كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون ينقلون معهم عاداتهم في الأعراس إلى مصر.. عريس سوداني يقوم بجلد أصدقائه على أنغام أغنيات فنانة الحفل ميادة قمر الدين    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالفيديو.. جنود بالدعم السريع قاموا بقتل زوجة قائد ميداني يتبع لهم و"شفشفوا" أثاث منزله الذي قام بسرقته قبل أن يهلك    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    السودان يردّ على جامعة الدول العربية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    البرهان يزور تركيا بدعوة من أردوغان    المريخ يحقق الرمونتادا أمام موسانزي ويتقدم في الترتيب    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    تقارير: الميليشيا تحشد مقاتلين في تخوم بلدتين    جنوب إفريقيا ومصر يحققان الفوز    مجلس التسيير يجتمع أمس ويصدر عددا من القرارات    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    سيدة الأعمال رانيا الخضر تجبر بخاطر المعلم الذي تعرض للإهانة من طالبه وتقدم له "عُمرة" هدية شاملة التكاليف (امتناناً لدورك المشهود واعتذارا نيابة عنا جميعا)    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    مكافحة التهريب بكسلا تضبط 13 ألف حبة مخدرات وذخيرة وسلاح كلاشنكوف    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    تونس.. سعيد يصدر عفوا رئاسيا عن 2014 سجينا    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانتفاضة المصرية وعيوب معارضتينا « القديمة » و « الجديدة »
نشر في حريات يوم 12 - 02 - 2011

مثل كثيرين من جيله يصعب علي صاحب هذا المقال ان يتعامل ببرود عقلاني مع الملحمة الخالدة التي يسجلها الشباب المصري في كتاب الثورات، إذ يعايشها بقدر أو اخر مستعيدا ايام اكتوبر 64 وابريل 85 السودانية الخالدة.
علي ان نظراً أعمق في هاتين التجربتين بالذات يحتم علي المرء ان يتجرد من كل العواطف والانفعالات ويلقي اضواء علي الحدث المصري بقدر ما يستطيع، انطلاقا من تقييم التجربتين السودانيتين من منظور حصيلتيهما في استدامة الديموقراطية.
الواقع ان قصة حدثي اكتوبر وابريل الكبيرين التي لم ترو بعد في كتاب النقد الذاتي الانتفاضي السوداني، هي قصة الانتفاضة الشعبية المغدورة بواسطة من قادوها … ليس القيادات ولاحتي الاحزاب فقط وانما ،وهو الاخطر بما لايقاس،مجموعات النخب والمناخ العام الذي تمخضت عنه الانتفاضة.
بذلك بقيت الخبرة المفيدة مستقبليا من هذين الحدثين المفصليين في تاريخ السودان الحديث غائبة عن الذهن السياسي السوداني مايفسر تمكن الشمولية الدينية من المجتمع نفسه قبل سلطة الدولة.
بعبارة اخري ليس صحيحا، وفق ادعاء هذاالمقال، ان اجهاض المكاسب الديموقراطية للانتفاضتين كان بفعل قوي من خارج صناعها، اوعلي الاقل، بفعل هذه القوي وحدها.
ثورة اكتوبر كانت حراكا شعبيا باهرا علي ساقي اضراب سياسي عام وحضور شارعي قوي شارك فيه الجميع أحزابا وأفرادا تحضيرا وتنفيذا، ولكن الوقائع تقول بأنها كانت صناعة يسارية، وشيوعية خاصة.
وقتها كانت الموجة الاشتراكية طاغية عربيا وعالمثالثيا منذ الخمسينيات والرأسمالية ورصيفتها الامبريالية تتراجعان تحت ضغط انظمة ناصر المصري ونكروما الغاني وسوكارنو الاندونيسي وأضرابهم، والهزائم الامريكية في فيتنام وغيرها ونمو الحركات السياسية المسلحة بالايدولوجيا الاشتراكية حتي في امريكا نفسها مثل « الفهود السود «.
في السودان كانت بداية هذه الموجة قد أطلقت ديناميكية فعالة لمجموعة من أميز مثقفي ومتعلمي مابعد الاستقلال عام 56 اختارت صيغتها الشيوعية- الماركسية.
وفي مجال النخب الحَضَرية وشبه الحضرية شكلت الحركة الشيوعية أرقي اشكال التنظيم السياسي والنقابي مفتتحة عصر السياسة السودانية المفّكِرة القائمة علي التخطيط المشتق من اسس نظرية معينة، ومن ذلك اكتشاف وطرح فكرة الاضراب السياسي ومن ثم إعداد مستلزماتها.
علي انه كما كان كعب أخيل الحركة الاشتراكية عموما ، كما اثبتت الانهيارات المتتالية لنماذجها الدولية منذ الثمانينيات، هو أوللة « من أولوية » الديموقراطي اجتماعيا علي الديموقراطي سياسيا، فان الجهد التاريخي لصيغتها السودانية باعلاء مصالح الطبقات الشعبية وتفجير الوعي العام بحقوق المشاركة في السلطة والثروة صب في مسار مسدود النهايات، مما انتهي بها للتمهيد لمخرج انقلابي منه.
فالنجاح الباهر لهذه النخب في تفكيك نظام الدكتاتورية الاولي « 58- 64 » وضعها وجها لوجه أمام مأزقها حول قضية الوصول للسلطة متمثلا في العجز عن منافسة الاحزاب التقليدية ذات الثقل الريفي الطائفي انتخابيا، بينما تنافيها الايديولوجي مع الديموقراطية الليبراليه الكامن في صلب ماركسية الحزب الشيوعي الكلاسيكية نسبيا حينذاك، يمنعها من التفكير والتخطيط لاستثمار رصيدها الاكتوبري الغني لتأهيل نفسها مستقبليا لمثل هذه المنافسة.
وفي المناخ النخبوي الجامع بين التعبئة ضد الاخطار المحدقة بمكاسب ثورة اكتوبر من فوز أحزاب الزعامات القديمة بسلطة دولتها، والتثقيف الفكري اللاديموقراطي، كان حتميا ان يأتي الانقلاب الثاني من اوساط هذه النخب نفسها.
وهكذا في 25 مايو 1969 استولي خليط ناصري – يساري من ضباط الرتب الوسيطة علي السلطة بقيادة جعفر نميري متبنيا برنامجا انتخابيا كانت قد طرحته القوي الاشتراكية، وكان طبيعيا ان يجد احتضانا ماديا ومعنويا ملموسا من المناخ الذي صنعه ناشطو ثورة اكتوبر 64 ضد الدكتاتورية الاولي.
عند هذه النقطة بدأ الترسب التدريجي للنموذج الانتفاضي النقيض- المشابه ليتجسد متكاملا بعد 15 عاما في انقلاب يونيو 89 منبثقا، هذه المرة، عن مناخ صنعه الناشطون الاسلاميون مستثمرين مجموعة من التطورات السودانية وغير السودانية التي رشحت الفكر السياسي الديني وممثليه الحركيين كبديل لليسار.
داخليا، وكما هو شأن كافة السلطات اللاديموقراطية المنشأ، تدهور التعايش القلق بين قيادة انقلاب مايو 69 و« حلفائه » من اليسار المنظم حزبيا الي صراع عنيف، دفع بها تدريجيا نحو اليمين متخلية عن مشروعيتها التقدمية الي مشروعية تنموية محايدة ايدولوجيا تمشيا مع نشوء الحقبة الساداتية في مصر ومع الحاجة للدعم من الاوساط الحزبية والشعبية السودانية غير اليسارية.
ومع انطفاء جاذبية النموذج الاشتراكي الناصري بعد هزيمة 67 وتزايد وزن النموذج السعودي – الخليجي الاسلامي اثر تدفق البترو دولار بعد حرب 73 ، متزامنا مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية السودانية التي وصلت حد المجاعة في غربي البلاد، انفتح الذهن النخبوي والشعبي السوداني ملجأ للتدين الخام والتبسيطي.
هذه البيئة المناقضة تماما لبيئة ماقبل اكتوبر 64 هي التي نفخت الروح في حركة الاخوان المسلمين الخاملة لتنجب قيادة الترابي الشابة عمرا وتفكيرا فولدت من جديد بديناميكية عالية رفعت معدلات نمو الحركة الاسلامية بمراحل مقارنة بمعدلات نمو كافة الأحزاب الاخري منذ اواخر السبعينيات ، مقصية اليسار من موقعه في قيادة النخب المديينية « بلغت نسبة اصوات الجبهة الاسلامية في انتخابات مابعد الانتفاضة 18.5 % مقابل 1.7 % للحزب الشيوعي ».
من هنا فأن انتفاضة 6 ابريل 85 التي اطاحت بسلطة مايو 69 كانت، بالاساس، ناتج فك تحالفها مع الحركة الاسلامية قبل ذلك بشهر واحد وليست نتاج احتشاد ديموقراطي التوجه قريب بأي درجة من مستوي احتشاد ثورة اكتوبر وعيا او تنظيما، لان الحركة كانت مؤهلة تماما لافشال اي اضراب سياسي او حضور شوارعي لو بقي التحالف قائما.
ودليل ذلك الاقوي ان الجبهة القومية الاسلامية، الاسم الجديد للحركة الاسلامية وقتها، تمكنت بسهولة من العودة الي قلب مرحلة مابعد العهد الانقلابي الثاني رغم تحالفها معه لمدة 7 سنوات وحتي اللحظة الاخير «تحديدا 9 مارس 85» مخترقة كافة مؤسساته في تشكيلة المجلسين العسكري والوزاري الانتقاليين والاجهزة الامنية والعسكرية وحتي برلمانه حيث حققت مايشبه الاكتساح في الانتخابات التي جرت عام 86 قافزة الي المركز الثالث بعد الحزبين الانتخابيين تقليديا، الامة والاتحادي الديموقراطي «نسبة الاصوات : الامة 38 %، 29.5 % للاتحادي، 18.5 % للجبهة».
علي أن عقائديتها الدينية المحتوي جعلتها مصمتة ضد الديموقراطية الليبراليه أكثر من اليسار، فانجرفت علي طريق الانقلاب والشمولية، فكانت سلطة انقلاب يونيو 89 المتسلطة حتي الان في مجتمع مدجن ومرتبك أمام الموضوع الديني بفعل تدهور خصائصه ماقبل- الاستنارية الي خصائص ضد- استنارية فائضا بفكر الخرافة والغيبيات.
ماهو السر خلف الحصيلة الفقيرة من حيث الاستدامة الديموقراطية للانتفاضتين بحيث أعقب كل منهما انقلاب اخر، والي ذلك،من داخلها وأطول عمرا واكثر شمولية من سابقه ؟ هناك حليف سري فعال للانقلابيين مدنيين كانوا او عسكريين، يساريين كانوا او يمينيين مؤدلجين كانوا او مجرد مغامرين، غاب ويغيب وغائب حاليا عن رؤية المعارضين هو حالة التبرم من النظام « الديموقراطي » التي تنتشر بسرعة بين سواد الشعب بعد الانتفاضات مع انه الاكثر معاناة بما لايقاس من افلاسات الانظمة الدكتاتورية.
بمرور الوقت تتكثف هذه الحالة الي سلبية لاتبالي كثيرا بمصير النظام الجديد ترتفع الي مستوي التأييد الصريح للانقلاب عليه .
مايو 69 استقبلته الجموع المتأثرة بأطروحات اليسار، وكانوا اغلبية كاسحة في المدن، عبر موكب 2 يونيو الحاشد ، وازاء يونيو 89 بقي ميثاق الدفاع عن الديموقراطية الذي وقعته كافة الاحزاب ورقة في مهب الريح.
بهذا المعني الهام الانقلابات هي صناعة ضحاياها أيضا.
هذه حقيقة تشكل جانبا هاما من الصورة لاتدل تصرفات وخطط المعارضة الان او ضد نظامي نوفمبر 58 ومايو 69علي انتباهها لوجوده، سواء الرسمية منها ممثلة في « قوي الاجماع الوطني « أو غير الرسمية ممثلة في المعارضات الشبابية غير المؤطرة حزبيا « قرفنا، شباب التغيير الخ » وتلك المؤطرة حزبيا «حركات حشد وحق ، المؤتمر السوداني، التحالف الوطني والحزب الليبرالي ».
الديموقراطية علي فعاليتها الظاهرة استقرارا ونماء في البلدان التي استدامت فيها، يضمن سلامة ونجاعة قراراتها وسياساتها كونها تنضج علي نار هادئة عبر التفاعل المفتوح بين الحكومة والمعارضة السياسية وغير السياسية « المجتمع المدني ».
غير ان الضغوط اليومية الحياتية الهائلة التي تعانيها الشعوب المحرومة ترفع سقف توقعاتها بعد مجئ النظام الديموقراطي من حيث معدل سرعة تخفيف هذه الضغوط فتصاب بصدمة الاحباط وينفتح لديها مجال القبول بوعود الخلاص الانقلابي « السريع » التنفيذ.
فمهما كانت قوة دوافع الاقدام علي الانقلابات لدي مجموعة عسكرية او مدنية معينة الا أن دخولها حيز التنفيذ مستحيل إذا كان الرأي العام محصنا ضد الاستجابة لاغراءاتها، بل ان التفكير الانقلابي نفسه لايطرأ علي ذهن احد جدياً من الاساس.
والسؤال المصيري سودانيا ومصريا و.. و.. هو كيف يمكن إيجاد هذه الحصانة؟ أحد المداخل الواسعة للاجابة كامن في تجربة استدامة المكاسب الديموقراطية في انتفاضات اوروبا الشرقية، ففيما عدا يوغسلافيا السابقة التي لعب التدخل العسكري لحلف الناتو دورا في بداية تحولاتها الديموقراطية المستدامة، حققت بقية الدول من بحر البلطيق الي اوكرانيا تحولاتها سلميا عموما بينما بقيت الجمهوريات الاسلامية للاتحاد السوفيتي سابقا في حالة بين بين.
النقطة التفسيرية الرئيسية هنا هي : الجسر الديني المسيحي، والثقافي عموما ، مع اوروبا الغربية مما هيأ العقل الشعبي والنخبوي في اوروبا الشرقية للتفاعل المفتوح والكامل مع نظامها السياسي الديموقراطي، والاهم من ذلك، مع قاعدته الاستنارية التحتيه المرتكزة الي مفهوم حرية الفرد « مقابل الامة والشعب والطبقات » والتأويل العصري للدين.
افتقاد هذ الجسر لدينا ليس هو المشكلة في حد ذاته لان بيئات مسلمة مثل تركيا وماليزيا توفرت فيها قابلية التفاعل هذه، وانما ان خصوصيات تطورنا التاريخي جعلت الانتفاضتين ضد الانظمة الدكتاتوريه بقيادة النخب المتعلمة حاجزا امام نضوج البنية الاستنارية التحتية المولدة لهذه القابلية التي كانت بوادرها قد تجسدت في النهضة الثقافية الموازية لحركة الاستقلال الوطني منذ الثلاثينيات.
علي سبيل المثال فان دعوات التشدد الديني كانت موجودة بين ظهرانينا علي الدوام ولكنها لم تبدأ في التحول الي قبول جماعي، او استسلام في افضل الاحوال، للتزمت الاجتماعي والتعصب الفكري والسياسي حتي وسط النخب الحضرية والمتعلمة ناهيك عن الريف البدوي والزراعي، الا منذ السبعينيات.
هناك بطبيعة الحال اكثر من سبب وراء هذا التحول ولكن يجدر التركيز علي دور صناع الانتفاضتين « الديموقراطيتين » في هذا الخصوص لانه ظل مهملا حتي الان.
فالحاجز الاكتوبري تمثل في هيمنة الاشتراكيه ناقصة الديموقراطية علي عقل وثقافة النخب المحركة للتغيير، قائدة الجمهور العام ومصدر تنمية وعيه، والحاجز الابريلي تمثل في هيمنة الاسلام ناقص الديموقراطية علي هذه النخب.
مهما كانت الظروف المخففة لمسؤولية النخب الحزبية وغير الحزبية، مثل صعوبة التمييز بين الايجابي والسلبي في النموذج الغربي بسبب حدة العداء المشروع له خلال الستينيات مقرونا بالجاذبية العالية للانظمة الاشتراكية وقتها، فان هذه المسؤولية تبدو هنا غاية في الوضوح من حيث ماهيتها/ طبيعتها وحجمها وكذلك علاقتها ب « مسؤولية » سواد الشعب عن الانهيارات السريعة للانظمة الديموقراطية.
عدم الانتباه للمسؤولية علي هذا النحو عطل ويعطل امكانية التفكير والتخطيط السليمين للعمل المعارض للانظمة الدكتاتورية إذ يحدد اهدافه ووسائل تحقيقها انطلاقا من ظاهر المعضلة فقط « سلطة الانقلاب » وليس مرتكزاتها التحتية أيضا، من الجزء الظاهر لجبل الجليد وليس ثقله الاكبر تحت الماء.
من هنا تتذبذب حركة المعارضة بين هدف الحد الاقصي « اسقاط النظام وبوسائل الصراع المدنية أو العسكرية » والادني « الحصول علي تنازلات محدودة بواسطة التفاوض» دون نسق تصاعدي جامع ومن ثم تنتهي الي التفتت، وبالقدر نفسه تعجز المعارضات « الجديدة » التي تنتقد عجز المعارضة الرسمية، عن تنمية بديل ذي مصداقية.
كما تخلو استراتيجية العمل لدي النوعين من المعارضة من اي تحليل يربط بين نشوء الدكتاتوريات وهشاشة الوعي الديموستناري « الديموقراطي- الاستناري » النخبوي والشعبي وتاليا من أي تصورات حول كيفية تنميته.
والنتيجة هي ان كل الجهود والتضحيات التي تبذل قبل الانتفاضات واثنائها تتمحور كلية حول اسقاط النظام بمعني عدم استنادها الي تصورات متبلورة حول السياسات المطلوبة من قبل حكومات مابعد الانتفاضة والمعارضة الحزبية وغير الحزبية لاستئصال جذوره، أي الاسقاط الحقيقي الذي لادكتاتورية بعده.
بذلك ايضا يستقر في روع وذهنية الجمهور العام ان توقعاته وأمانيه ستحقق بمجرد انجاز هذا الهدف مما يجعله فريسة جاهزة للاحباط واحتياطيا، بل ومحفزا، للانقلاب التالي.
بذلك نجد انفسنا من الناحية العمليه امام المفارقة التي تجعل المطالبة بإسقاط النظام ثم إسقاطه فعلا سقفاً أعلي من امكانيات المعارضة بسبب عجزها عن منع تكرار وقوع مثيله الاكثر شمولية والاطول عمرا.
والاخطر من ذلك أن الفراغ الناشئ بين السقف والامكانية يستنبت الفعاليات التي تقدم « حلولا » جاهزة لالام البشر السودانيين وبؤسهم المتزايد، اذا لم يكن في الدنيا ففي الاخرة، نتيجة تراكم فشل الديموقراطيين في تقديم هذه الحلول.
هكذا تصاعد وزن الاسلام السياسي عندنا حركة، ثم سلطة تقع تدريجيا تحت سيطرة جناحها الاكثر تطرفا، بينما يترعرع الاسلام السلفي وسط الشباب.
الاشارة الواردة من التجربة المصرية حول بؤرة السياسات المطلوبة لتنمية الوعي الديموقراطي- الاستناري نعثر عليها فيما يبدو من ان المحرك الرئيسي للقطاعات الشبابية وراء الانتفاضة هو قيادات تكونت في حركات مجتمع مدني غير حزبية مثل « كفاية « وبعدها « شباب 6 ابريل» و» شباب خالد سليمان» واخري غيرمنظمة، كما ان النسبة الاكبر منهم منتمية الي الطبقة الوسطي وواضح من اجادتهم للغة الانجليزية واستخدام وسائل الاتصال الحديثة ومظهرهم الخارجي انهم تلقوا تعليما حديثا متطورا غالبا في المؤسسات التعليمية الاجنبية المنتشرة في مصر.
وكان ناشط سوداني مقيم في القاهره قد لاحظ ان معظم الناشطين المصريين الذين ساندوا جهودهم لنجدة ضحايا مجزرة ميدان المهندسين ضد اللاجئين السودانيين عام 2005 كانوا من خريجي الجامعة الامريكية في القاهرة.
إذا صحت هذه المعلومات، فان من الممكن القول بوجود بؤر ديموستنارية مصرية نشطة، مايشكل ضمانا معقولا لاستدامة الديموقراطية بعد إسقاط النظام.
ماهو حظ شبابنا من فرص الوعي الديموقراطي – الاستناري التي اتاحتها الظروف لشباب مصر ؟ هذا سؤال يجب ان يشغل اهتمامات مفكرينا السياسيين والملاحظة المقلقة بصدده هي ان معظم من تتوفر فيهم مولدات الخصائص الديموستناريه المشار اليها من شبابنا، وهم اقلية ضئيلة، يأتون من خلفيات أسرية اسلامية بحكم حدوث التراكم الرأسمالي مرتبطا بصعود الاسلام السياسي، بينما الاغلبية الساحقة من شبابنا مسحوقون معيشيا ويتخرجون من نظام تعليمي مؤمم دينيا كلية منذ عشرين عاما وجزئيا قبل ذلك.
الاشارة المصرية للوجه الاخر من الموضوع ، اذا اتضحت عدم صحة تلك المعلومات ونشأ التباين بين السقف والامكانية كما يُتوقع عندنا، هو ماينعقد عليه الاجماع من ان الطرف السياسي الاقوي والاكثر تنظيما بمراحل من الاطراف الاخري المرشحة لملء الفراغ هو « الاخوان المسلمون « .
وهؤلاء يشير اخر برامجهم الصادر في اكتوبر 2007، بعكس الحركات الاسلامية في تركيا وتونس، الي تمييز واضح تجاه غير المسلمين والمرأة ويقيد سيادة البرلمان بسلطة دينية اعلي.
لذلك لم يكن غريبا ان انتخابات مكتب الارشاد الاخيرة ابعدت الشخصيات المحسوبة علي التيار الاصلاحي.
اما المرشح المصري الاخر متربصاً بأمكانية الاستدامة الديموقراطية بعد الانتفاضة، فهو المؤسسة العسكرية.
هذه حكمت مصر منذ نهاية النظام الملكي عام 1952 ويمكن ان تنجح في تسويق نفسها كقلعة للاستقرار ، وهو نفس التكتيك الذي استخدمته الانقلابات سودانيا، في ظروف انحطاط المعارضة المشروعه لحكومات مابعد الانتفاضه الي فوضي نتيجة ضعف القوي الديموستناريه ، كما أن الولايات المتحدة تطمئن الي المؤسسة العسكريه بحكم علاقة التمويل والتسليح والتدريب الوثيقة معها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.