توازن الضعف .. حكومة عاجزة وقادة معارضة يجتهدون في انقاذ النظام من السقوط ! في بلادٍ ما؛ قيل أن رئيس الحكومة شعر بانهيار كامل لكل الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية في بلاده، ففكر في الأمر ملياً، فاتصل برموز المعارضة لكي يضمن ( هبوطاً آمناً لنظامه، ولكن لكي يسلم من المساءلة، بعد أ ن شعر باهتزاز الكرسي تحت أقدامه، آثر أن يترجى المعارضين بالإسراع باستلام السلطة، مع توفير الضمانات له ، أو اخباره برغبتهم إن كانوا يريدون تغييره، فردوا عليهم بقوله ( احكم حكمك، فنحن ليست لدينا قوة تسعفنا للحروج في مظاهرات ضدك في الشوارع ، فصبر الحاكم على نفسه، وتمدد في نومه قرير العين هانئها، لا من العدل، لكن من ضعف معارضيه، ومن قلة حيلتهم، ومن كرمهم الفياض معه. هي حالة تشبه حالنا تماماً، فالحكومة عاجزة تماماً والدولة فاشلة، كل الفشل، والنظام يسير نحو حافية الهاوية بأقصى سرعة، إلا أنه يواجه معارضة ضعيفة، ومرتبكة، وملتبسة، وحائرة، فالنظام بما يمتلك من جيوش وأمن وشرطة، ومناهج قمع، ووسائل استبداد، يقف اليوم حائراً، ومرعوباً وهو ما يتبدى في حشد قواته تلك لمواجهة أصغر تحرك جماهيري ، باستخدام العمف المفرط، وهو ما يؤكد حالة الضعف ، لأن القوي لا ترهبه جموع الأبرياء العزل، ولا تخيفه هتافات الشوارع مهما كانت صاخبة، أما المعارضة فهي تفتقد إلى الرؤية الموحدة، وتفتقر إلى الحيال والإبداع . علامات فشل النظام وانهيار الدولة . 1- تقسيم البلاد وتجزئتها ، وأبرز الأمثلة على ذلك؛ انفصال جنوب السودان . 2- استمرار الحروبات في جنوب كردفان ودارفور والنيل الأزرق. 3- اتهام قادة النظام بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية . 4- التدهور الاقتصادي المريع ، والمتمثل في ارتافع الأسعار، والبطالة، والتضخم، وتوقف معظم المشاريع الإنتاجية . 5- النجريف المستمر للعقول والسواعد السودانية عبر تدفق الملايين في أكبر الهجرات من السودان في تاريخه الحديث. 6- مصادرة الحريات السياسية وحرية التعبير والتنظيم والتجمع، والقيود المستمرة على الصحف والصحافيين. 7- تدهور القطاعين الصحي والتعليمي ورفض النظام الصرف عليها، ويكفي أن ميزانية القصر الجمهوري وحده تفوق الصرف على الصحة والتعليم، فيما تذهب نسبة 70% من الموازنة العامة إلى الدفاع والأمن. 8- الفساد الكبير بشهادة المراجع العام، وقادة النظام نفسه . 9- تفشي النعرات العنصرية، والقبلية . 10- سوء وفساد رجال الدين الرسميين، من ما يسمى بعلماء وغيرهم، والتركيز على قضايا انصرافية واغفال القضايا الجوهرية، واللهث وراء سراويل النساء وجلدهن . هي ابرز العلامات، وما تبعها هو تفاصيل وتداعيات، ولو كان هناك قائداً عاقلا، أو حكيماً لقرر الاستقالة من تلقاء نفسه، ولو كانت هناك معارضة قوية وراسخة لأطاحت بهذا النظام منذ أمدٍ طويل. إلا أن المعارضة نفسها تظل في ضلال مبين عن طريق التغيير، وتتمثل أبرز علامات ضعفها في الآتي : - 1- غياب الرؤية الموحدة والمشروع الوطني الجامع، والاختلاف حول وسائل التغيير، فهناك قوى الجبهة الثورية السودانية التي تتخذ من السلاح وسيلةً للتغيير، إلا أنها لا تزال تكرر تجاربها القديمة بحصر مقاومتها في الأطراف، دون أن تطور من عملياتها العسكرية ونقلها إلى المركز، وتوجيه ضربات نوعية موجعة وحاسمة، وهناك قوى الإجماع الوطني التي تعتمد العمل السياسي وسيلةً ، إلا أنها لا تزال تعتمد على اصدار البيانات والإدانات والشجب، وعقد الإجتماعات . 2- انقسام المعارضة نفسها على أساس جغرافي وعرقي، وهامش ومركز. 3- التباس المواقف لكثير من القوى المعارضة، فلا يزال مثلاً زعيم المؤتمر الشعبي حسن الترابي يحلم بعودة مشروعه الإسلامي الإقصائي، وبناء دولة دينية ظالمة وقاهرة، وتبديل رموز النظام الحالي برموز آخرين مع بقاء ذات المشروع التمكيني ببذوره وثماره المرة ، وبقدرما برز الترابي معارض شرس في السنوات الأولى لخلافه مع تلامذته ، إلا أنه سرعان ما تراجع عن شراسته تلك، ولفه كثير من الغموض، فظهرت تيارات في جزبه ، أبرزها؛ التيار المنادي لوحدة الإسلاميين بقيادة ابراهيم السنوسي، والذي كان يقود المظاهرات بكاءٍ على ما يعتبره فقدان شرعية في مصر، في وقت كان فيه الكثيرون يسخرون من ذلك لأن في داخل القصر الجمهوري في السودان يجلس فوق كرسي الرئاسة ضابط عسكري يحمل اليوم رتبة مشير، ووصل إلى الحكم عن طريق صناديق الذخيرة لا صناديق الانتخابات .وفي سياق آخر، يمثل الصادق المهدي أبرز علامات التردد، والوقوف في منزلة بين منزلتين، وليس امر من أن يذهب مسؤولوا النظام شخص لمطالبته بتفهم أسباب رفع الأسعار، والتي تمد لسانها ساخرةً كل يوم ، وللمفارقة فأن المهدي، وهو من سطى القوم على سلطته في ليل الثلاثين من يونيو 1989، بعد أن شاوره بعضهم في المشاركة في الإنقلاب، إلأ أن الرجل لم يكلف نفسه مشقة البحث في رواية الإنقلابات، وأسرار التحركات التي تجري من حوله، وكان مسؤول أمن نظامه العميد ابراهيم نايل إيدام، من بين المشاركين في الإنقلاب !. والمهدي هو أكثر القادة السياسيين التباساً في الرؤى، وارتباكاً في المواقف، فقد جاءه أحمد سليمان يسعى ليخبره بنيتهم في انقلاب تقوده الجبهة الإسلامية القومية، فصمت الرجل، فوقع الإنقلاب ولم يخرج أحد يزرف دمعاً على نظامه، وبعد سنوات ذهب المهدي إلى المعارضة الخارجية، وانضم إلى قيادة التجمع الوطني الديمقراطي " في اسمرا في عام 1996، فكان أن وصفه زعيم الحركة الشعبية الدكتور جون قرنق بقوله ( منذ مؤتمر أسمرا 1995م، كان للحركة الشعبية وحزب الأمة علاقات عمل جيدة، داخل وخارج التجمع الوطني، لكن، ومنذ خروجك من السودان تغير المناخ داخل التجمع الوطني. لقد شعرنا برغبة في إعادة صياغة كل مواثيق ومؤسسات التجمع الوطني. وفي كثير من المرات حاولت جر التجمع لكي يبصم على مشروعك للمصالحة مع نظام الجبهة، وقد نجح التجمع في مقاومة وصد هذه المحاولات. وفي الحقيقة، واسمح لي هنا أن أستعير صفحة من قاموسك، فإن أعداداً من السودانيين قد حذرونا من أنك قد جئت للتجمع ك «طابور خامس» للجبهة الإسلامية، وقد أشارت اتفاقيات جنيف وجيبوتي وعلاقتك المتحسنة مع الجبهة، إلى وجود شيء من الحقيقة في هذه الأقاويل.) . وقد تبادل الرجلان رسائل نارية ملتهبة، حوت الكثير من الاتهامات المتبادلة، وما كانت تكتمه النفوس خلال فترة العمل المشترك. وقد برر رئيس حزب الأمة – الإصلاح والتجديد مبارك الفاضل هذا الفتور إلى " إن «موقف الصادق العدائي من الحركة الشعبية سببه عداؤه الشخصي مع الراحل د. جون قرنق». وقد ذكرت «أجراس الحرية» في ذلك الحين أنه «نظراً لأن الحركة الشعبية وحزب الامة من القوى السياسية الكبيرة، وكذلك نظراً لحالة الفتور والتوتر الذي يسود العلاقة بينهما منذ خروج حزب الأمة من التجمع الوطني الديمقراطي للمعارضة السابقة في المنفى، وأيضا نظراً لحالة عدم الثقة بينهما في فترة الديمقراطية الثالثة الممتدة من عام 1985م وحتى استيلاء سلطة الإنقاذ الوطني القائمة على السلطة في عام 1989م، والتي كانت نتيجتها إبطاء عملية السلام في ذلك العهد الديمقراطي. هي مواقف معروفة منذ تلك الأيام، مروراً بتهتدون وتفلحون، وجيبوتي والتراضي الوطني، فقد ظل المهدي كلما أرتفعت درجة الحرارة داخل منظومة المؤتمر الوطني مد لهم المهدي بالمياه الباردة، وكلما وزعوا بطاقة دعوة تحرض الناس عليهم سعى الصادق لامتصاص الغضب المتوقع بارباك المشهد السياسي، باعتباره عضوا ضمن القوى السياسية المكونة لجبهة قوى الأجماع الوطني، إلا أنه يصر على الوقوف في المنزلة بين منزلتين، فهو مع المعارضة في اجتماعاتها وفي خطوطها العريضة، ومع النظام في سعيه الدؤوب نحوانتزاع فتيل التوتر التي تهدد بنسف كل القصر الرئاسي واسقاط طائرته التي تفتقد للطيار الماهر ، وفك الحصار كلما ضافت الحلقات واستحكمت حول عنق النظام . هذان هما ؛ أبرز زعماء المعارضة لأن الجزب الشيوعي السوداني يفتقد اليوم إلى القائد الكاريزما، وإلى الفعل الحقيقي، فيما يغيب شخص مثل محمد عثمان الميرغني تماماً عن الساحة السياسية، ويظل الرجل مشعولاً بقضايا خاصة، وحينما يستيقظ من سباته العميق يردد عبارته المخفوظة مثل ( الوفاق الوطني والمصلحة الوطنية والوحدة)، وتظل هذه المفردات هلامية الملامح، وكلمات معلقة في الهواء، لا يمسك بها سوى الميرغني وحده. وفي ظل غياب المشروع الوطني وضعف القوى التقليدية والعسكرية سياسياً، لا نزال عاجزين عن تأسيس كيانات شبابية مبدعة وفاعلة، وقى جديدة تبشر بالتغيير، وقد برزت في الأفق حركات مثل ( شرارة) و( قرفنا) إلا أنها لم تسلم من داء السياسة السودانية بعد ان اصايتها أمراض الانقسامات، وشخصنة القضايا، والاخترقات الأمنية، والشيخوخة المبكرة، والعمل بطريقة النجومية، وتحقيق مكاسب تنتهي بقادة تلك الحركات في المنافي بحثاً عن الهجرة والتوطين في البلاد الغربية. إن المشهد السياسي في السودان يمر بحالة " جمود" مع أن كل المؤشرات تنذر بالإنفجار، أو الثورة الفجائية، وربما الفوضى، و الدخول في دوامة عنف قد يطول ، لأن كل اللاعبين الأساسيين الييوم في حالة انهاك شديد، وهي حالة ( توازن الضعف)، تلك الحالة التي اعترت الجميع، فصار كل اللاعبين الأساسيين ضعفاء، يقفون في أماكنهم مع أن الزحف يحاصرهم، زحف الغلاء والجوع، وفورة بركان لا زال محتقناً، ونذر أعاصير تلوح في الأفق القريب، إلا أن ما يفتقده السودان اليوم؛ هو القائد الحاذق الذي يمتلك مهارات فائقة، وقدرة كبيرة على توظيف كل هذه المتغيرات لمصلحة التغيير. وهذا القائد ليس بالضرورة أن يكون شخصاً، لأن الكاريزما بين السودانيين تكاد تنعدم، ولذلك يمكن أن يكون هذا القائد الملهم هو قائد معنوي، أي أنه مشروع سياسي يلهم الملايين بالتغيير، ويغريهم على تقديم التضجيات. لقد سبقنا في السودان كل دول المنطقة في عملية تغيير الأنظمة القمعية عن الانتفاضات الشعبية، والعصيان المدني، إلا أن حالة من العجز لا تزال تحاصرنا، ولا يزال الجمود هو سيد الموقف مع وجود كل محفزات التحرك ربما لأن الواقع الآن قد تبدل، فالحكومتان السابقتان برغم أنهما عسكريتان إلا أنهما كانت تقومان على حكم الفرد، واستبداد شخص، أو مجموعة صغيرة تحيط به، أما التجربة الحالية، فنظام البشير هو نظام حزب، ونظام عقائدي، وفطِن لما اعتبره مهددات منذ إعلان البيان الأول، فأقام خطة التمكين، وجرف الخدمة المدنية والعسكرية من كل العناصر الوطنية ، والديمقراطية، وهي التي هاجرت وتركت البلاد في سياق البحث عن الحلول الفردية، وما نعانيه في السودان من أمراض ، وهي الشرائح المعنية بالتغيير، وقضايا الديمقراطية والتنمية، وحقوق الإنسان. ولذلك كان على المطالبين بالتغيير التفكير في وسائل مختلفة، مع الإبقاء على وسيلة التظاهر والعصيان المدني ، والإضراب السياسي كوسائل مكملة لوسائل أخرى، بما في ذلك المقاومة المسلحة. إلا أن الأزمة هي أكبر من مسألة إسقاط النظام ، فالسؤال الذي نحتاج إلى إجابة له هو ما هو مشروعنا الديمقراطي والوطني البديل لمشاريع الدمار والتشظي والدولة الدينية والعنصرية؟. وهل في إمكان تلك القوى السياسية تدارك هذا الواقع لأنقاذ ما يمكن انقاذه ؟.