القليلون ممن وجدوا طريقهم فى أروقة الحزب الحاكم ودهاليزه , والبعض الآخر ممن آثر السير فى قافلة الفساد التى يقودها بجدارة حزب المؤتمر الوطنى الذي تسيطر عليه قيادات عسكرية وإسلامية من أبناء الشمال بقيادة الجنرال عمر البشير . ودعت صديقي ذلك على عجل بعد أن توقفت فى انتظاري الحافلة التي كانت متجهة إلى الخرطوم. وبعد أشهر قليلة من سقوط القذافي علمت بعودته مع مجموعة من الشباب إلى ليبيا فى رحلة هروب جديدة …