تعتبر العلوم السياسية في هذا العصر من اخطر المهام التي يهتم به الانسان حيث تتشكل المجتمعات وتتبلور سلوكيات الافراد وتنشأ القيم غالبا بناءً على ما يعكسه اولئك الساسة من قدوة حسنة او سيئة لتلك المجتمعات في السلوك والمنطق وما انتهجه الكثير من المصلحين تركوا الاثر الكبير في المجتمعات التي قاموا بقيادتها وكم من امم تعرضت إلى ما يشبه الدمار الكامل بنتيجة خطا واندفاع بعض الساسة وربما اقرب مثل على ذلك في عصرنا هذا هي ساسة دولتنا الوليدة كما يُقال . لم تعد الأجهزة الحكومية المختلفة بحاجة إلى الاعتراف بإخفاقاتها في العمل كمنظومة واحدة لتسيير أمور البلاد وإخراجها من حالة الفوضى التي تعيشها منذ ثلاث سنوات بعد أن برهنت مجريات الأحداث بأن هذه الأجهزة تتحكم بها الأهواء والأمزجة في ظل غياب الرؤية او غياب المشروع او غياب المنهج أو غياب البصيرة. كما لم يعد بوسع الحكومة والحزب الحاكم بكامل مصفوفتها تبرير فشلها المستمر في معالجة القضايا التي تهم المواطن عبر اتهام هذا الطرف أو ذاك ، وتحميله مسؤولية الإحباط الذي يسيطر على الغالبية العظمى من المواطنين البلاد، فضلا أن السلطة في البلاد لم تقدم حتى الآن أي مؤشر على أنها جادة في إعادة ترتيب البيت الجنوبي من الداخل وانها حريصة على التوجه نحو التغيير الحقيقي وبناء دولة جنوبسودانية حديثة أو على الأقل وضع اللبنات الكفيلة بالتحول التدريجي لذلك عن طريق الانتقال بمخرجات الحوار من الجانب النظري إلى واقع التطبيق بالرغم من أن قطاعا واسعا من الجنوبيون قد صدقوا بأن العالم صار يحسدهم على تلك المخرجات قبل أن يكتشف الكثير منهم أن الآخرين هم من يشعرون بالأسى لحال الجنوبيون لمجرد انتسابهم لبلد تتنازع عليه مليشيات تتحرك بحسب أهوائها ودوافعها الأيديولوجية و القبلية و الجهوية و مصالح الشخصيات التي تتحكم بها. لاشك بأن الحكومة الانتقالية المنتظر في جنوب السودان ستواجه الكثير من التحديات سيما ما يتعلق منها بالأمن وفوضى السلاح وانتشاره في الأطر غير النظامية, ناهيك عن الجماعات المسلحة التي صارت تشكل إحدى العقبات أمام قيام دولة النظام والقانون وكذا الهزات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتي زاد في تعقيدها التركيبة القبلية والجهوية للمجتمع وهي التي تعايشت في الماضي بعيدا عن نزعات التعصب الضيقة إلا أن هذه التركيبة هي من تتعرض اليوم لحالة من التفكك باستشراء النعرات القبلية والمناطقية وقيام البعض باستغلال هذه الحالة لأهداف سياسية ، مع أن التعددية والقبائل والثقافات ظلت في جنوب السودان منذ خلق لم يكن من اختيار احد ان يكون من( قبيلة فلان او قبيلة علان ) وهذه التركيبة هى تركيبة طبيعية يجمع ولا يفرق ولم تكن ذات يوم دافعا إلى العنف والاحتراب والصراع ، مثل هذا التحدي خصوصا كان يقتضي أن يواجه من السلطة الحاكمة بجدية عالية لكونه الذي يتصل بالحفاظ على وحدة المجتمع وتماسكه إلا أن عدم تقدير السلطة للمخاطر التي قد تنجم عن إذكاء النعرات القبلية والجهوية والمناطقية قد جعل من واقع جنوب السودان في الوقت الراهن أشبه بما يكون بعلبة ثقاب عندما يحترق عود منها تحترق العلبة برمتها وتتحول رماداً. قد يتساءل البعض عن سبب فشل الحكومة في التنمية بالرغم مما توفر لها من الدعم الإقليمي والدولي وشخصيا لا أجد سببا مباشرا لمثل هذا الفشل سوى وقوع الحكومة في نفس الخطأ الذي وقع فيه الكثير من الحكام السابقين قبل الانفصال ، حينما تصورت بأن المجتمع هو جزء من الدولة وليس الدولة جزء من المجتمع والفارق كبير بين الحالتين ، فاعتبار المجتمع جزءاً من الدولة يقود إلى تبعية المجتمع للدولة من حيث النهج والأسلوب بل هو المدخل إلى تكريس الإحساس بأن الدولة أكبر من المجتمع مع أن الحقيقة أن المجتمع هو من أوجد الدولة وليس العكس ولذلك فإن النظام الذي يحكم الآن هو مجرد الفراغ الفكري والتناحر السياسي والتفرق المناطقي والحقد الحزبي إلى درجة لم نر فيها حكومة متوافقة أو متآلفة على حب الوطن مع أن الكل يدعو وصلاً بالجنوب سودان وكأننا في جمهورية افلاطون أو ما شابه ذلك ولكن عندما نسمع ونشاهد ما يجري حولنا من عظائم الأمور نعي تماما واقع الحال الذي نعيشه . بالتأكيد ما يحدث اليوم على أرض الواقع كان متوقعا أن لم يأت في سياقه الطبيعي وهو نتيجة الأخطاء التي وقعت فيها الحزب الحاكم والتي تعاملت مع الكثير من الملفات الساخنة بأسلوب يوحي بأن ما تحمله هذه الملفات من أعباء يعود بالأساس إلى ضعف ثقافة المجتمع وليس عدم استيعاب السلطة لمهام المرحلة حتى أننا لم نعد نعرف إلى أين تتجه بنا هذه السلطة؟ والى أين تقودنا تلك الآلة الضخمة التي نسميها آلة الدولة من وزارات ومؤسسات وأجهزة امن وجيش بل كدنا جميعا لا نعلم أية أغراض تؤديها هذه الآلة وأية فلسفة حكم أو إدارة تعمل في ضوئها وأية استراتيجية تدير بها البلاد؟ ولنأخذ واحدة من المشكلات القائمة حاليا لتقول لنا الحكومة كيف ستحلها وماهي المدة الزمنية التي ستستغرقها لذلك فإذا ما كانت الحكومة الحالية غير قادرة على حل المشكلات القائمة فكيف بإمكانها التخطيط للمستقبل؟ وذلك هو السؤال الذي سيبقى دون إجابة الاثنان لا يختلفان على أن الصراع الدائر ألان في البلاد ، هو من اجل الوصول إلى السلطة هو الصراع الذي فرض نفسه على الواقع السياسي في إطار سياسة الأمر الواقع ، لان هناك بديهية لا تحتاج إلى إثبات وهي أن قوة السياسية الاخر غير حركتي الشعبي المعارضة والحكومة لا يمكن احتسابهم في أي حال من الأحوال لأنهم يعدون في الحقول الصمتية لكن واقع الحال هكذا تقرا الخارطة السياسية المخططة والمرسومة لهم لا غبار عليها . إن هذا الصراع الثاني فرز خارطة سياسية جديدة تنبئ بمرحلة جديدة تنطلق من واقع مؤلم ومؤسف يظهر فيها مدى إفلاس القيادات السياسية المتصارعة للسلطة ويظهر عن مدى حاجة البلاد إلى رجال دولة قادريين على ابتكار الحلول وطرح مبادرات تعطي صبغة وطنية خالصة وفي التوقيت المناسب .وفي ظل هذا العجز القائم بين السياسيين في المشهد الجنوبي ، لابد أن تبرز حالات غرائزية تؤكد بإمكانية حصول جولات من المصادمات الناتجة من الاحتقان الداخلي المكبوت بين مختلف أبناء المجتمع الجنوبي من جراء استخدام السياسيين بعض الأخطاء القاتلة ومنها إلحاق الغبن والتهميش لبعض الأطراف المشاركة في العملية السياسية وخاصة في مسالة تشكيل الحكومة وتوزيع المناصب السيادية والمقاعد الوزارية بين الكتل الكبيرة نفسه ، فمن الأجدر بهم أن يخلقوا نوعا من التوازن والعدالة في هذا التوزيع حسب الاستحقاقات القومية والتوافقية وإلغاء أسلوب المخاصصة الحزبية في طروحاتهم السياسية التي تشق الصف الوطني وتؤدي إلى التجزئة والانقسامات ومن ثم إلى الاقتتال الداخلي التي لا يمكن القضاء عليها بسهولة . أما المشكلة الرئيسية الكبيرة هي أن هناك وطنا مهددا بالضياع وشعبا مهددا بمذيد من التشرد وانهيار عزيمة ومعنويات الشعب من جراء عبث بعض الأطراف السياسية المتصارعة على السلطة بأرواح الشعب الجنوبي ،وارتهان معظمهم للخارج وتغلب الو لاءات القبلية والمناطقية على الولاء للوطن وعلى المصلحة الوطنية العليا ومصلحة الشعب .