كانت ثقافات النوبة القديمة الغنية والتي تقع جنوب مصر الحالية وشمال السودان، هي موضوع معرض معهد دراسات العالم القديم (ISAW) بجامعة نيويورك والذي افتتح أمس الجمعة 11 مارس ويستمر حتى يونيو القادم. ويفتتح المعرض تحت عنوان “النوبة: الممالك القديمة في أفريقيا” وهو معرض يتعرض لبروز القوة النوبية وسقوطها ثم إعادة ظهورها على مدى قرون منذ ثلاثة ألف سنة قبل الميلاد، حيث استولت النوبة على مصر في بداية العام 750 ق.م. ويحتوي المعرض على أكثر من 120 قطعة منها تماثيل تصور ملوك النوبة، والأسلحة الحربية ، والمجوهرات والفخار ، وغير ذلك، ويلقي المعرض الضوء على ثقافة النوبة القديمة ، خصوصا العلاقة المعقدة مع مصر، ويكشف عن تقاليد النوبة الجمالية الرائعة والمميزة. وقد نظم معرض “الممالك القديمة في أفريقيا” من قبل متحف الفنون الجميلة في بوسطن، وقد خطط له وجنيفر تشي، المدير المساعد لتنظيم المعارض والبرامج العامة في معهد دراسات العالم القديم، وجيف امبرلنق هو منظم مستقل، وعالم وآثاري. وقد جاءت المادة المعروضة بإعارة من متحف الفنون الجميلة في بوسطن بالإضافة إلى مواد أعيرت من متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك. يقول الدكتور تشي: “لا يمكن فهم النوبة القديمة بمعزل عن جيرانها ، لا سيما مصر ، والتي كانت تتناوب بين كونها شريكا تجاريا للنوبة أو عدوها الشرس. وحقيقة فإن فهمنا للنوبة شكله منذ زمن طويل النصوص المصرية القديمة والأعمال الفنية التي صورت النوبيين كأعداء نمطيين، وذلك باستخدام مصطلحات مثل ‘كوش الخسيسة' ونتمنى ان المواد المعروضة في المعرض ، والتي تحكي قصة النوبة وفقا لروايتها الخاصة، سوف تنير زواره حول هذه الثقافات التي لم تفهم ثرواتها تماما بعد. ونحن ممتنون لجيف امبرلنق المد بعلمه وخبرته في هذا المعرض “. النوبة القديمة تشمل النوبة مجموعة متنوعة من السكان التي تعيش على امتداد 500 كيلومتر على ضفاف وادي النيل. وبينما كانت الممالك النوبية الأقدم تقع شمال المنطقة قد تطورت في حوالي 3000 ق.م فقد كانت قصيرة العمر بسبب الغارات التي يشنها الجيش المصري. وإلى الجنوب منها نشأت تقاليد ثقافية مختلفة كانت أكثر غنى وقوة وأطول أمدا وقد بدأت تزدهر حوالي عام 3000 ق. وأطلق المصريون على هذه المملكة اسم “كوش” ، وخلال الأعوام التي حتى تلت عام 2000 قبل الميلاد أقاموا سلسلة من القلاع على طول نهر النيل في محاولة للسيطرة على التجارة وحماية أنفسهم ضد قوة الكوشيين العسكرية الهائلة. (وفي الواقع ، فإن ملوك كوش شكلوا تحالفات مع الحكام البعيدين في كثير من الأحيان وحوالي 1600 قبل الميلاد احتلوا تقريبا العاصمة المصرية في طيبة). في 1550 قبل الميلاد تقريبا ، نجحت مصر في إخضاع جزء كبير من النوبة ، ومنذها والتواريخ بين المملكتين صارت تتشابك بصورة متزايدة، وصارت مصر تعمل على استيعاب النوبيين في الامبراطورية المصرية، على الرغم من اعتبار النوبة منذ فترة طويلة كعدو. وحافظت مصر على سيطرتها على الأراضي النوبية حتى حوالي 1100 قبل الميلاد ، عندما انهارت إمبراطوريتها في النوبة مما أدى الى عصر الظلام في المنطقة استمرت حتى الإحياء النوبي في حوالي 900 ق.م حينما اعتمدت سلالة نوبية جديدة مقرها في نبتة، هذه السلالة الجديدة اتخذت ممارساتها الدينية والسياسية الهامة من مصر التي سرعانما ما أخضعتها وحكمتها تحت مسمى الأسرة الخامسة والعشرين في الفترة ما بين 750 إلى حوالي 650 ق.م حيث سيطر بعد ذلك الآشوريين على مصر. المعرض القطع الآثارية المعروضة في معرض”النوبة : الممالك الأفريقية القديمة” تقدم رؤى عميقة حول الثقافات النوبية والتاريخ، وتوضح ممارسات أمثال الإنتاج الحرفي ، ومراسم الدفن ، والعبادة ، والحرب ، والكشف عن طرق التأثير على النوبة عن طريق الاتصال المستمر مع مصر والمجتمعات الأخرى ، بما في ذلك المناطق التي تقع إلى جنوبها. ويبدأ المعرض في المعرض الأول من بين معرضي معهد دراسات العالم القديم ISAW الاثنين، ويركز على صناعة الفخار والخزف وهما من الأشياء التي برعت فيها النوبة. الأواني الأولى يرجع تاريخها إلى حوالي 3000 قبل الميلاد، وتظهر التطور المذهل في حرفة صناعة الاواني الخزفية اليدوية. وفي وقت لاحق نجد مثالا على ذلك التطور وعاء مع زخرفة حلزونية، وجرة في شكل فرس النهر، ورجع تاريخها جميعا الى الفترة 1700-1550 ق.م وفي حين أن هذه الآثار تأتي من العاصمة الكوشية كرمة ، فقد تم العثور على أواني مماثلة على امتداد فترة طويلة من نهر النيل، مما يشير إلى التوسع في قوة كوش، وكذلك المزيد من العلاقات التجارية واسعة النطاق. وهناك أمثلة عديدة في نفس الفترة للتصوير النوبي المقتبس من الحرفيين المصريين بنحو 1700 قبل الميلاد. ويشمل ذلك الرسم الجانبي لرأس النوبي، والجداريات الضخمة في شكل صورة أسد. القطع المعروضة في المعرض الثاني ، أكثر تعبيرا وأوضح لعلاقة النوبة التي تزداد تعقيدا مع مصر، وتسلط الضوء على الانتقائية والتعديل في اقتباس الرموز (الأيقونات) المصرية الملكية، وتقنيات الحرف المتطورة، والممارسات الجنائزية. مثال لذلك فإن تمثال الحجر للملك النوبي سنكامانسيكن Senkamanisken (حوالي 643-623 قبل الميلاد)، محفور في نمط مصري مهجور، ولكنه يصور الملك مرتديا تاج (طاقية) رأس الكبش التي تميز النوبة. وفي مثال آخر لإدماج الممارسات المصرية في الثقافة النوبية ، قيام ملوك النوبة في أوقات لاحقة ببناء الأهرامات لدفن الموتى، بدلا من القبب التي كانت تغطي عادة حجرات الدفن الخاصة بهم. ويتضمن المعرض بعض الأواني الثمينة المصنوعة من الذهب والفضة التي تم الحفاظ عليها في أعقاب انهيار واحدة من غرف هرم الملك النوبي أسبالتا، وأعمال فنية قديمة معقدة بما فيها قلادة رائعة من الذهب والكريستال الصخري تصور الإلهة المصرية حتحور، عثر عليها في مقابر هرم بعض ملكات النوبة. وكانت الممالك النوبية كوش ونبتة ومروي ثم المقرة وعلوة ونوباطيا قد تعاقبت على منطقة شمال السودان وجنوبي مصر منذ زمان بعيد قبل الميلاد وحتى بعد دخول الفتح الإسلامي مصر في القرن السابع الميلادي، وظلت ممالك النوبة المسيحية تحكم شمال السودان قرونا بعدها. وكانت بعثة آثارية أعلنت مؤخرا عن اكتشاف آثار قديمة جدا في منطقة شمال كردفان. وقالت إنها تبحث عن علاقة تلك الآثار بالنوبة. الجدير بالذكر أن الالتفات لتراث النوبة جاء مؤخرا جدا في النصف الثاني من القرن العشرين، وشارك فيه عدد من علماء الآثار الأوربيين، ولكن لا زالت آثار النوبة وغيرها من مناطق السودان تحتاج لمزيد من البحث والتنقيب. وتعتبر الكنوز الآثارية المنهوبة من السودان وغيره من البلدان جزء من الإرث الحضاري واجب الاسترداد، ومن ضمن مظالم عالم الجنوب المستغل إزاء السطو الحضاري الذي جرى على أممنا إبان فترات الاحتلال الأوربي في القرنين التاسع عشر والعشرين.