لا أحد ينكر أو يشكك في مجاهدات أهلي الأنصار ضد الظلم والقهر والتسلط.. في أعقاب أحداث ود نوباوي الشهيرة في عام 1970 زجت السلطات الانقلابية القائمة- آنذاك- بهم في المعتقلات.. ذات يوم هرع قائد الانقلاب إلى سجن كوبر في زيارة مفاجئة.. أثناء مروره سأل مرافقيه من سلطات السجن قائلا: "ليه خاتين عمنا عوض صالح مع الماركسيين؟".. انتهره عمنا عوض صالحا مخاطباً إياه- بلهحة حادة: "الماركسيون ديل أحسن منك"،.. وعدد له الأسباب التي دفعتها لإقرار ما صرح به.. وعمنا عوض صالح كان واحداً من أميز الفرسان وسط أنصار الإمام.. أعجب موقفه صهري اليساري الهوى القادم من القرير، مركز مروي الذي آثر الهجرة والغربة على المذلة والمهانة في وطنه.. أفصح عن رغبته في العيش في ود نوباوي التي تعج بالفرسان أمثال عمنا عوض صالح بعد عودته.. أمر آخر يثير إعجابه في ود نوباوي.. "الحوش الما عنده باب".. وتلك حكاية أخرى من حكايات الأمراء.. ولمن لا يعلم "الحوش الما عنده باب" هو "حوش ناس نقد الله" مصنع المناضلين.. حدثني أحد الرفاق.. الذين تسربوا من بين أيادي أهلهم وأهلهم غافلون رغما عن الإمام في راتبه لم يكثر من شيء أكثر من خوفه من الغفلة.. أنه استعصى عليه في مدرسة الكادر فهم نظرية فائض القيمة.. ولم يتسن له فهمها واستيعابها إلا بعد أن شرحها له ولثلة من رفاقه الأمير نقد الله "الكبير".. كان يجمعهم في "الحوش" يحاورهم ويعلمهم ويفسر لهم ما يستعصي على فهمهم.. وشهادة الفارس والأمير عندنا شهادة عدول.. لا شك لدينا في أنهم أناس طيبون.. مثلهم مثل بقية أهل السودان يمشون في الأسواق، ويتزوجون النساء.. زوجة واحدة تكفيهم.. يسعون مثلما نسعى ويسعى الآخرون إلى خير الوطن وإن اختلف الكثيرون معهم في النهج الذي يسلكونه.. عندما أتيح لهم تسنم السلطة لم يفسدوا أو يختلسوا مالا عاما.. لم يعيشوا في ترف كبضع منا.. اكتفوا من النعم بما تيسر.. وكان لنا أن أن نخرج إلى الدنيا في ود مدني حاضرة ولاية الجزيرة في منتصف القرن الماضي والمستعمر يستعد لمغادرة الأرض الطاهرة.. أنفقنا أكثر من الثلث الأول من حياتنا في بركات حيث رئاسة مشروع الجزيرة.. شهدنا ملاحم أهل الجزيرة الذين قضينا بينهم أجمل سنين حياتنا وكنا شهود عصر.. تركت لهم الشركة الزراعية خمسمائة ألف فدان.. نجحوا في زيادتها إلى مليون ومائتي ألف فدان.. دون كهرباء أو ماء جار أو صرف صحي أو طرق معبدة أو مستشفيات والملاريا والبلهارسيا تنهش لحمهم فلحوا الأرض.. كانت ضربات معاولهم تثمر جنيهات إسترلينية ودولارات أمريكية تجلب الوقود والغذاء والدواء والمكائن والكتب والأقلام وتنفق على من حكمنا لاحقا لتحصيل العلم والشهادات الأكاديمية العليا في جامعات الدنيا.. كفوا مأمون بحيري والسيد الفيل ومن خلفهم قلق السوق الموازي ومشقة السعي للمحافظة على سعر صرف العملة التي مهروها بتوقيعاتهم.. على يدهم عادل الجنيه ما يزيد عن ثلاثة دولارات أمريكية، وثمانية ماركات ألمانية وعشرة ريالات سعودية.. تركوا لبنك السودان المركزي في عام 1969 احتياطيا من النقد الأجنبي في حدود مئة مليون جنيه إسترليني.. وقبضوا الريح في خاتمة المطاف.. كان مشروعهم مصدر فخر للأمة.. ما زار البلاد ملك أو رئيس إلا كانت الجزيرة أحدى مقاصدهم.. لم نر جوزيف بروز تيتو والملك فيصل وجمال عبدالناصر وغيرهم فحسب بل كان لبعضنا ونحن صغارا شرف أن يضع أكاليل الزهور على أعناقهم.. أنشاؤا اتحادا لحماية مصالحهم.. قاد اتحادهم رجال أشاوس.. كانوا من أنفع الناس للناس.. د. راشد دياب المولود في ناحية "ود أزرق" بود مدني حاضرة ولايتهم يصف الخير من الرجال ب "الراجل".. الأزيرق، يوسف مصطفى، عبد الجليل حسن عبدالجليل، أبو سنينة، الأمين محمد الأمين أحمد يوسف علقم، وعشرات غيرهم.. نقابيون حققوا من الإنجازات ما يعجز عنه "أتخن" البروفيسورات.. ترأس اتحادهم ردحا من الزمن مزارع شيوعي قاد ثاني أضراب لهم في عام 1963 وبعد عامين أصبح وزيرا للصحة.. لم يتمكن الماركسيون من اتحادهم كما يفعل الشموليون.. رعوا مصالح أعضاء اتحادهم ولم ينادوا بإسقاط الأنظمة التي حكمتهم.. سبق أن نفذوا إضرابا في العاشر من يونيو عام 1947 والبلاد ترزح تحت نير الاستعمار البريطاني ولم تكن شركتهم الزراعية قد أممت بعد.. جهادهم الوطني ليس محل شك.. تلك إنجازات خمسة وأربعون ألف مزارع من أبناء الجزيرة.. ولم تكن نتاج تربية الشيوعيين.. وإن كانت.. فنعم التربية ونعم المربي.