(الحياة) إنتقال السودان ديموقراطياً:من الممكن اليوم الى المأمول غداً عبد العزيز حسين الصاوي باستثناء تلك التي تتحفز تحت السطح ،فأن الاسوأ نسبيا من بين المصائر العربية الكارثية هو السوري لان انفجار المكبوتات العديدة التي صنعته مصحوب ببقاء سلطة الاستبداد الكابتة متحجرة في مواقفها ومستعدة للدفاع عنها بلا حدود. السوداني الذي يوشك علي اختراق قشرة التماسك الرقيقة هو من هذاالنوع السوري، فليس اقل من محاولة، مهما كان حظها من النجاح، لتفادي هذا المصير. الوعي السوداني عموما، حتي الفكري والاكاديمي منه، يرجع الازمة الى الحلقة المفرغة بين الحكومات المدنية والعسكرية، فالاخيرة لم تُبق للاولي إلا حوالي 10سنوات من عمر سنوات الاستقلال الست والخمسون . بيد ان ذلك قابل لجدل تصحيحي هام. الطول المتزايد زمنيا للعهود الانقلابيه الثلاثة، 6 و16 ،ثم الحالي25 عاما ممتدة بغير نهاية منظورة ،مقرونا بتزايد درجة الشمولية فيها، جعل الانقطاعات المدنية متناقصة ليس كَماً فقط وإنما نوعا أيضا إذ غدت أكثر تأهيلا باطراد كمجرد تمهيد للانقلاب التالي.لاحلقة مفرغة او غير مفرغة هنا بل خط افقي مع بعض تعرجات خفيفة لاتنفي عنه هذه الصفه.وهذا طبيعي لان عمود ارتكاز الديموقراطيه، مجموع الفئات الاجتماعية الحديثة الموسومة بالانفلات النسبي من قيود التفكير والتصرف الهوياتي الديني والقومي والقبلي، تصدع تحت الضغط الباهظ والمديد لانظمة البعد الواحد الشمولي المتتابعة. معني ذلك ان هذ ه النوعية من الانظمة ليست نبتا شيطانيا مخالفا لمنطق التطور بل وجود لماهية سابقة عليها تتجسد في مجتمع مدني ضعيف الفعالية، احزاب مهيكلة لاديموقراطيا إما ايديولوجيا أوطائفيا،وطبقة وسطي ماكادت تخرج من قبضة الدولة حتي وقعت في قبضة حزب الدوله. هكذا اكتملت مقومات عجز المجتمع عن انتاج قوي دفع ديموقراطي بحيث تمكنت قبضة آخر واكثر الانظمة شمولية علي سلطة الدولة لكونه التجسيد الاكمل لحقيقة غياب تلك القوي. والوجه الاخر لهذه الحقيقة هو توزع المعارضة بين عمل مسلح في اطراف البلاد، بعد انفصال الجنوب، واخر سلمي مع هبات شبابية متقطعة في الحضريات المتزايدة الترييف.القاسم المشترك الجامع بين كافة المعارضات، علي اختلافاتها، افتقار رصيدها الفكري، ومن ثم خططها، لتصور يجمع بين كيفية تبديل النظام الراهن مع تفادي الانفصالات والحرب الاهلية المحدقة بالبلاد، وفي الوقت نفسه الاعداد لبناء الديموقراطية الراسخة والمستدامة. لقد اثبتت نماذج الربيع العربي خطورة عملية الانتقال غير التدرجي من انظمة النسق القابض في ظروف ضعف الوعي الديموقراطي العام ومأسسته حزبيا. في النموذج المصري انتهي الامر الى انقلاب، لافرق إن كان بغطاء شعبي عفوي أو مصطنع، بينما كانت الفوضي العارمة ناتج عدم التدرج في نماذج ليبيا والعراق كل لاسبابه الاضافية الخاصة. التدرج اليمني يمر باختبار صعب بينما نجت تونس من هذه المصائر، حتي الان علي الاقل، لان تجربتها اتسعت لابقاء الهيكل العسكري والامني القديم دون تغييرات كبيرة، ولوجود سياسي علني للنظام السابق ( حزب النداء). في ورقة غير منشوره بعنوان " إسقاط النظام: الاوضاع الاستثنائية تتطلب معالجات استثنائيه "لايتسع لها هذا الحيز، عرض صاحب هذا المقال تصوراً لمخرج مشتق من التحليل المشروح باختصار سابقا لاصل ازمة الديموقراطية السودانية ومترتباتها، علي مجموعة من المثقفين السودانيين. شخصية مخضرمة اكاديميا وسياسيا لخصت الورقة في خطوطه عريضة علي النحو التالي :"أجد نفسي متفقا معك في اهمية الانتقال التدريجي نحوالديموقراطية بمرحلة تمهيدية واخري انتقاليه قبل ان نستقر علي ديموقراطية مقبوله، وفي تقديم حافز للنظام ليقبل بهذاالتدرج، وفي التعاون مع كل اصحاب المصلحة في المجتمع الاقليمي والدولي لدعم هذه الاستراتيجية، وفي دور مقدر للصادق المهدي في هذا المشروع ". علي السؤال البديهي الذي يثيره هذا التصور، حول ما يدفع النظام للتنازل بينما التوازن السياسي الداخلي محسوم لصالحه، كما يعترف المقال نفسه، يجيب التصوربالترابط المضمن فيه بين الحافز والتعاون الاقليمي والدولي. بين احتفاظ النظام بقدر من السلطة خلال العملية الانتقالية،متفاوت بين مرحلتيها، والمصلحة الاكيدة لداعميه الاقتصاديين، الصين والخليج بالذات، في استقرار الاوضاع نتيجة صفقة تيسرها تنازلات وضغوط بين النظام والمعارضه ستكون ايضا، دون شك، موضع ترحيب ورعاية وضمان عربيا وافريقيا ودوليا. كذلك الامر بالنسبة للتساؤلات حول دور الصادق المهدي لكونه اكثر السياسيين السودانيين إثارة للجدل. فالمطروح وفق التصور المعني لايشترط الاتفاق علي تقييم لسجل المهدي السياسي عموما ولكن حصراً من زاوية متطلبات أحكام الضرورة التي تحتم التركيز علي تأهيله النسبي لمقابلتها بالمقارنة للاخرين. خارجيا هو صاحب وزن اقليمي ودولي وشرعية انتخابية وداخليا الاقدر علي نيل تفويض لتوحيد صوت المعارضة، أو معظمها، الذي لابد منه لنجاح العملية فيما يتصل بالعلاقات مع الخارج او في الداخل. فهوالاقرب للطرفين الحكومي والمعارض في نفس الوقت علي صعيدي الفكر والسياسه: اقرب التقليديين للحداثة وأقرب الحداثيين للتقليديين، وهومعارض دون قطع تام للصلة مع السلطة.والتفويض، بعد ذلك، ليس مطلقا لأن من الممكن إعداد وثيقة جامعة من قبل كافة اطراف المعارضة تحدد الاهداف التمهيدية المطلوب تحقيقها ، لعل اهمها نِسب وكيفية تقاسم السلطة مع النظام واوضاع مؤسسات الدولة الامنية والعسكرية خلال المرحلة التمهيدية، يتحرك الصادق المهدي في إطارها ويتشاور مع بقية اطراف المعارضة وفق توقيتات محددة. التنازلات التي يقوم عليها هذا التخطيط المعمم لاستراتيجية معارضة تنطلق من اعتبارات الواقع الصخري الحضيضية ، لن تكون سابقة سودانية بل انها تكاد تكون قانونا من قوانين الانتقال الى الديموقراطية. في اسبانيا تضمنت عملية الانتقال احتفاظ دكتاتورية الجنرال فرانكو البشعة بمكاسب رئيسية منها إعادة الملكية واحتفاظ حزبه الفاشستي صراحة بحق العمل،وحديثا انطوت انتقالات اوروبا الشرقية الى الديموقراطية علي بقاء الشيوعيين جزء من صورة السلطة او المعارضة حتي الان، بينما تحكمت في سياسات " الجيش الجمهوري الايرلندي " عند توقيع اتفاقية السلام مقولة زعيمها جيري ادامز " نغفر ولكننا لاننسي " .. كذلك الامر في انتقالات امريكا اللاتينية واشهرها ماحدث في شيلي حيث بقي الجنرال بينوشيه قائد الانقلاب وحملة القتل الجماعي بعد ذلك، وزيرا للدفاع لعشرة اعوام بينما ابتدعت في جنوب افريقيا صيغة العدالة والانصاف التي سمحت بافلات كثيرين من العقاب.