في سفره المثير للجدل (حرب الرؤى (War of Visions كتب الدبلوماسي والباحث السوداني بروفيسور فرانسيس مدينق دينق: (من الأفضل أن يكون جدلنا حول ما يفرّقنا ، وليس حول ما نحن متفقون عليه!) كانت تلك المقولة من قبل أن نفقد ثلث مساحة السودان، ومن قبل أن نفقد كل أحلامنا بوطن وصفه شاعر الشعب – الراحل المقيم – محجوب شريف : وطن حدادي مدادي! ثم وقعت الواقعة لأن الكثيرين من صانعي الرأي من الساسة والمثقفين كانوا على امتداد ستة عقود ينظرون إلى الوجه المشع للقمر. وحين تقول بحق الآخر في أن يكون مساوياً لهم في الحقوق والواجبات يشبون في حلقك صارخين: من الذي قام بعزل مواطن واحد؟ ثم يتهمونك بالجهوية والعنصرية كمان!! ولو كنت ممن يرجف من صفير الريح سكت لهم وكتمت غيظك في صدرك! رأينا أمامنا منذ نعومة أظفارنا محرقة في الشق الجنوبي للوطن استمرت نصف قرن – كأطول حرب أهلية في العالم- مع هدنة عشر سنوات فقط (اتفاقية أديس أبابا 1972-1982). حرب أبادت قرى بسكانها ومواشيها وعطلت عجلة التنمية – ليس في الجنوب وحده – بل في الوطن بأكمله. جيش شب على عقيدة قتل مواطنيه دون أن نسمع أنه أطلق رصاصة واحدة ضد أجنبي. بل وصلت تلك الحرب أشدّها عند أخطر منعرج للحياة السياسية في بلادنا – بمجيء نظام الترابي – البشير واستنساخ صورة أخرى للحرب الأهلية في الجنوب يخلع عليها ثوب القداسة بعد أن بلغ الهوس الديني ذروته في وطن تعايش أهله على المستوى الاجتماعي رغم اختلاف الكثيرين في المعتقد الديني! ودفن مثقفاتية وساسة الحيرة السودانيين رؤوسهم في أكتافهم ، فحرب الهوس الديني في الجنوب بعيدة جداً عن الخرطوم – حيث تتمترس النخبة التي أتقنت فن لعبة كراسي الحكم. وما قاله ذاك الدينكاوي الأسمر (قرنق دي مابيور) من أنه ينبغي أن نحرر أنفسنا من ثقافة لا تؤسس لوطن يجمعنا – ما قال جون قرنق حول تحرير السودان كان في نظرهم مجرد هذيان ! كثيرون هم أحياء اليوم بين الساسة والمثقفين سمعناهم يرددون دون خجل: دا عايز يحررنا من شنو تاني؟ هو ما عارف نحن أخدنا استقلالنا من سنة 56 ؟ وقرنق ما فتئ يقول في كل سانحة : دعونا نحرر أنفسنا من ثقافة لا تؤسس لدولة مدنية واحدة! ما الجديد في تفشي العنصرية بين السودانيين منذ قام هذا البلد بحدوده المتعارف عليها حتى يومنا هذا؟ بل أكاد أجزم أنّ الرق في مفهومه العام عند الكثيرين في هذا البلد استبدلت آليات ممارسته فقط بأساليب أخرى جديدة ! الرق ما زال طافحاً، ورائحته المنتنة تزكم الأنوف في تصرفات الكثيرين وبخاصة النخبة المتعلمة ، تقود لعبة الرق دولة الإسلامويين المسماة جزافاً بالإنقاذ وهي التي حفرت لمصير هذا البلد وما تزال تحفر له حفرة ستكون قبراً لها ولمفاهيمها الفاشية بإذن الله ! الرق واقع مرير في تاريخ هذا البلد يا سادة. في غمرة سعي السودانيين لنيل استقلالهم من بريطانيا وقد ارتفعت أصوات الأحرار إبان وبعد الحربين العظميين في العالم كله بالقضاء على منظومة الرق كتب زعماء الطوائف الدينية الثلاث في السودان : علي الميرغني والشريف الهندي وعبد الرحمن المهدي عريضة للحاكم العام يطالبون فيها بريطانيا بعدولها عن فكرة إعطاء الأرقاء من بني بجدتهم حقهم في أن يكونوا بشراً أحراراً. وساقوا ذرائع وأسباب لا تقنع طفلاً ناهيك أن تقنع ممثل الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس والتي كان برلمانها آنذاك يكتظ بالمنادين بمحاربة الرق في العالم كله! ثقافة نفي الآخر والنظر إليه كبشر "دون" ، ثقافة متمكنة من الطبع السوداني.. ورثها المجتمع الحديث عبر عقود بل عبر قرون. وإن شئت فإنّ ثقافة الاستعلاء العرقي عند منظومة الدولة العربو- اسلامية في السودان هي الجنين الشرعي لاتفاقية بقط عبد الله بن ابي السرح مرورا بالسلطنة الزرقاء – حيث تباهي أحد شيوخ المتصوفة بأنه محسود لما لديه من كميات هائلة من الجواري والعبيد- وانتهاء بالتركية السابقة والمهدية وما بعدها بعقود طويلة! ليس غريباً أن يكرس نظام فاشي منذ إحكام قبضته على السلطة تحت فوهة البندقية قبل ربع قرن– أن يكرس جل همه ويصرف ثلاثة أرباع ميزانية الدولة في حرب ضروس على مواقع جغرافية بعينها ، حرب فصلت الجنوب وفي طريقها لتفتيت ما تبقى من الوطن! ذلك لأنّ عقلية النخبة الحاكمة – ومن قبلها نخب أخرى من ذات المركز- لا ترى أبعد من أرنبة أنفها.. ثقافة : ما عايز واحد حي ! ثقافة اكسح ، اقتل ، أمسح !! هذه ثقافة تحميها دولة تجد مناصرين من متعلمين ومثقفين .. بالنسبة لهم فإن حرب الإبادة في دار فور وفي جنوب كردفان وفي جنوب النيل الأزرق وفي شرق السودان – إنما هي حرب ضد متمردين وفي مكان بعيد .. فالبلد بخير وهم بخير ما دام الخرطوم (بحلالاته الثلاث) بخير وما دامت فضائياته بخير ، تستضيف في كل عيد الساسة والمثقفين والمغنين والشعراء ليقول بعضهم كل شيء عدا أن يقول أن هناك حرب إبادة عنصرية ربما انتهت بحرق (الحلالات الثلاث)!! ليس غريباً أن يقول الشاعر إسحق الحلنقي ما قاله في برنامج تلفزيوني– وهو إنما يسئ بذلك لهويته لو كان يدري – حين يضرب ذلك المثل الموغل في عنصريته مسيئا من خلاله لإخوتنا أبناء جنوب السودان! وليس غريباً أن تحاصر قوات أمن الدولة الفاشية حرم فتيات جامعيات وتعتدي عليهن بالضرب والشتائم البذيئة لأنهن من دار فور التي أضحت بالنسبة للنظام العنصري في الخرطوم (شوكة حوت لا تتبلع لا تفوت)! وليس غريباً أن يجلب نظام الخرطوم العنصري كل من هب ودبّ من أرزقية دول الجوار ويدفع لهم من مال دافع الضرائب السوداني بهدف أن يخمد ثورة يطالب أهلها بأهم ما يميز الإنسان في هذا الكوكب مع أخيه الإنسان: مساواته مع الآخر في الحقوق والواجبات ! نردد قبل فوات الأوان ما قاله بروفيسور فرنسيس مدينق دينق: (من الأفضل أن يكون جدلنا حول ما يفرّقنا ، وليس حول ما نحن متفقون عليه) !!