من مزايا الثورات العربية أنها بدأت تحرر المثقف الذي أصبح يشارك في النقاش العمومي حتى وإن عرض نفسه لخطر القمع السلطوي أو للاغتيال الإرهابي. إذا اتفقنا أن سبيل تطور معقوليتنا في خضم التحولات الثورية التي تعيشها بعض البلدان العربية يكمن في الحرية والإبداع فلابد إذن من إعطاء صبغة عملية لذلك. نعم لقد حررت الثورات العربية في تونس ومصر الكلمة، وأصبحت المداولة والحوارات ممكنة بواسطة الإعلام أو في المؤسسات الوطنية وفي الساحات العمومية أو على صفحات الأنترنت. وهذا مكسب لا يستهان به مقارنة بالوضع الذي كانت عليه مجتمعات دول الربيع العربي. فهل معنى ذلك أن هذه المجتمعات قد أصبحت تنعم بالحرية؟ لا أظن، لأننا في الوقت الذي نشهد فيه تحرير الكلمة قبع في تونس مبدعون في السينما والغناء وصحافيون ومدونون في السجون وجرمهم أنهم تكلموا بحرية ونقدوا دون تحفظ، وذلك بتفعيل قوانين عهد الاستبداد وتنفيذها. في واقع الأمر، تستدعي مرحلة المداولة في المسار الديمقراطي قيما عديدة هي ركيزة لها بجانب أدبيات التحاور وأخلاقياته. ويمكن فرز ثلاث ركائز مهمة للمداولة في الديمقراطية هي الحرية والتعقل والتسامح. فالناظر الآن في معطيات الحوار الوطني بتونس الذي يجري ببطء بين الأحزاب السياسية الماسكة بالسلطة وأحزاب المعارضة، تحت رعاية المنظمة الشغيلة وعمادة المحامين ومنظمة حقوق الإنسان ومنظمة الأعراف، سيصطدم بمقارباتهم المختلفة للحرية. فكل اتجاه يذهب بها مذهبا خاصا فيجزئها ويأخذ منها الجزء الذي يتماشى وبرنامجه السياسي والإيديولوجي. وهي ظاهرة يتميز بها عادة الحكم الديكتاتوري الذي يسلب الحريات السياسية ويسمح ببعض الحريات الاجتماعية والثقافية ويترك للاقتصاد جانبا من الحرية. فالحرية في المسار الديمقراطي الحقيقي لا تتجزأ ولا تقبل المساومة والتقزيم. لذلك ستكون الحرية دائما هي الحق بأن لا يخضع الفرد في المجتمع إلاّ للقوانين العامة. يعني ذلك أنّه على المجتمع أن يضمن كرامة المواطن فلا يمكن اعتقاله أو سجنه أو قتله أو تعذيبه من قبل إرادة اعتباطية لفرد معين سواء كان هذا الفرد في أعلى هرم السلطة أو في أسفله، أو من قبل قرار اعتباطي لمجموعة من الأفراد. أن يكون الفرد حرا في المسار الديمقراطي يعني الحق بالتصريح علنا وبدون رموز وواسطة ملتوية بآرائه ودينه وفلسفته واعتقاداته، كما يعني الحق في اختيار طريقة عيشه دون شرط أو تصريح أو جواز والحق في الاجتماع بأفراد عائلته وبأفراد مجتمعه لأغراض نفعية أو دينية أو إيديولوجية أو سياسية في ضوء القوانين التي تم اتخاذها بالإجماع وحسب آليات التشريع الديمقراطي. فالحرية هي الأمل، والحرية هي المفتاح بدونها نبقى كالبعير يقودنا نظام من حديد، ولكن النظام يبقى حينئذ هو نظام البهائم. يستدعي التحاور بين كل هذه الأحزاب التي قبلت بالتمشي الديمقراطي في السياسة والفكر أن تقبل هذا المعطى في فهم الحرية حتى نتجنب سوء الفهم وبعض التجاذبات السياسية وعدم الثقة والإنزلاقات الخطيرة نحو السب والشتم والاتهامات الباطلة. فبعد الثورة يجب أن تكون الحرية في فهمها الكامل ديدن الجميع، لنتمكن من حوار موضوعي ونزيه قد يقود الجميع إلى الاتفاقات حول قضايانا المصيرية فيعود لتونس بريقها العالمي ويصبح العيش معا ممكنا مهما كانت اختلافاتنا عميقة لأن الحرية الكاملة هي التي ستضمن حقوقنا الفردية والجماعية. طبعا للحرية حدود ولكن حدودها تكمن في ذاتها إذ لا تحد حريتي إلا حرية غيري. والحدود بين الحريات ترسمها في الأنظمة الديمقراطية قوانين تمت مناقشتها في أجهزة الدولة المنتخبة وصادق عليها البرلمان بحيث أصبحت مشرعة بإرادة الشعب. ولا يفوتنا أن مسألة الحرية بالذّات هي ركيزة أولية وضرورية لكل تقدم ممكن. ومقاربة هذه المسألة لا تكون مجدية إلا إذا كانت مقاربة جدلية مفتوحة مرتبطة بمفاهيم مجاورة كالمسؤولية، والقرار والفردية والتعايش والغيرية وغيرها من مفاهيم أساسية تجعل من الحرية شبكة معقدة من التصورات والممارسات. إلا أن المقاربة النظرية للحرية لا تكفي باعتبارها أيضا ممارسة في الأساس على المستوى الوجودي والاجتماعي يجب أن ترافق كل تفكير فيها وكل تنظير وتأسيس لها. فالتفاعل الحقيقي بين مفهوم الحرية وممارستها داخل كل طيات المجتمع في عالم الربيع العربي هو الذي يعطيها إيجابية قصوى ويجعلها تسكنه بسهولة لاسيما إذا أصبحت الحرية مطلبا دائما للشعب يدافع عنه كدفاعه عن الخبز اليومي. ذلك يعني أن الدفاع عن الحرية سمح في الثورات العربية ببروز «المدني» وتركيز شرعيته على المجتمع والسياسة. وفي حقيقة الأمر، فان مبدأ الحرية في كل شيء، في الدين والأدب والفكر والصناعة والسياسة والمجتمع، يقودنا أساسا إلى تصور «المدني» من حيث هو نتيجة حتمية لتفاعل شائك بين الفردانية والاجتماعية، حيث لن يضمحل الفرد داخل مستلزمات المجتمع السياسية، ولن يغيب الوجود الاجتماعي المشترك عن الفعل الفردي والحق الإنساني. ولعل ما يجب الانتباه إليه هو أن مجتمعاتنا العربية مازالت تولٌد السياسي لقمع المدني، فإذا كانت التجربة المصرية في الحكم بعد الإطاحة بنظام مبارك تجربة مفيدة تبين تغلب المدني على السياسي باعتبار نزول الحشد العظيم من الشعب للشوارع والساحات لإجبار السياسي على الانفتاح على المدني، فإن التجربة التونسية مازالت لم تجد التوازن الممكن بين المدني والسياسي، ومازال أصحاب السلطة ينظرون إلى المجتمع المدني نظرة إقصاء. وعموما مازالت السلطة في الأقطار العربية ترتكز على شبكة هائلة من الاقصاءات المتعدّدة، بحيث سيكون السّويّ المصطنع الذي قد تمت صناعته داخل الأسرة وفي المدارس وتحت وطأة الإيديولوجيات الرسمية هو المواطن الوحيد الممكن بالنسبة إليها، بحيث سيكون حق الاختلاف والتعارض غير محبذ في هذه المجتمعات السياسية. صحيح أن ما يميز حقل الثقافة العربية في واقعه اليومي هو التنوّع. وقد يكون ذلك إيجابيا لغرس مستلزمات الفكر الحرّ والنقاش العمومي لقضايانا، ولكن الفكر العربي عموما قد كان عرضة لقمع شديد. فالمفكرون مقهورون في معظم البلدان العربية، بحيث أن الفكر ما زال يعيش القهر المتواصل وفي أفضل الحالات يستلزم المفكر في كثير من البلاد العربية أن لا يتحدث في السياسة والمجتمع، وأن يقبع داخل اختصاصه الضيق، وأن يكتفي بوظيفته حتى لا يصبح غربيا كامل الغربة في وطنه. ولعله من مزايا الثورات العربية أنها بدأت تحرر المثقف الذي أصبح يشارك في النقاش العمومي حتى وإن عرض نفسه لخطر القمع السلطوي أو للاغتيال الإرهابي. ومع ذلك يستطيع المثقف الآن بكل جرأة وشجاعة أن يبني مقومات فكر تقدمي يقوم على إنتاج الحقائق العلمية في كل جوانبها، ويفتح المجال للفرد أن يختار نمط حياته ليثبت انتماءه ومدنيّته بحرية وتعقل واحترام للغير والعيش سويّا، إي إنه سيواصل المشروع الإصلاحي الذي بدأ منذ القرن التاسع عشر وسيتواصل الآن رغم الأزمة العنيفة التي تهزّ كيان الإنسان العربي مع مستجدات العلوم الحالية ومع منتجات الثقافات الإنسانية. الفكر العربي من خلال نضالات المجتمع المدني ضد الدغمائية والإرهاب قد يأخذ اليوم صبغة متجدّدة تتأسس على الحرية والمدنية والتعقّلية والعيش معا بالعزّة والكرامة والقوّة وحبّ الحياة.