السعودية: تدريبات جوية لمحاكاة ظروف الحرب الحديثة – صور    مستشار قائد قوات الدعم السريع ينفي استهداف قواتهم بمسيرات لسجن مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان    رونالدو يضع "شروطه" للبقاء مع النصر    الأمطار تؤجل مباراتي مجموعة المناقل وفوز عريض لهلال كريمة ببورتسودان    بعد أن تصدرت "الترند" وأنهالت عليها الإشادات.. تعرف على الأسباب التي دفعت الفنانة فهيمة عبد الله لتقديم التهنئة والمباركة لزوجها بعد خطوبته ورغبته في الزواج مرة أخرى    هدى عربي وعلي الشيخ    شاهد بالفيديو.. بعد أن قدمت له الدعوة لحضور حفلها الجماهيري.. الفنانة هدى عربي تتفاعل مع أغنيات الفنان علي الشيخ بالرقص أعلى المسرح    بعد أن تصدرت "الترند" وأنهالت عليها الإشادات.. تعرف على الأسباب التي دفعت الفنانة فهيمة عبد الله لتقديم التهنئة والمباركة لزوجها بعد خطوبته ورغبته في الزواج مرة أخرى    "نسرين" عجاج تهاجم شقيقتها الفنانة "نانسي": (الوالد تبرأ منك عام 2000 وأنتي بالتحديد بنت الكيزان وكانوا بفتحوا ليك التلفزيون تغني فيه من غير "طرحة" دوناً عن غيرك وتتذكري حفلة راس السنة 2018 في بورتسودان؟)    مناوي: نؤكد عزمنا على إجتثاث جذور هذه المليشيا الإرهابية    طاقم تحكيم سوداني يدير نهائي أبطال أفريقيا بين صن داونز الجنوب أفريقي وبيراميدز المصري    المريخ يستأنف تدريباته صباح الغد    الرياضيون يبدأون إعمار نادي المريخ بنقل الأنقاض والنفايات وإزالة الحشائش    ترامب: الهند وباكستان وافقتا على وقف النار بعد وساطة أميركية    الطاقة تبلِّغ جوبا بإغلاق وشيك لخط أنابيب النفط لهجمات الدعم السريع    الاعيسر .. ما جرى في سجن مدينة الأبيض جريمة حرب مكتملة الأركان تضاف إلى سجل الميليشيا وداعميها    محمد وداعة يكتب: التشويش الالكترونى .. فرضية العدوان البحرى    محمد صلاح يواصل صناعة التاريخ بجائزة جديدة مع ليفربول    ((نواذيبو الموقعة الأكثر شراسة))    على خلفية التصريحات المثيرة لإبنته الفنانة نانسي.. أسرة الراحل بدر الدين عجاج تصدر بيان عاجل وقوي: (مابيهمنا ميولك السياسي والوالد ضفره بيك وبالعقالات المعاك ونطالب بحق والدنا من كل من تطاول عليه)    في عملية نوعية للجيش السوداني.. مقتل 76 ضابطاً من مليشيا الدعم السريع داخل فندق بمدينة نيالا وحملة اعتقالات واسعة طالت أفراداً بالمليشيا بتهمة الخيانة والتخابر    شاهد بالفيديو.. من عجائب "الدعامة".. قاموا باستجلاب سلم طائرة ووضعوه بأحد الشوارع بحي الأزهري بالخرطوم    بمشاركة زعماء العالم… عرض عسكري مهيب بمناسبة الذكرى ال80 للنصر على النازية    أصلا نانسي ما فنانة بقدر ماهي مجرد موديل ضل طريقه لمسارح الغناء    عادل الباز يكتب: النفط والكهرباء.. مقابل الاستسلام (1)    خدعة واتساب الجديدة لسرقة أموال المستخدمين    عبر تطبيق البلاغ الالكتروني مباحث شرطة ولاية الخرطوم تسترد سيارتين مدون بشانهما بلاغات وتوقيف 5 متهمين    شاهد بالفيديو.. بعد غياب دام أكثر من عامين.. الميناء البري بالخرطوم يستقبل عدد من الرحلات السفرية و"البصات" تتوالى    بيان توضيحي من مجلس إدارة بنك الخرطوم    الهند تقصف باكستان بالصواريخ وإسلام آباد تتعهد بالرد    وزير الطاقة: استهداف مستودعات بورتسودان عمل إرهابي    ما هي محظورات الحج للنساء؟    توجيه عاجل من وزير الطاقة السوداني بشأن الكهرباء    وقف الرحلات بمطار بن غوريون في اسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ أطلق من اليمن    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الجبار الرفاعي : لا خلاص إلاّ بالخلاص من (تديين الدنيوي) وإعادة الدين إلى حقله الطبيعي
نشر في حريات يوم 02 - 03 - 2015

حوار مع عبد الجبار الرفاعي : لا خلاص إلاّ بالخلاص من (تديين الدنيوي) وإعادة الدين إلى حقله الطبيعي
حوار رحيل دندش مع: د. عبد الجبار الرفاعي
كترت الأسئلة حول الدين والدولة، وأدلجة الدين، وعن دور الدين ومجاله في الحياة، ولا سيما على ضوء ما نحياه اليوم من صعود التطرف الديني، ودعوات التحرر من سطوة السلف وتحديث التفكير الديني. أسئلة من هذا النوع الإشكالي وغيرها حملناها إلى المفكر العراقي والأستاذ الحوزوي الدكتور عبد الجبار الرفاعي. فكان هذا الحوار:
رحيل دندش: ناقشت "اختزال الدين في الأيديولوجيا"، وهذا ما أسهبت الحديث عنه في كتابك "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين"، وقدّمت كل من علي شريعتي وحسن حنفي كنموذجين لتحويل الدين من ثقافة إلى أيديولوجيا.
مع الرفض لأن يختزل الدين في الأيديولوجيا، ولكن إذا تحدثنا عن الإسلام، فهو ينطوي في فكره وتراثه على تحقيق العدالة؛ أي إنه دين في جوهره يحمل عقيدة تغييرية، فكيف يمكن أن يكون خالصاً من التمثلات الأيديولوجية؟
الدكتور عبد الجبار الرفاعي: لم يكن المرحوم علي شريعتي أو الصديق حسن حنفي وحيدين في دعوتهما وجهودهما ل"اختزال الدين في الأيديولوجيا"، بل إن البروتستانتية الإسلامية – منذ الأفغاني حتى اليوم – تناضل في سبيل ذلك. الخبير بأدبيات الجماعات الإسلامية يعرف جيدا أن هذه الأدبيات مسكونة بأحلام خلاصية، تختصر الخلاص في الجهاد من أجل تأسيس "دولة دينية"، وهي تدرك جيدا أن مثل هذا الحلم الكبير لن ينجزه سوى "أدلجة الدين والتراث"؛ ذلك أن الأيديولوجيا نسق مغلق، يغذي الرأس بمصفوفة معتقدات ومفاهيم ومقولات نهائية، تعلن الحرب علي أية فكرة لا تشبهها، حتى تفضي إلى إنتاج نسخ متشابهة من البشر، وتجييش الجمهور على رأي واحد، وموقف واحد، وكأنها تتمثل قول فرعون "قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى".
الأيديولوجيا جزمية، همها تنميط وتدجين ونمذجة الشخص البشري، لذلك تقدم جوابا واضحا لكل سؤال، وكأنها لا تدري أن أسئلة ثقيلة كأسئلة المبدأ والمصير، ما لبثت منذ جلجامش مفتوحة. يتعطل التفكير حين تغلق الأسئلة المفتوحة. الأيديولوجيا تقوّضها الأسئلة المفتوحة، لذلك لا تبقي في فضائها أي سؤال مفتوح، وتحرص أن تقدم إجابات نهائية لكل سؤال مهما كان.
ما زلتُ أدرك أن الدين يهدف إلى تحقيق العدالة، لكن الطريق إلى العدالة لا يمرّ من خلال "أدلجة الدين"، لأن "الأدلجة" تُفسد الدين، الدين يتمحور هدفه العميق حول تأمين ما تفشل الخبرة البشرية في تأمينه للحياة. الإنسان كائن لا يشبه إلا الإنسان، وهو الكائن الذي يفتقر إلى ما هو خارج عالمه المادي الحسي، خلافا للحيوان الذي لا تتجاوز احتياجاته عالمه المادي الحسي. الإنسان في توق ووجد أبديين إلى ما يفتقده في هذا العالم، وذلك ما تدلل عليه مسيرة هذا الكائن منذ فجر تاريخه إلى الآن، بل أزعم أن هذه الحاجة مزمنة، وستستمر حتى آخر شخص يعيش في هذا العالم، وهو ما يمكن تسميته ب" الظمأ الأنطولوجي". يتمثل "الظمأ الأنطولوجي" في افتقار الشخص البشري إلى ما يُثري وجودَه، وهو يجتاح حياةَ كل كائن بشري، بوصف هذا الكائن يتعطش للامتلاء بالوجود، كي يتخلصَ من الهشاشة، ويجعلَ حياتَه ممكنةً في هذا العالمِ الغارق بالمتاعب والأوجاع، وتكونَ له القدرةُ على العيش بأقل ما يمكنُ من المرارات، ويخرجَ من حالة القلق إلى السكينة، ومن اللامعنى إلى المعنى، ومن العدمية إلى الحقيقة. الدين هو المنهل لإرواء الظمأ الأنطولوجي. وحين يرتوي الشخص البشري، تخمد نزعة الشر المتأصلة في ذاته، ويكفّ عن العدوان وكراهية الآخر. مادامت كينونة الكائن البشري في تعطش لمعنى وجوده وهدفٍ لحياته، ولم يعثر على المنهل الحقيقي لذلك المعنى، والسبيل لبلوغ ذلك الهدف، يغرق في اللامعنى والعدمية ولاجدوى الحياة والعالم وكل شيء، فيغدو كقنبلة موقوتة؛ تتفجر لحظة إشعال صاعقها. مادام المرء يكتوي بعذاب العدمية واللامعنى، تترسخ على الدوام النزعة التدميرية في شخصيته، ويصير مستعدا لكل ما من شأنه الهدم لا البناء، الموت لا الحياة، والظلام لا النور.
رحيل دندش: ما الذي تعنيه ب "البروتستانتية الإسلامية"؟
الدكتور عبد الجبار الرفاعي: البروتستانتية هي حركة الإصلاح الديني في الكاثوليكية، التي قادها مارتن لوثر. "البروتستانتية الإسلامية" هي حركة الإصلاح الديني في الإسلام الحديث، التي يمكن أن نؤرّخ لها بالسيد جمال الدين الأفغاني، أو إن نواتها الجنينية ولدت في زمن أبعد من ذلك، مع الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، صاحب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز".
البروتستانتية المسيحية والإسلامية كلتاهما تشتركان؛ بإنهاك الدين، وإفقاره ميتافيزيقيا، وخفض طاقته الروحية، وإهمال قيمه الأخلاقية، والتشديد على مضمونه الدنيوي الأرضي، لكن البروتستانتية الإسلامية مختلفة عن المسيحية؛ فالبروتستانتية المسيحية حرّرت الدولة من الدين، والبروتستانتية الإسلامية أفشلت الدولة بالدين، وسمّمت الدين بالدولة.
رحيل دندش: ما سبق يحملنا للسؤال عن الدين ودوره في حياة الإنسان؟ وما مساحته ومجاله، وما الحدود التي يتوقف عندها؟ وهل تنحصر وظيفته في منح الحياة معنى على مستوى فردي أي الباطن الإنساني؟
الدكتور عبد الجبار الرفاعي: إن هذه الرؤية لوظيفة الدين؛ لا تدّعي أن الدينَ ليس مؤثراً في الفاعل الاجتماعي، وإنما هي تؤشر بوضوح لأفق الانتظار من الدين، ونمطِ المهام التي يعد بها. فإذا عمل الدين في حقله الحقيقي، وأنجز وعودَه التي يقدّمها للبشر، آنذاك يشبع الشخص البشري حاجته لخلع المعنى على ما لا معنى له، ويرتوي تعطشُه للوجود، وتلهفه الأنطولوجي، فيصبح ممتلئاً متوازناً، إيجابياً سوياً، لا ينهكه القلق، وفقدانُ معنى الحياة.
يروي لنا علي شريعتي مثلا مأساة عشرات الآلاف من العمال، الذين تهشمت ضلوعهم تحت حجارة الأهرامات، بينما لا يدري أن ضلوعنا مهشمة أيضا، وأننا يجتاحنا: القلق، اليأس، الاغتراب، الضجر، السأم، الألم، الحزن، الغثيان، فقدان المعنى، ذبول الروح، انطفاء القلب، الجنون…إلخ. إنه كمن يضع بأيدينا مصابيحَ شديدةَ الإنارة، ليكشف لنا بؤس العالم، لكن عالمنَا الجواني الباطن يظل مجهولاً مهملاً. لم يتنبه شريعتي إلى أنه؛ لا ينبغي لنا أن نطاردَ ظلامَ العالم، فيما نحن نجهل ظلامَ أنفسنا، ونتضور لجوع العالم، ونحن لا نشعر بجوع أنفسنا، ونحترق لظمأ العالم، ونحن لا نتحسس الظمأَ الأنطولوجي في ذواتنا…إلخ. ما فائدةُ أن يغدو العالم سعيداً إن لم أكن أنا قبل ذلك سعيداً؟! ما فائدة أن يغدو العالم جميلاً، إن لم أكن أنا قبل ذلك جميلاً؟! "ما فائدة أن تربح العالم وتخسر نفسك"، حسب قول السيد المسيح؟!
رحيل دندش: في اللحظة الراهنة كيف يمكن الانفتاح على الدين؛ بما يملك من خصوبة للخلاص من الطغيان والفساد، خاصة وأنتم تعلمون أن فكرة الدولة الوطنية الحديثة في العالم العربي غير ناضجة، فما نسميه بالدول عندنا أقرب ما يكون للسلطة؟
الدكتور عبد الجبار الرفاعي: مأزق الإسلام اليوم هو انهيار الحياة الروحية والأخلاقية والعقلية، وما نعيشه من شقاء للعقل والقلب والروح. وهذا هو المآل الطبيعي لما أفضت إليه جهود البروتستانتية الإسلامية في عملية "تديين الدنيوي".
لا خلاص إلا بالخلاص من "تديين الدنيوي"، وإعادة الدين إلى حقله الطبيعي. ومن دون ذلك ننهك ما هو ديني، ونبدّد ما هو دنيوي؛ بمعنى أن تمام الدين وكماله ليس بمعنى استيعابه وشموله لكل شيء في الدنيا، وإنما بمعنى أن الدين لا يعوزه ولا ينقصه شيء فيما يرتبط بأهدافه وغاياته في بناء الذات البشرية خاصة، ورفدها بما تفتقر إليه الخبرة البشرية في سياق عالمها الحسي المادي. أما ما يؤمّنه العقل، وما تنجزه الخبرة البشرية، فلا ضرورة لإقحامه في الدين، أو إقحام الدين فيه.
البروتستانتية الإسلامية شددت على أن يختلط كل شيء بكل شيء… يختلط الدين بالعلم، والعلم بالدين، يختلط الدين بالدولة والدولة بالدين، يختلط الدين بالفن والفن بالدين، يختلط الدين بالاقتصاد والاقتصاد بالدين… مضافا إلى أن السياسية انحطت في مجتمعاتنا فتغولت، والتهمت الدين والاقتصاد والفكر والأدب والفن والرياضة، فلم يعد الدين ديناً، ولا الاقتصاد اقتصاداً، ولا الفكر فكراً، ولا الأدب أدباً، ولا الفن فناً، ولا الرياضة رياضة.
نحن بحاجة ماسة لعبور ميراث شريعتي، مثلما عبره وتجاوزه التفكير الديني في إيران، وجعله خلفه منذ سنوات طويلة، بل نحن بحاجة ماسة لعبور التفكير الديني للمفكرين الأيديولوجيين من رواد البروتستانتية الإسلامية في عالم الإسلام في القرنين الأخيرين. ذلك أن مجتمعاتنا مسكونة بنحت الأصنام البشرية، فالزعيم السياسي أو غيره؛ سرعان ما يتحول في الوجدان الشعبي إلى أسطورة خارقة للطبيعة البشرية، فيصاب هو بجنون العظمة، ويصدّق أنه أضحى أسطورة، وأنه "الرجل الضرورة!".. وإن أخطر أنماط الأصنام البشرية هي التي تولد في حقل الفكر، فحين يتحول المفكر إلى صنم، وقتئذ يكفّ العقل عن التفكير. التفكير الديني مطالب اليوم بالانتقال "من الأيديولوجيا إلى الإبستمولوجيا"، ومن "تحويل الدين إلى أيديولوجيا"، كما يشدّد المرحوم شريعتي، إلى "اكتشاف الوظيفة الأنطولوجية العميقة للدين". متمنيا أن يتسع وقتكم لمطالعة مقالتي في العدد القادم لمجلة "الكوفة" المعنونة: "المثقف الرسولي علي شريعتي: ترحيل الدين من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا"، التي تشي بموقفي الراهن من تلك الوجهة في التفكير الديني في عالم الإسلام الحديث والمعاصر، والتي ساقتنا إلى ما نحن فيه اليوم من شقاء للعقل والقلب والروح.
رحيل دندش: تشدّدون على مراجعة الماضي ونقد التراث، والتحرر من سطوة السلف، في كتاباتكم. هل تحسبون ذلك منطلقا لتحديث التفكير الديني؟
الدكتور عبد الجبار الرفاعي: "تبرئة الذات" وتنزيهها عامل حاسم في عجز الشخص البشري عن عبور الماضي. وتعود منابع ذلك إلى "لاهوت الفرقة الناجية"، والتربية على "تنزيه الذات"، وعدم "الاعتراف بالخطأ". كأننا كائنات كاملة لحظة ولادتها، كأن كل شخص في مجتمعاتنا هو "إنسان كامل"، وسيلبث كاملا أبدا. لم تكفل ثقافتنا "حق الخطأ" للشخص البشري. الخطأ فضيحة في حياتنا، لذلك يحرجنا، بل نرتبك ويغمرنا الخجل والوجل لو اعترافنا به. أفضى هذا إلى أن يغدو تراثنا كله صوابا، وماضينا كله مشرقا، وتاريخنا كله مجيدا، ورموزنا كلها مقدسة…إلخ. ربما لا توجد ثقافة غارقة بالثناء والتبجيل للتراث ورجاله كثقافتنا. ربما لا توجد لغة مشبعة بالمناقب والمديح للماضي ورموزه كلغتنا.
وربما لا يوجد متخيل لماضٍ كماضينا، إذ يعيدُ ماضينا نفسه؛ بإعادة إنتاج نصوصه ذاتها اليوم؛ ففي السياقات ذاتها تتكرر النصوص الماضية في الحاضرة؛ بكلمات بديلة وصياغات جديدة.
تجلت الآثار التربوية لذلك، في أن للمرء في مجتمعاتنا شخصية مستعارة، يرتدي بها قناعاً في كل موقف نيابة عن غيره، وعجز المرء عن أن يكون ذاته، لا كما تريد له التقاليد والقيم الاجتماعية أن يكون. كما تجلّت في تفتيش الشخص البشري على الدوام عن عوامل خارجية لفشله، والتنكر لأي سبب للفشل من داخله. فهو يعتذر مثلا عن رسوبه؛ بأن: "المعلم عدوه"، وليس كسله وإهماله هو ما تسبب برسوبه. وعن تأخره عن السفر؛ بأن "الطائرة غادرت وتركته"، وليس هو من تأخر عن موعدها… إلخ.
وهكذا ترسّخت ظاهرة تبرير كل تخلف في مجتمعاتنا، بوصفه مؤامرات كونية تستهدفنا على الدوام. الآخر سبب تخلفنا، الآخر سبب فشلنا، الآخر سبب هزيمتنا في معاركنا، الآخر سبب ظهور الجماعات المتطرفة الإرهابية في مجتمعاتنا، الآخر سبب صراعاتنا الطائفية، الآخر سبب كل ما لا سبب له… الآخر سبب يغذي نرجسيتنا المزمنة. نرجسيتنا تملي علينا أن نعتذر عن كل ما تصرّح به مدونات التاريخ؛ من تعسف واضطهاد وطغيان الخلفاء والسلاطين، رغم أنه لم يكن في الرعية شخص حرّ سواهم، أما بقية أفراد المجتمع، فظلوا على الدوام عبيدا لهم. نرجسيتنا تدعونا للتنكر لموجات الحروب الأهلية الطائفية المرعبة في بغداد مثلا في العصر العثماني، والادعاء أن الطائفية مخلوق غريب لا يعرفه تاريخ العراق، وإنما ظهر بعد سقوط صدام حسين ونظامه!
ومما لا ريب فيه أن كل من لا يعترف بأخطائه؛ سيُرغمه التاريخُ على استئناف تجرع كؤوس هزائمه في الماضي. من لا يعترف بأخطائه لا يتعلم. التاريخ لا يُعلّم إلا من يعترف بأخطائه.
من نتائج "تبرئة الذات" أننا لا نعثر على مذكرات تسجل مسيرة تجارب الأعلام والمشاهير في تراثنا، لئلا تبوح بضعفهم البشري، ما خلا حالات نادرة، مثل كتاب "الاعتبار"، الذي ألفه أسامة بن منقذ المتوفى 584 ه. ودوّن فيه سيرته الذاتية، غير أنه لم يكتبه الا بعد مضي ثمانين عاما من حياته. في العصر الحديث، مازال كتّاب المذكرات خارج فضاء الحواضر والحوزات الدينية عادة، وحتى أولئك الأدباء والمثقفين والسياسيين الذين ينشرون مذكراتهم، فإنهم في الغالب يمضغون الكثير من التفاصيل الجميلة، التي تؤشر لتطور منحنى شخصياتهم ومنعطفاتها، وضعفهم البشري، وما اكتنف حياتهم من؛ ألم وأمل، ونجاح وفشل، وضعف وقوة، وقلق وطمأنينة، وإيمان وحيرة…إلخ. وعادة ما يلوّنون ماضيهم الشخصي بألوان جذابة، تتغافل عن الكثير من الأخطاء والهشاشة والعجز. قبل سنوات طالعت مذكرات الشاعرة نازك الملائكة، بتحرير حياة شرارة، فكانت كأنها قصيدة غزل تتغنى فيها بشخصيتها وعائلتها. شعرت بالغثيان؛ لفرط نرجسيتها وشعورها بالتفوق. وعجزها عن إعلان شيء من صوت الشاعر المتوهج القلق في ذاتها. وهواجس وخلجات وأحلام وأوهام الرائي في وجدانها. وتكتمها على العجز الطبيعي في شخصية كل كائن بشري. لكن ربما نجد من يشذّ عن هذه الحالة، مثل الروائي سليم مطر كامل الذي كتب سيرة تفضح "ثقافة العيب"، وتعلن عن "مذكرات رجل لا يستحي" حسب تسميته، تصرخ حياته فيها بعنفوان وضجيج، وتتكشف شخصيته عن منحنى تمزقها وهبوطها وصعودها، بشكل صادم لوعي القارئ في مجتمعاتنا.
رحيل دندش: تدعو لإحياء واستلهام ميراث الفلاسفة والمتصوفة والعرفاء كمحيي الدين بن عربي ومولانا جلال الدين الرومي وغيرهما، كعلاج للشفاء من أدبيات الكراهية ومناهضة الآخر. كيف تفسّرون هذه العودة للتصوّف اليوم؟ وهل فعلاً يمكن أن يشكّل شفاء للآلام التي نعاني منها، علماً أنه يؤخذ على التصوف عموماً الاعتناء بالخلاص الفردي؟
الدكتور عبد الجبار الرفاعي: الالتباس ينشأ من الخلط بين التصوف الطُرُقي، والتصوف المعرفي والعرفان النظري. التصوف الطُرُقي "الاجتماعي" هو تصوف الدروشة والخانقاهات والتكايا والزوايا. هذا النمط من التصوف مرآة لتشوهات وعاهات المسلمين العميقة، إذ ترتسم فيه صورة تشوهات وعاهات التجربة التاريخية لعصور انحطاط الاسلام، وتخلف المسلمين وجهلهم. مثل؛ التربية على نفسية العبيد، وذهنية القطيع، والمسكنة والانقياد والرضوخ والطاعة العمياء لمشايخ الطرق الصوفية، والهروب من المجتمع، والتنكيل بمتطلبات الجسد، والتضحية بالغرائز والحاجات الطبيعية للبشر..إلخ.
هذا ما تفشّى في تصوف الدراويش، تصوف الخلاص الفردي. أما التصوف المعرفي "الفلسفي" والعرفان النظري، فإنه أنتج قراءة للنصوص خارج إطار المناهج وأدوات النظر الموروثة التي اخترعها الشافعي والأشعري وغيرهما، ثم أضحت مقدسة، ومنح المسلم أفقا رحبا في التأويل، وإنتاج قراءات تتوالد منها على الدوام قراءات حية، في فضاء يواكب متغيرات الحياة…والخلاص من توثين الحروف وإهدار المقاصد، والتمسك بالأشكال ونسيان المضامين، والغفلة عن الحالات والغرق في الصفات.كما أعاد التصوف المعرفي "الفلسفي" والعرفان النظري الاعتبار للذات المستلبة، والعالم الجواني المطموس للشخص البشري، وعبّد دروب القلب في رحلته الأبدية نحو الحق تعالى، وانشغل بإرواء الظمأ الأنطولوجي للروح.
رحيل دندش: بوصفك أستاذا في الحوزة، ما موقفك من النظام التعليمي في الحوزة، والمرجعية التقليدية؟
الدكتور عبد الجبار الرفاعي: كنت قبل أكثر من ثلاثين عاما ممن ينتقدون النظام التعليمي في الحوزة، والمرجعية التقليدية، لكن بعد تجربة تواصلت في الحوزة منذ 1978، وعلاقة عضوية بالدراسة والتدريس فيها، أدركت أن عملية إصلاح النظام التعليمي انغمست بالشكل وأهملت المضمون، أعني: جرى توطينٌ لنظام التعليم الجامعي في الحوزة بأسلوب تبسيطي، يفتقد العمق والتكثيف. نعم؛ أُطر التكوين الموروثة الراسخة في الحوزة تتضمن عيوبا متعددة، وتُهدر فيها سنوات طويلة من أعمارنا، غير أنها تتكفل بتكوين عميق دقيق في المنقول والمعقول، يمنحنا أهلية استثنائية للتوغل في التراث، واستكشاف مسالكه ومدياته المتشعبة القصية.
أما المرجعية التقليدية، فقد تحوّل موقفي حيالها منذ أكثر من ربع قرن، بعد أن تفهمتُ أن حضورها ضرورة تفرضها متطلبات اجتماعنا اليوم. ذلك أن مجتمعاتنا مازالت في "مرحلة ما قبل الحداثة"، بل يمكن توصيف بعضها بأنها "مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة". والمرجعية التقليدية في مجتمع ينتمي إلى الماضي بكل ما فيه، أهم نقطة ارتكاز في العواصف والمنعطفات العظمى التي تعصف بها، مثلما تشاهد في العراق منذ الاحتلال الأمريكي. ولك أن تراجع مواقف مرجعية السيد السيستاني في هذه الحقبة، ودورها الحاسم والمحوري منذ 2003 إلى سقوط الموصل وغيرها بيد داعش 2014، فلولا مواقفها الحكيمة؛ لغرقنا أعمق مما نحن فيه اليوم في الفوضى والدم المسفوح.
رحيل دندش: أريد أن أستفيد من هذا اللقاء لتناول موضوع الحوزة الدينية، وقد ذكرتم مراراً أن تحديث الحوزة لا يتم إلا عندما ينطلق من الحوزة نفسها، وليس من خارجها، وذلك كي لا يفتقر التحديث للمشروعية. كأستاذ في الحوزة الدينية، إلى أي مدى لمستم تغييرات وقيام إصلاحات جديّة فيما يتعلق بتغيير المناهج والأدوات والمفاهيم، ومن ثم قيام رؤى جديدة في التعاطي مع قضايا الراهن والتجديد الديني والحفريات في المعرفة الدينية، بالاستعانة بفلسفة العلم والعلوم الإنسانية الحديثة والمعاصرة؟
الدكتور عبد الجبار الرفاعي: الحوزة واحدة من مؤسسات المجتمع، تطورها لا ينفصل عن العالم البشري المتنوع الواسع، فهي ليست خارج الزمان والمكان الأرضيين، وليست عابرة للتاريخ الإنساني، وتغيير عالمنا والمجتمعات البشرية، لم يعد محكوماً بالأساليب والوسائل الموروثة، بل تجاوزت المجتمعات النمط الذي ظل فيه التاريخ تصوغه الإيديولوجيات والأفكار والدعوات والمفكرون والأبطال، بعد انزياح عالمنا لصالح العالم الافتراضي، وسطوة تكنولوجيا المعلومات على كل ما يتصل بتدبير الشأن الدنيوي، وإعادة تشكيل الاجتماع البشري في سياق مختلف. وما تفاجئنا به هندسة الجينات من نتائج، ربما تتخلخل فيها الشفرات الوراثية للنوع الإنساني، فضلا عن غيره من الأحياء. إنها ترسم صورة بديلة لنموذج من بني آدم، قد تبتعد بالتدريج عن الخصائص المألوفة لدينا، حسبما أنبأنا اكتشاف الخارطة الجينية، والقدرة على التحكم بال "DNA"، وما سيفضي إليه من تنميط للنوع البشري. مضافا إلى ما تعد به تكنولوجيا "النانو"، وغيرها من آفاق متنوعة للتكنوجيا. ولا تبدو الوتيرة المتسارعة للتحولات المناخية، وما ينجم عنها من كوارث طبيعية غير متوقعة، أقل أثراً في تفكيك بنية المجتمعات وتحولاتها. اما المشكلة الديمغرافية واختناق بلادنا بتكاثر عشوائي للسكان، والعجز عن توفير الحدّ المناسب للعيش الكريم لهم، فإنه يضعنا في مأزق مصيري، تتعطل معه المجتمعات وتتهشم مرتكزاتها وعناصر بقائها وديمومتها. كل ذلك يعيد ترتيب العناصر الفاعلة في بناء المجتمعات، ويخضع العوامل الأساسية التقليدية في حركة المجتمع إلى تسلسل مغاير، تضمحل أو تختفي معه بعض العوامل المؤثرة، بينما يتعاظم تأثير عوامل ثانوية أو جديدة، وتنتظم الأولويات في نسق بديل، بعد المتغيرات النوعية الجديدة، وما تفرضه من آثار وحقائق غير معروفة.
العالم يتبدل من حولنا. العالم يتغير من حولنا. العالم يتطور من حولنا. الصمت لا يعزلنا عن العالم. لا يسمح لنا منطق التاريخ أن نبقى متفرجين في عالم يتغير فيه كل شيء. لا خيار لنا؛ سوى مواكبة متغيرات العالم، والاستجابة للإيقاع العاجل لوتيرة التطور. ومع أن ماضينا يطمح إلى أن يتخفّى دائما في حاضرنا ومستقبلنا، لكن مكر التاريخ سيبتلعه، وتسحبنا قاطرة التاريخ الهائلة في مسيرتها. ففي "دراسة حكومية أميركية أجريت مؤخرا تبيّن أن 65 في المئة من الطلاب، في مرحلة رياض الأطفال، سيعملون في وظائف غير موجودة حاليا، بل سيتم استحداثها. وفي دراسة لجامعة أكسفورد تبيّن أن 47 في المائة من الوظائف الحالية في جميع المجالات الرئيسة ستختفي؛ بسبب التقدم التقني والتكنولوجي، إذ ستحل الأجهزة محل البشر، وذلك خلال عقد من الآن فقط… وأن أكبر 500 شركة عالمية قبل 40 عاما، كانت أصولها المرئية تمثل 80 في المئة من إجمالي الأصول، لكن اليوم أصبحت الأصول غير المرئية، كالأبحاث والدراسات والاختراعات، تمثل أكثر من 80 في المائة من إجمالي الأصول في قائمة الشركات ال500 الأولى عالميا" (صحيفة الشرق الأوسط 4-2-2015). هذا ضوء يكشف عن صورة عالم الغد. فهل ننتمي لهذا العالم، أو ننتمي لعوالم خارج عالمنا؟! وكيف يتغير كل شيء في هذا العالم، فيما نلبث نحن نكرر أنفسنا؟!
رحيل دندش: كيف تلخص رؤيتك لتحديث التفكير الديني؟
الدكتور عبد الجبار الرفاعي: لا يمكن تخطي القراءة الموروثة للنصوص، وإنتاج قراءة تواكب العصر، مالم نعيد النظر بالبنية التحتية لتفسير النصوص، ونتخطى آليات النظر والمناهج الموروثة. أية بداية لتحديث التفكير الديني لا تبدأ بعلم الكلام، ومسلماته وقبلياته المنطقية والفلسفية، فإنها تقفز إلى النتائج دون المرور بالمقدمات. تجديد الفقه ينبني على تجديد علم الكلام، ذلك أن خلفيات الفقه مسلمات ومقولات تحددها الرؤية الكونية، وحقلها هو علم الكلام.
هنا لابد من الإشارة إلى ضرورة التفكير جديا بتحديث اللغة في الدراسات الدينية. اللغة مرآة حياة المجتمع في كل عصر. البيئة الفقيرة لغوياً فقيرة عقلياً. خصوبة اللغة وثراؤها؛ بقدر ما تقتل التفكير السطحي الملتبس، فإنها تحيي التفكير العميق الدقيق المنظم. حين تشيخ اللغة ويصيبها الوهن؛ تنضب فيها طاقة الأسئلة الكبرى، وتتفشى فيها كلمات واهنة، وعبارات هشة؛ تقول كل شيء، من دون أن تقول شيئاً له معنى. التحليل اللغوي يتيح لنا اكتشاف أنماط المعتقدات والقيم والمفاهيم والحوافز العميقة الموجهة لحياة المجتمع في ذلك العصر.
البحث اللغوي عند الأصوليين والفقهاء بلغ سقفا توقف عنده، وما يقال فيه ليس قولا جديدا، وانما هو شروح وتعليقات وشروح للشروح، وتفاصيل في التشعبات، وتفريعات داخل الفروع. ما يعدنا بأفق جديد؛ هو استيعاب المعطيات الراهنة في الألسنيات والهرمنيوطيقا وعلوم الدلالة والرموز، وتوظيفها في الدراسات الدينية.
رحيل دندش: هل أنجزت شيئا من وعودك في "تحديث التفكير الديني"، عبر المجلة التي أصدرتها "قضايا إسلامية معاصرة"، منذ عشرين عاما تقريبا، وما أصدره "مركز دراسات فلسفة الدين". المركز الذي أعلنت عن ولادته ببغداد سنة 2003، بعد عودتك من المنفى إلى وطنك؟
الدكتور عبد الجبار الرفاعي: أدركت قضايا إسلامية معاصرة لحظةَ صدورها، أنّ التفكير الديني في دنيا العرب تحتكره؛ المؤسساتُ الدينية من جهة، والجماعاتُ الإسلامية من جهة أخرى. المؤسّسات الدينية تواصل ترسيخَ التقليد والبناء على ما كان، لا ما ينبغي أن يكون، والجماعات الإسلامية لا تنتمي للتقليد روحا؛ بقدر ما تنتمي إليه شكلا وصورة وشعارا، ذلك أن مؤسّسيها وكتّابها لم يتكرّسوا بتكوين تراثي تقليدي، ولم يتسلحوا بأدوات تمكّنهم من الخوض في حقول الموروث الواسعة المتنوعة. فلا يعرفون شيئا في الغالب عن المعارف العقلية، كالمنطق والفلسفة وعلم الكلام، ولم يتوغلوا في أصول الفقه ومسالك الفقهاء المتشعبة في الاستنباط الفقهي. أما خبرتهم بالتفسير، فإنها مبسّطة، لا تعدو سوى محفوظات يجري تلقينُها في أدبياتهم. وكلّ ما يتصل بالعرفان والتصوف وميراث الحياة الروحية يخاصمونه، تبعا لمنظّريهم، بلا اطّلاع على مضامينه الخصبة. ويتفننون في ابتكار شعارات تبسيطية تعبوية حالمة، ذات تأثير سحري في تجييش المراهقين والشباب.
جاء صدور هذه الدورية إيذانا بتدشين مسار جديد لتحديث التفكير الديني، يستلهم أفقا يضئ لنا ما ينبغي أن يكون، بدل أن نلبث إلى ما لا نهاية فيما كان. أفق لا يدعو لإقصاء الدين، بل يشدّد على أن الدينَ هو منطلق أية عملية للنهوض والتنمية والتحديث في مجتمعاتنا، يكون رأسمالُها ومادتُها المحورية الشخصَ البشري؛ كيفيةَ تربيته وتأهيله روحيا وأخلاقيا، وأن الدين هو المنبع الأساس في بناء حياته الروحية، وتطهير حياته الأخلاقية، وحماية الكائن البشري من الاغتراب الكوني، والقلق الوجودي، والعبثية، واللامعنى.
لقد كان لمجلة قضايا إسلامية معاصرة مقاربتها لمأزق التفكير الديني في عالمنا المعاصر، سعت من خلالها لتجاوز التبسيط، والقطيعة مع حالة الغرق في الماضي وأسيجته المنيعة، فغامرت باجتراح تفسير لا يخشى توظيف معطيات العلوم الإنسانية والمعارف الجديدة في قراءة النصوص الدينية، ولا يمتنع من الإفادة من خبرة فلسفة الدين الحديثة والمعاصرة في الكشف عن جوهر الدين، ونمط التجارب الدينية. وانتقلت بدراسة وتحليل ما يرتبط بالدين وتعبيراته في الحياة من الإيديولوجيا إلى الإبستمولوجيا، فلم تدرس الدينَ بعقلية لاهوتية، ولم تنقد علمَ الكلام بعقلية كلامية. واهتمت بالكشف عن المهمة المحورية للدين في إرواء الظمأ الأنطولوجي للكائن البشري، وحرصت على ضرورة عودة الدين إلى حقله الأنطولوجي، بعد أن رحّلته الجماعاتُ الإسلامية إلى الإيديولوجيا، وحوّلته إلى وقود يحترق في عربة السياسة، وزجّته في الدولة؛ فأفشلت الدولةَ، وأمرضت الدينَ، وأفسدت رسالتَه.
وهذا ما دعا "المعهد البابوي في روما" التابع للفاتيكان إلى أن يخصص كتابَه السنوي لمواد منتقاة من مجلة قضايا إسلامية معاصرة، الذي صدر في ديسمبر 2012؛ اعترافا بالمهمة التي نهضت بها قضايا إسلامية معاصرة في تحديث التفكير الديني في ربع القرن الأخير، وبوصفها الدورية الأهم المتخصصة في الأديان باللغة العربية، الرائدة في اقتحام الحقول الممنوعة في التفكير الديني، واجتراح سؤال لاهوتي جديد، والعمل على كشف قصور مناهج النظر والمقولات الموروثة في ذلك التفكير اليوم، وتدشين مناهج للنظر وأدوات بديلة فيه، تواكب إيقاع الحياة الشديدة الغنى والتحوّل والتطور والتركيب.
أما "مركز دراسات فلسفة الدين"، فقد تأسّس في المنفى، ودشّن جهوده في البحث والطباعة والنشر قبل عشرين عاما تقريبا، لكن إشهاره تأخر حتى عودتي من المنفى للوطن. منذ ذلك التاريخ أصدر المركز مضافا إلى مجلته قضايا اسلامية معاصرة سلاسل كتب عدة، تجاوز عدد ما صدر فيها 200 كتابا. تناولت القضايا الإشكالية في التفكير الديني. وبدأ العام الماضي 2014 بإصدار "موسوعة فلسفة الدين"، التي صدر مجلدها الأول في 500 صفحة، والمجلد الثاني تحت الطباعة في 600 صفحة. وستصدر بقية المجلدات تباعا في هذه الموسوعة، حيثما يتم تحريرها، ونخطط أن تستوعب كل مسائل فلسفة الدين، في عشرة مجلدات، وهي تضم مساهمات لفلاسفة دين وباحثين عن الألمانية والإنجليزية والفرنسية والفارسية، بموازاة النصوص العربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.