حَافِظَ قُرْآنٍ .. يُمَزّقَهُ وَيَضَعُ صَلِيبَاً وَيُعَاقِرُ خَمرَاً وَيَهْدِمُ مَسجِدَاً ! أبكر يوسف آدم وفى ذكرى رحيل القائد الملهم جون قرنق ، فى ليلة كان السودان فى أمس الحاجة له ، ولنظريته ، ليتخذها سنداً فى عثراته ، نقف على سير بعض من رفقائه الشهداء ممن ساهموا معه ، فى تشكيل أفكاره وتثبيت مواقفه ، ما حظيت منها بمسالك ممهدة ، أو ماتعثرت لأسباب موضوعية. وإذ نحيى الآلاف من الجنود الذين فدوا راية السودان الجديد بأرواحههم ، لن يفوت علينا ذكر كل من ، الشهداء / يوسف كوة مكي وداود يحي بولاد وعبد الله أبكر ، وكلٌ منهم ، وغيرهم ، له قصته وتجربته التى تكشف جانباً من أزمة السودان الكبرى ، ومحنته مع إشكاليات الهوية وغياب العدل وفشل أساليب حكم بلد كانت أشبه بالقارة . أما أشدها مأساوية ، وأكثرها فضحاً لإلتواء حال ومنهج التكفيريين ، هى قصة تمرد وإستشهاد القائد / داود يحيى بولاد . ذلكم البطل الدارفورى ، الذى قفز من سفينة الإنقاذ الخربة ، فى مرحلة عز على الكثيرين رؤية ثقوبها وسوءاتها المطلية بالوعود الضلالية ، فى خديعة كبرى ، لم تنكشف على حقيقتها ، إلا بعد إكتمال خراب وطن كان إسمه السودان. وإذ نرى اليوم صور أسرى الجيش والمليشيات الحكومية ، دون ظهور أدنى ما يشير إلى إنتهاكات جسدية فى حقهم ، وقراءتها مع صور مئات الأسرى التى أظهرت معهم الراحل جون قرنق ،،، لا لينصب المشانق ، ولكن ليقدم لهم محاضرة عن قضيته ونظريته للحل ، حينه ، يترآءى لنا المحنة الأخلاقية التى يعيشها الإسلام السياسى والإسلامويين. لقد أسر القائد داود يحيى بولاد ، وكان يجب التعامل معه وفقاً للقواعد القانونية والأخلاقية التى تحكم السلوك فى مثل هذه الحالات. لكن كان للهوس والجنون ، حكمهما ، فأغتيل ، ليعمل دمه بعد ذلك وقوداً يلهب المشاعر ، ويوقد فى الأنفس الدارفورية شعلات الحماس.. واليوم .. ، فى ظل تنوع القنوات الإعلامية ، وتمردها على السيطرة ، ها هو نفس الإعلام الإسلاموى ، يكشف تناقضات مواقفها ، وبالأدلة التى لا تقبل الدحض ، ففى الوقت الذى يتباكون ، على المظاهر الصادمة عن إنكشاف حقيقة وجود أسرى بأعداد معتبرة ، وحسن معاملتهم من قبل أعدائهم ، تُظهر أيضاً صور الإسلامويين وهم يقتلون الأسرى ويعذبونهم ، ويحثون الجنود على عدم الإحتفاظ بهم أبداً !! وبعده ، يعودون إلى التّقوّى بالمواثيق الدولية ، للإحتجاج على عملية إظهار صور من يفترض أن يكونوا وفقاً للمعايير الإسلاموية ، مجرد جيف تعبث الطير والذئاب برؤوسهم ، أو يدفنوا أحياءاً فى مقبرة جماعية واحدة . لا شك أن نكران وإخفاء الحقائق ، ورسم المظاهر المضللة للشعب ، والمغايرة لما يدور فى الواقع ، هو الذى دفع بإعلاميي الجبهة الثورية للإقدام على الخطوة ، التى لا تعنى إلا إخراساً للألسن المدمنة على الكذب. يا ليته نال داوود بولاد ، خُمساً واحداً ، مما حظى به أسرى المليشيات الإسلاموية اليوم ، دون المساس فى حقهم فى ذلك.. لقد نالوا حقهم الطبيعى ، والواجب علينا جميعاً العمل ، كى ينال كل أسير هذا الحق .. لا شك أن العقلية الإسلاموية ، هى أسوأ ما يمكن أن تنتجها المدارس الإجرامية كافة ، ففى الوقت الذى لا يخفى فيه المجرم التقليدى سوءاته ، ولا يلبس لبوساً مخادعاً ، إلا أن الإجرام الإسلاموى ، يتغلف بالتدين والعفة والوقار والطهارة ، تماماً كالسموم والعقاقير القاتلة ، التى تكتسى بحلو الطعم ، وجاذبية اللون ، وحسن الملمس ، وترون كيف أنها تقتل وتنجح فى زهق الأرواح ، وتنجو من العقاب حتى الآن.. قليل من يتورط فى منظومة الإسلام السياسى ، ثم يسهل عليه الإنعتاق .. لقد أكتسبت خبرة كبيرة ، فى كيفية الإيقاع بالضحايا الذين يمثلون رعاع العضوية ، وغوغاء التظاهر ، وذلك بإتباع الحيل المجربة مسبقاً ، وأهمها ، الإقناع بسلامة الطريق ومثاليته ، بل الوحيد الذى يحفظ للفرد سلامته فى الدنيا والآخرة ، ويضمن له دنياه بتحليل كل ما يرتكبه من جرم وخيانة وكذب ، طالما فيه مصلحة للمجموعة ، وتحليل الإستيلاء على الغنائم من المدنيين العزل والتى تشمل حتى الغنائم البشرية ، والتطلع إلى تولى شأن إقطاعية سلطوية أو مالية ، مع نيل الحرية الكاملة فى التصرف فيها حال نجاحه فى تقديم خدمة إجرامية مميزة ، وبعد كل ذلك ، ضمان دخوله الجنة ، والتمتع بكل ما فيها من أنهار خمر ولبن وطعام كثير ، وحور وغلمان. هذا ما يعنيه ببساطة ، مفهوم ضمان الدنيا والآخرة ، الحاملة فى طياتها ما يكفى من مبررات لممارسة الإبادات الجماعية ، وإستهداف المدنيين ، وإغتصاب القاصرات المفترض أنهن سبايا حرب يحل إنتهاك أعراضهن وزهق أرواحهن إن إستطاب بعضهم ذلك . أما داوود يحيى بولاد ، فقد إختار إلا ينصاع ولا يستمر فى الخديعة ، فتجرأ للخروج على زيفها وبطلانها ، وكشف عملياً الزيف التكفيري الإسلاموى ، فأضحى بذلك معولاً لهدم بناية قامت على جماجم بشرية لقرون عدة ، وبإقدامه على ذلك فإنه قد أصبح مهدداً حقيقياً لغنائم الدنيا المالية منها والبشرية ، لذا لزم التخلص منه سريعاً ، وسريعا جداً .. تربى بولاد فى كنف الإسلامويين التكفيريين ، وخلص نيته لما إعتقد حينه ، أنه المخرج والحل للمعضلة الوطنية التى ضللت الكثيرين ، فإنتهت بهم إلى تشخيصات خاطئة ، ووصفات علاجية قاتلة ، المزيد من التأزم وتدهور الحال .. فرط إخلاصه وتفانيه ، أوصله لمنصب رئيس إتحاد طلبة جامعة الخرطوم 1974 ، ممثلاً للإسلامويين ، ويذكر أن من أناب عنه هو الطيب إبراهيم محمد خير ، الذى سيتولى فيما بعد مع آخرين ، مهمه تصفيته الجسدية بعد أسره ، وتشويه سمعته بعد مماته. إنضم الشهيد إلى الحركة الشعبية عام 1991 ، إثر نقاشات فكرية مستفيضة لأجل الرسو على جودة ومصداقية النظريات ، التى تحاول التعامل مع المشكل السودانى ، وبعد أن إطمئنأنه على عدم تأثر رصيده الإسلامى وخلفيته القرآنية ، وتأكده أنه سيفتح بها آفاقاً جديدة فى ظل نظرية السودان الجديد ، دخل بعده مباشرة فى الخطوات التنفيذية ، ويمكن وصف خطوته تلك ، بأنها النسخة المبكرة للمؤتمر الشعبى . توصل مع آخرين ، إلى أن أفضل طرق المواجهة ، هو العمل وسط القواعد الشعبية ، من الشباب والرجال والنساء فى الأقاليم والقرى والبوادى ، لمخاطبة العقول والأفكار ، قبل تكوين الجيوش واللجوء إلى البنادق ، فإتجه إلى دارفور حاملا راية السودان الجديد ، التى لا تلفظ أحداً بسبب فكره أو دينه ، أو لونه أو قبيلته أو جنسه ، تلكم المظلة الضخمة التى تتوسع وتتمدد مع تنامى القواعد الجماهيرية ، فتتعاظم فراغاته مع الوقت ، لتستوعب كافة الإتجاهات الفكرية ، ذلكم أنها لا تقوم إلا على التعدد ، وآلة مصممة للتعامل مع التنوع. تلقى بولاد الدعم الكافى من قادة الحركة الشعبية ، فإرسل إلى دارفور بمعية أميز الجنود ، وأخصبهم تجربة ، وأكثرهم تحملاً للمشاق ، ورافقه قادة على وزن ، عبدالعزيز آدم الحلو ، ورمضان حسن نمر ، وآخرين . لكن حداثة عهده بمثل هذه المهام ، وقلة خبرته العسكرية ، هى التى دفعته للإنفصال عن القوة الرئيسية فى أرض غير آمنة ، لمسافة كبيرة ، فساهم حظه العاثر ، ووشاية البعض ، فى دخول الجيش الحكومى وتناميه ، وإختراق المنطقة الفاصلة بين القوتين ، فإحكم الحصار حوله ومجموعته الصغيرة ، ربما دون أن تعرف حقيقة وجود قوة أخرى على جبل خلفها ، فإستحالت المواجهة المتكافئة بينها وبين أى من القوتين ، فأسر بولاد ومن معه ، وعلى إثره ، قررت قيادة الحركة الشعبية ، إجهاض العملية ، وإستدعاء الجنود للعودة إلى مواقعها السابقة. لم ينته الأمر عند أسره ، وتعذيبه ، وقتله ، بل ذهب إلى أبعد من ذلك ، فى محاولات قتل شخصيته وتشويه صورته أمام الرأى العام ، حتى بعد مماته ، حيث تولت جريدة ( آخر لحظة ) التي كانت منشوراً طلابيا يصدره الإتجاه الإسلامي بجامعة الخرطوم ، فنشرت أن : داوود بولاد أرتد عن الدين ..! ووضع الصليب حول عنقه ..! ومزّق المصحف الشريف ..! وعاقر الخمر ..! وأمر بتهديم المساجد ..! وأعتدى على الحرث والنسل .؟! وقد لقي الجزاء الذي يستحقه ….!! عجباً ،،،،، بالتأكيد !! .. وناهيكم عن الشهيد الذى نعرفه ، لا يمكن لأى شخص مهما بلغت به الجنون والتطرف ، أن يحدث فى حياته مثل هذا الإنقلاب ، خلال فترة عام واحد ، ثم يجد من يسنده ويقف معه ، ويتبرع له بجنودِ يعينوه على كل ذلك ، دون إعتراض .. سنة واحدة ، هى الفترة التى فصلت ما بين إنسلاخ الشهيد داود يحيى بولاد ، عن الحركة الإسلامية ، وأسره ، وإغتياله !! ومع ذلك ، حسب إدعاء الإسلامويين ، يجد من الوقت لبناء مثل هذه القناعات المتطرفة ، وهو المعروف عنه حفظ القرآن الكريم كاملهُ ، ضمن قلة قليلة من قيادات الإسلام السياسى حينه. والحقيقة المسكوت عنها ، هو خشية الإسلامويين من تأثيره ، وكارزميته ، والإختلافات التى قد تحدث فى الرأى حول مصيره إن بقى حياً سجيناً ، وكل ذلك لمنع التعاطف ، ولإثارة غبار يمنع رؤية قضيته الاساسية ، ومفاهيمه التى إعيدت تشكيلها لتستوعب وتستفيد من كافة المكونات السودانية.. فمن هو المجنون يا ترى !! من قتل أسيراً ثم تولى تشويه صورته والكذب عنه ؟ أم من أعلن صراحة فساد المنهج الذى تبعه ، وتطلعه إلى التغيير ؟؟ إن المقتل الفورى لأسير بهذه القيمة ، وتشويه صورته ، لم تكن إلا محاولات لمنع بركان هائل من الإنفجار ، بصب بعض الماء عليه.. وإذ نرى اليوم صور أسرى الجيش والمليشيات الحكومية من معارك شمال وجنوب كردفان ، دون ظهور أدنى ما يشير إلى إنتهاكات جسدية فى حقهم ، نرى معها الفروق الشاسعة بين أخلاق الإسلامويين ومناوئيهم المعارضين .. أما جون قرنق ، فقد قدم رثاءاً مؤثراً لداود يحيى بولاد ، وأضاف "أنه طالما وصلنا إلى هناك سيراً على أقدامنا ، فقد خسرنا معركة ، وجنوداً وقادة مميزون ، ولم نخسر حرباً ، لكن تأكدوا أن دارفور ستثور قريباً ، هى مسألة وقت فقط " فصدقت نبوءته … أبكر يوسف آدم [email protected]