في 19 يناير الجاري عصراً فاضت إلى بارئها روح حبيبتنا المهندسة تماضر محمد بشير نصر الملك، بعد معاناة صامتة وطويلة مع المرض، بعيدة عن أحبابها الذين فضلت أن تدهمهم الفاجعة هكذا، فتتخطفهم الحسرات في بقاع الأرض الأربعة، رحمك الله يا تماضر وأنزلك الفردوس الأعلى، كنت أنقانا، وأقدرنا على الوصال، والكمال، وهكذا جعلتِ حتى من مناسبة رحيلك مناسبة للم الشمل وللتحسر! تماضر قصة تحكي وجعاً يلتف فيه الخاص بالعام. قصة بنت نابهة بين ثلاث بنات للسيد محمد بشير سليل ملك البديرية الدهمشية بمنطقة أمبكول في الشمالية، وزوجه السيدة آسيا علي محمد دهب (جدها لأبيها دهب كان عمدة حي السجانة بالخرطوم)، وجدها لأمها شيخ شريف صاحب القبب وجد الإمام المهدي بدنقلا (أبو العشرة وجد المية). للغرابة، لم أعلم أن بيني وبين تماضر رابطة دم إلا بعد أن رحلت! توفي والدها وبناته صغار فكدحت والدتهن لتربيتهن وأوقفت حياتها عليهن وكن آية في الاستقامة والفلاح، تلقت تماضر تعليمها الثانوي بمدرسة الخرطوم الجديدة بنات، والجامعي بكلية الهندسة قسم الهندسة الكهربائية جامعة الخرطوم. دخلت تماضر الجامعة، في أكتوبر 1985م، أي بعد ستة أشهر من تفجر الانتفاضة المباركة، كانت دفعة مميزة، أرّخ لها بشيء من الفخر والاعتزاز الزميل الوليد قسم الباري (وليد القرود) وقد صك له اسما مستعارا (خليل على) إسفيريا بسودانيز أون لاين، والفيسبوك. ولعل أهم (بوست) كتب عن تلك الأيام هو ما كتبه (خليل) تحت عنوان (اليوم الحار ما بندار يوم الهندسة والمعمار) وشارك معه الزملاء عبد الكريم الأمين ومحمد الصايم وغيرهما، ولعل وليداً لم يرد سوى أن يبدأ بشوفينية المهندسين يوم استطاعوا هزيمة التحكيم المنحاز للطب في مباراة جمعتنا بتلك الكلية التي بيننا وبينها ما صنع الحداد، إذ انتهت المباراة بإخراج شوفينية كليتنا إزاء الكليات طراً، فبعد أن بدأنا بسب الطب، وقولنا (بنسوي شغب) انتهينا بما ذكر: (وهتفنا ضد كل الجامعة)..(وفي الختام الجامعة هندسة او لا جامعة). ولكن ذلك البوست الذي ابتدأ بالشوفينية، عرج على مذاقات شتى فكان كأنه مرآة للأيام التي عاشتها تلك الدفعة التي عكست صفحة حياة السودان سني (الإنقاذ) الأولى، إذ شيئا فشيئا تمت تصفية الحياة الحرة، الحياة السمحة في الجامعة.. وتخرجنا بصعوبة وبعض تأخير نحن الذين فلتنا من سنتي الشَرَك (سنة ثانية وسنة رابعة) وهما سنتان معروفتان بكثرة إعادة الطلاب فيهما، أما الذين أمسكت بهم الكماشة مثل خليل وتماضر بل أكثر من نصف الدفعة أمسكت به تلك الكماشة، فشهدوا عجباً سطرته كلمات خليل، أيام مقاطعة الامتحانات. ثم كانت تصفية السكن والإعاشة أو الخطوات الأولى في ذلك، وتذاكر الوجبات التي تصرف للطلبة. وطبعاً، بعد ذلك مما لم يشهدوه حتى هم (ثورة التعليم العالي) والتضخم السرطاني في أعداد الطلاب الذي لا يقابله أي توسع في المباني، أو الأساتذة، أو الميزانية: تطعيم البحر بملعقة سكر على قول الإمام! الشاهد، في السنة الأولى الإعدادية بكلية العلوم والتي جمعتنا في قاعة المحاضرات القديمة (Old Lecture Theatre OLT) من كل قبائل الهندسة مع طلبة العلوم فيزياء ومدرسة العلوم الرياضية، وقبل أن نلج كلية الهندسة بالسنة الثانية كانت علاقتنا قد توثقت: من الهندسة: تماضر، هناء، حنان، وشخصي من الكهربية، وأهيلة من الكيميائية، وأريج زراعية، وإشراقة مدنية، ومن العلوم: وفاء، لمياء، وأماني. وحينما ذهبنا للهندسة في السنة الثانية توطدت العلاقة وصرنا نتحرك كجسم واحد، نسكن بغرفة واحدة في الداخلية، وحتى في الإجازات، قضينا الإجازة في منزل إشراقة الطريفي وقد كان والدها عمنا الطريفي عوض الكريم حمد النيل رحمه الله مفتشا لمركز تفتيش عبد الحكم بمشروع الجزيرة أيام كان هناك مشروع. وحينما كانت رحلة الهندسة للقاهرة في إجازة السنة الثالثة (1988م) رفضنا أن نفعل كما البنات في العادة فذهبنا بالقطار برغم ما قالوا لنا عن أهوال الطريق فكنا الدفعة الأولى التي تذهب بناتها بصحبة الأولاد عبر رحلة (الأهوال)، التي كانت في الحقيقة رحلة أمتع من الخيال! وكانت تماضر بابتسامتها دائماً حاضرة! حينما كنت عضوة بالمنبر الحر بسودانيز أون لاين، داخلت ذلك البوست الضخم فحاصرني خليل بموقف (بناتنا) من (أولادهم).. والحقيقة، كانت لعصبتنا مواقف متشددة من (شديهة) البعض بالاختلاط، واستعجالهم للوقوع في شباك العاطفة، وكنا قد تحصنا بعصبتنا حتى قر في صدر بعض زملائنا أننا أبعدنا عنهم صيداً محتملاً فأوغرهم ذلك، وفي ظل ذلك التشدد، ظلت تماضر تحتفظ بعلاقات موزونة مع الجميع، أدركنا بعدها بعقد أو اثنين أنه ليس بالضرورة لئلا تقع في شباك الصبابة أن تتعنت في العلاقة بالآخر، كان يمكن أن تكون كتماضر، سمحة الخلق والأخلاق، حميدة، صديقة، وأخت، بكيناها كلنا أولاد الدفعة وبناتها بنفس الحرارة.. مزقت تماضر حجاب النوع بكل بساطة ونضج، وفي وقت باكر، لم تذهب وراء هوشتنا، ومجلتنا الحائطية التي أسميناها (ك. ش)، وكانت كبيضة الديك! يا لخجلي، بعضنا ظن المحبة إثماً! تماضر كانت أكثر سماحة، وأقل اشتطاطاً، وأقدر على الوصال مع الجميع، فأسدلت على زملائها عاطفة وصفوها الآن وهم يبكونها بالأمومة فهذا ما ذكره الأخ نادر كوبر، وما قاله الأخ صديق عبد الرحمن. تسربت تماضر فجأة من بين أيدينا، فيا حسرة! بعد التخرج انقطعت تماضر لحياتها المهنية وحدها، كانت تود أن تعوض والدتها شقى السنين وكدحها في تنشئتهم، عملت مباشرة بعد تخرجها عام 1992م في سودانير، وكانت من أوائل المهندسين إن لم تكن أولهم على الإطلاق التي تحصلت على رخصة الملاحة الجوية في هندسة اتصالات الطيارات، ولكن، طالتها يد الخصخصة اللعينة.. في 2004م حصلت على ماجستير إدارة الأعمال بالقاهرة، وعملت كمديرة مشروعات بهجليج لشهر واحد ولكنها أنهت التعاقد من جانبها للتعامل غير المنصف الذي لاقته بحسب ما روت لنا شقيقتها رحاب، وبعدها عملت مديرة مشروعات بشركة كيلا للمقاولات والإنشاءات وظلت بها حتى لاقت ربها راضية مرضية، وإن كان المرض قد أقعدها في عامها الأخير ولكنها ظلت تحاول وتنوي العودة للعمل. شقيقتاها تقولان إنها منذ أن توفيت والدتهما رحمها الله لم تذق العافية، فلعل برها بوالدتها هو الهدف الذي كانت معلقة به في هذه الدنيا.. وكل من اتصل بها من زملائنا كانت توحي إليه أنها في حالة جيدة وأنها سوف تستأنف العمل.. يكذب من يقول إنه سمع من تماضر سوءاً أو فحشاً.. إنا نشهد أنها كانت حسنة الأخلاق، محمودة الصفات، سمحة، طيبة، تنفح طيبها للجميع.. ابتعدت عنا وبعد أن رحلت عضننا أصابع الندم والحسرة، فقد رسمت لنفسها خطة معينة فهل كنا نقدر أن نخفف من حمل قلبها وحزنها الكبير؟ لو تفتح عمل الشيطان! يا حسرة على تماضر! الآن وبعد ان ذهبت وهبتنا عظات كثيرة، وجمعتنا بعد تفرق، وصار أبناء وبنات دفعتنا يتجمعون من أصقاع الدنيا الأربعة، يبحثون كيف يجعلون عملها متصلاً في صدقات جارية وعلوم نافعة. والشكر للأخ صديق عبد الرحمن (أبو اللكس) على مجهوده بجمعنا وبحث الممكن وقوله يخاطبها: (جزاها الله وقد حشدت عزيز الصحب أخوانا/ فقد ألفتهم بل جمعتهم قبل الفوت أزماناً)، وبالفعل، جمعتنا بوفاتها بعد انقطاع.. وقد عبّر عنا جميعا الأخ إبراهيم أبو سمرة إذ وصف جانبا من رحلة الدفعة للقاهرة بالقطار في رثائه لتماضر: يا شعلة كانت تضيء لنا الطريق يا نسمة نرتاح في أطرافها نرنو بعينك نستفيق يا دفعتي.. كم من ميادين حوت أحلامنا.. وتسربلت وعداً .. وواعدنا خيال لا زلت أذكرنا ونحن صديقتي نغفو على صوت القطار الانتظار وصوت أحباب لنا يتمازحون أسوان والحبان والفرح الجميل.. … كل الأمور تماضر/ كل الحلول تماضر/ كل البيان/ يا هندسة! اللهم يمّن كتابها، ويسّر حسابها، وأثقل يوم الحشر ميزانها، وأحسن عزاء أحبابها رحاب وسعدية وخالاتها وخيلانها وأعمامها وعماتها وكل أولاد وبنات دفعة هندسة 1985م، خاصة بنات كاف شين، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وليبق ما بيننا