[email protected] يخطئ كثيرا من يتصور أنه يخدم مصر بالمطالبة بقرارات قمعية تحرم مواطنين مصريين من حقوقهم السياسية لأنهم ينتمون إلى تيارات ترفع الشعارات الإسلامية، في الوقت الذي يتم الحديث فيه عن ضرورة التصالح مع قيادات الحزب الوطني المنحل والقبول بوجودهم على الساحة بعد إلغاء العزل السياسي الموجود في الدستور الإخواني، والذي أعلنت رفضي له ولمصطلح الفلول قبل صدور الدستور الساقط، لأنه سيزيد من درجة العنف غير المشبع ويبدد أثر العزل الشعبي للحزب الوطني الذي هو أقوى من أي عزل سياسي يفرض بقرارات سلطوية، واتهمتني الأبواق الإخوانية وقتها بأنني أغازل الحزب الوطني، تماما كما يتهمني الآن بعض المتعصبين بأنني أغازل جماعة الإخوان لأنني أطلب العدل الذي يقتضي ألا يحرم من لم يتورط من أنصارها في ارتكاب جرائم من حقوقهم السياسية، لا هم ولا أنصار الحزب الوطني ولا أنصار أي اتجاه سياسي مهما اختلفنا معه، لأن من حق الشعب وحده أن يرفع به سابع سماء أو يخسف به سابع أرض. منذ أيام التحرير الأولى اتهم بعض أصدقائنا الثورة بأنها ستضيع البلد وتسقطها إلى الأبد في قبضة الإسلام السياسي، وكلما مرت الأيام كان تشنجهم يزيد، وكنت أنا وغيري نقول بهدوء أن قوة تيارات الشعارات الإسلامية ليست سوى وهم سيتبدد عندما ينزل إلى الواقع ويشتبك مع تعقيداته، وأن من يريد من أنصار الدولة المدنية كسب صراعه مع تلك التيارات عليه أن يورطها في الواقع لا أن يبعدها عنه، وكان بعض هؤلاء يردون متهمين أمثالي بالسذاجة وأننا لا نعرف الشعب المصري الذي سيقوم بالتعشيق مع الإسلام السياسي لمدة ربع قرن على الأقل بعد نشوء خلطة سحرية من حب هذا الشعب للإستبداد وللدين معا، بينما كنت أقول وكلامي موثق في عشرات المقالات والفيديوهات على اليوتيوب أن أكبر ضمانة ضد تسلط هذه التيارات الكئيبة هو حب الشعب المصري للحياة والبهجة والسخرية، وأن ضمانة الدولة المدنية الأهم هي المرأة المصرية التي حيرت المؤرخين على مر الزمان، وأن الناس ستكتشف حقيقة هذا التيار من أيامه الأولى في الحكم، وستحكم عليه بعدها بشكل موضوعي بعيدا عن التأثر بما يرفعه من شعارات. والآن وبعد أن أثبتت الأيام صحة كلامي أنا وكل الذين تبنوا هذا المنهج، لا زلنا نرى الإخوة المتشائمين مصرين على السير في نفس السكة الخطأ التي تسعى لإعطاء جماعة الإخوان قبلة الحياة بأن تعيش في دور «مظلومة يا بيه» الذي لا تجيد لعب غيره، بدلا من إكمال توريط هذه الجماعة في الواقع لتوضع في حجمها الطبيعي الذي لا تتجاوزه هي وغيرها من التيارات التي تأبى التطور والتجديد. لقد أدهشني قيام بعض الثوار بتوجيه أوصاف خيانة الثورة والعمالة للإخوان لمن طالبوا بأن تتم معاملة قادة جماعة الإخوان بمعايير العدالة الإنتقالية التي تحاسب كل من ارتكب جرائم يعاقب عليها القانون ولا تأخذ العاطل بالباطل ولا تلصق بأي طرف جرائم لم يرتكبها دون تحقيق عادل مستقل، لكي نسير بعد ذلك نحو المصالحة الوطنية التي تأخرنا وقتا طويلا في تحقيقها. ولم أر أحدا من هؤلاء يجرؤ على توجيه نفس الإتهامات للقوات المسلحة التي لا يوجد بيان من بياناتها إلا وأكد على أهمية المصالحة الوطنية وعدم إقصاء أي فصيل، ولم نسمع رفضا علنيا من هؤلاء لهذه البيانات، ومع ذلك فقد هاجوا وماجوا فقط عندما جاءت الدعوة للمصالحة الوطنية مشروطة بمحاسبة الكل بلا استثناء، لكي لا نبني الفترة الإنتقالية القادمة على أساس ظالم، فنفشل كما فشل الإخوان ومن قبلهم في النجاة من تسلخات التغيير على وساخة. لست من الذين ترهبهم الإتهامات الغبية ولا من الذين تخرسهم مزايدات ذوي القربى الثورية، ولذلك أواصل التحذير من التفريط في سلاح الإقصاء الشعبي، والركون إلى الإقصاء السلطوي الذي يشكل أكبر مكسب لأي تيار سياسي لأنه يعطيه ميزة المضطهد، بدليل أن كل تاريخ الدولة البوليسية في قمع الإخوان لم ينجح في تحجيم تأثيرهم على البسطاء مثلما نجحت سنة واحدة في الحكم، وأتمنى أن يلجأ من يدرك خطورة تيارات الشعارات الإسلامية إلى ما هو أدوم أثرا وأكثر فعالية، ألا وهو رفع دعوى قضائية ضد جماعة الإخوان المسلمين موثقة بكل إنتهاكاتها وتحريضها على العنف وإفسادها للحياة السياسية للمطالبة بحلها بحكم قضائي وإنهاء وضعها المشبوه الذي كان يجعل لها كيانا سريا بعيدا عن أي رقابة مالية وإدارية، وليمارس بعدها من لم يثبت تورطه في جرائم من قادة وأعضاء هذه الجماعة حقوقه السياسية مثل غيره في إطار حزب تنطبق عليه كافة المعايير التي يطبقها خلق الله في بلاد الله المتقدمة على الأحزاب السياسية. إذا كنت ترى أن الوضع الآن لا يحتمل الإقصاء الشعبي طويل المدى، وإذا كنت لا تثق في قدرة الشعب على الفرز مع أنك طول الوقت تتغنى به لأنه أطاح بحكم الإخوان، وإذا كنت تعتقد أن اللجوء إلى الإقصاء السلطوي وقرارات العزل السياسي وإعادة سلخانات أمن الدولة وتكميم الأفواه وغلق الصحف والقنوات أجدى وأبرك، فأنت حر، لكن لا تطلب من الكل أن يبارك ذلك وإلا حرمته من صكوك الوطنية والمدنية والثورية التي لا يملكها أحد حتى لو ظن ذلك. عن نفسي سأطلب دائما الحرية لنفسي ولغيري وسأثق دائما في قدرة الشعب على التعلم من اختياراته، واذهب أنت وسلطتك فقوما بإقصاء الإخوان وبعدها إقصاء السلفيين وباقي الجماعات الإسلامية، وتحمل أنت وسلطتك مسئولية دخول البلاد في اقتتال مدني لا يعلم مداه إلا الله، لكن صدقني عندما يصبح الإقصاء منهجا له آلياته القانونية التي ستشارك في وضعها أو تباركه، لا تندهش إذا وقعت ضحية له عندما تسيطر على البلاد فاشية من نوع آخر، لتجد نفسك متهما عندها بتهديد أمن البلاد ووحدتها الوطنية، وعندها ستدرك متأخرا حكمة التاريخ التي تعلمنا أنه «مافيش حد بيقصي أوي إلا لما بينجرح أوي». الإقصاء حلو ما فيش كلام، لكن فقط لمن يملك القدرة على دفع ثمنه.