لمنع انهيار الدولة.. فصائل سودانية: تركنا الحياد واصطففنا مع الجيش    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الناشط صلاح سندالة يسخر من المطربة المصرية "جواهر" بعد ترديدها الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله) خلال حفل بالقاهرة    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    نائب وزير الخارجية الروسي من بورتسودان: مجلس السيادة يمثل الشعب السوداني وجمهورية السودان    صحة الخرطوم توفر أجهزة جديدة للمستشفيات والمراكز الصحية واحتياجات القومسيون الطبي    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من تاريخ التعذيب
نشر في حريات يوم 24 - 03 - 2015


ناصف بشير الأمين
يعتبر التعذيب وكافة أشكال المعاملة او العقوبة الوحشية او الحاطة من الكرامة الإنسانية أكثر إنتهاكات حقوق الإنسان بربرية ووحشية لما ينطوي عليه من إهدار لكرامة الفرد ومصادرة لإنسانيته. لذلك فإن الحق في الحرية من التعذيب يعتبر وفقا لمباديء حقوق الإنسان العالمية حقا مطلقا لايجوز تقييده او تعطيله تحت أي ظروف او مبررات، بما في ذلك أثناء وقت الحرب او دواعي أمن البلاد والطواريء العامة. يعتبر التعذيب أيضا جريمة دولية بموجب القانون الجنائي الدولي ويعتبر أيضا في بعض الحالات جريمة حرب بموجب القانون الدولي الإنساني Humanitarian Law. إلا ان البشرية لم تتوصل الى هذا الحظر الشامل للتعذيب إلا مؤخرا جدا بعد الحرب العالمية الثانية وصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهود الدولية ذات الصلة، تحت نظام الأمم المتحدة .من المتفق عليه تاريخا ان التعذيب استخدم بواسطة كل المجتمعات تقريبا في العالم القديم. كان اسرى الحرب يتم اما ذبحهم او استرقاقهم. والإسترقاق ينطوي بطبيعته على عمليات تعذيب واذلال مستمرة. ينطبق هذا على كل الحضارات القديمة في بلاد الرافدين، وادي النيل، اليونان، والرومان والمسلمين ..الخ.
في اليونان القديمة وكذلك في ظل الإمبراطورية الرومانية، كان التعذيب (والذي يصطلح عليه ب Basanos عند اليونان و Quaestio عند الرومان) يستخدم للحصول على إقرارات من المتهمين في القضايا الكبرى والخطيرة. إستخدام المصطلح نفسه Basanos لايخلو من طرافة. فهو يعني في لغة اليونان الحجر الذي كان يستخدم لصقل الذهب وإختبار نقاءه. وصار المصطلح يستخدم كمجاز ليشير الى الإختبار الفيزيائي للحقيقة من خلال التعذيب. مثال على أساليب التعذيب التي كان يتم توظيفها في اليونان القديمة نجده في قصة ارسطو الساخرة "الضفادع." في تلك القصة الطريفة صحب اكسانثيوس الخادم سيده باخوس في رحلة الى العالم السفلى. انتحل الخادم اكسانثيوس شخصية هيروكليز بينما مثل باخوس السيد دور العبد التابع له. عند وصولهم مكانا معينا واجه الإثنان تحد من اكيوس وكان على اكسانثيوس ان يعرض عبده للتعذيب. وعندما سأل اكيوس: كيف اعذبه؟ جاء رد اكسانثيوس: "بكل الطرق، بربطه الى سلم، بتعليقه، بجلده بالسوط، بضربه بالهراوة، بربطه وشد اطرافه (بأستخدام آلة مخصصة للتعذيب)، بصب الخل داخل فتحتي انفه، بردم الطوب والحجارة فوقه وبكل طريقة أخرى." الملاحظ أن معظم أساليب التعذيب هذه استمر إستخدامه حتى العصور الحديثة. استخدام التعذيب (Basanos)عند اليونان، كان يستند على الفرضية البدائية: ان العبيد سيقولون الحقيقة دوما اذا تم تعذيبهم. وفق هذه (الحكمة) اليونانية القديمة، فان المواطنين الأحرار –معا في اليونان وروما القديمة- هم وحدهم المستثنون من التعذيب، وبالتالي يحق لهم بان يدلوا باقوالهم في القضايا الجنائية دون ان يعرضوا للتعذيب. أما العبيد (الذين لا يشملهم مفهوم مواطنين) فلا تقبل اقوالهم كدليل إثبات الا بعد ان يتم تعذيبهم. MacDowell في كتابه: القانون في اثينا القديمة(لندن -1978) اورد التبرير اليوناني للممارسة وهو: ((العبد الذي يعرف اي شيء مادي له علاقة بالنزاع عادة ما يكون مملوكا لأحد أطراف النزاع، وبالتالي سيكون خائفا من ان يقول اي شيء يتعارض مع مصلحة سيده، مالم يكن الضغط الذي يمارس عليه من أجل كشف الحقيقة أعظم من العقوبة التي يتوقع ان يتلقاها من سيده بسبب كشفه تلك الحقيقة)). ارسطو عارض هذه النظرية الغريبة من خلال نظرية تفوقها جنوحا وغرابة (بمعايير القاريء المعاصر بالطبع). حسب منطق ارسطو (ٍSee Malcolm Evan and Rod Morgan, Preventing Torture, Oxford 1998) : "ارسطو ينتقد النظرية المشار اليها التي تبرر تعذيب العبيد لانه –وفقا لأرسطو- هناك نوعين من الرق: رق طبيعي ورق قانوني. بعض الناس أرقاء بالطبيعة. فهم – مع إثبات كونهم قادرين على الإدراك- فانهم عاجزون عن التسبيب العقلانيReasoning . بالمقارنة فان الأشخاص النبلاء يمكن ان يقعوا تحت الأسر في الحرب ويصيروا رقيقا بموجب القانون." لذلك يرى ارسطو ان التمييز بين مواطنين احرار وعبيد او مواطنين يونانين او رومان مقابل أجانب، لأغراض إخضاعهم للتعذيب، تمييز مبني على أسس غير سليمة. وبناء على ذلك يعتبر ان قول الحقيقة ليس منتوجا مضمونا لإستخدام التعذيب. ولانصاف ارسطو فانه يضيف أسبابا أخرى تضعف من صدقية الاقوال المنتزعة تحت التعذيب. فالشخص الواقع تحت الإكراه يمكن ان يعطي أقوالا صادقة مثلما يمكن ان يعطي أقوالا كاذبة. كذلك هناك أشخاص ضعيفون معنويا او جسديا ولا يستطيعون لذلك إحتمال التعذيب، ولذا هم مستعدون لقول أي شيء للتخلص من العذاب. هناك اخرون غير ارسطو شككوا ايضا في القيمة الإثباتية للأقوال المنتزعة تحت التعذيب ومدى صدقها. كذلك نجد ان الرومان قد اعترفوا بان الأقوال المتحصل عليها عن طريق التعذيب تعتبر بينة ضعيفة وهشة. وتشير بعض مدونات القوانين الرومانية الى ان الأقوال المتحصل عليها عن طريق التعذيب تعتبر بينة ضعيفة وخطرة، وإن بعض الإشخاص قد يدلون بإعترافات غير صحيحة تحت التعذيب للتخلص من الألم. ومع ذلك ترى هذه المدونات انه لايجب استبعاد البينة المتحصل عليه عن طريق التعذيب كلية. الغريب ان هذه المنطق المتناقض والذي يعود تاريخه لأكثر من ألفي عام هو الذي تبناه المشرع (الإسلامي) السوداني في قانون الإثبات السوداني لسنة 1993م، والذي ما زال ساريا.
بمرور الوقت تم الأخذ بحكمة ارسطو ولكن للسير في الإتجاه الخطأ للتطور. الذي حدث ان إستثناء المواطنين الأحرار من التعذيب الذي كان معمولا به تم تجاوزه مع الوقت وصارت هناك "مساواة في القمع". في السنوات المتأخرة من عمر الإمبراطورية الرومانية اصبح الأحرار والعبيد معا عرضة للتعذيب، اذا تم إتهامهم بالجرائم الخطيرة كالخيانة العظمى. بل تم توسيع إستخدام التعذيب ليشمل حتى الشهود في بعض القضايا الخطيرة (The Oxford History of the Prison: The Practice of Punishment in Western Society, 1995 Oxford). أما في التقاليد والقوانين الجرمانية الأولي، فقد حافظت على التقليد الروماني بقصر إستخدام التعذيب (بغرض الحصول على البينة القضائية)، على العبيد دون المواطنين الأحرار. الاجراءات الجنائية كانت تعتبر إجراءات خاصة وقسم اليمين بالنسبة للرجال الأحرار كان يعتبر بينة كافية. لكن اذا كانت التهمة خطيرة او كان المتهم ذا سمعة غير حسنة، فانه يمكن إثبات الحقيقة عن طريق المبارزة (Trial by combat) حيث تعتبر الحقيقة في جانب المنتصر. كذلك كان يتم إعلان براءة المنتصر اذا كان متهما، إستنادا على الإعتقاد بأن السماء تتدخل لنصرة الطرف الذي يقول الحقيقة او المتهم البريء. او عن طريق ما كان يعرف بالاورديل (Trial by Ordeal) وهي طريقة كانت شائعة في أوروباء القرون الوسطي. وحسب هذه الطريقة يعرض الشخص لتجربة مميته عن طريق الإغراق في الماء او الإحراق او الضرب بالسيف والتي غالبا ما تكون نتيجتها الموت. وكان الإعتقاد السائد هو اذا نجاالمتهم من الموت، فإن ذلك يشكل دليلا على براءته. وفي حالة نجاته كان يعتبر ان الله قد تدخل لإنقاذ المتهم البريء. وكانت هذه من طرق الإثبات الشائعة مثلها مثل شهادة الشهود وحلف اليمين. وهي ممارسات قديمة يرجعها بعض المؤرخين الى قوانين حمورابي.
شملت طرق ووسائل التعذيب التي كانت شائعة في أروبا القرون الوسطى: الخازوق (The Judas Cradle)، المنشار الحديدي وهو وسيلة للإعدام كان يستخدم لشق الضحية الى نصفين وهو معلق كالبهيمة من قدميه، عجلة الكسر (The Breaking Wheel) والتي كان تربط فيها أطراف الضحية وعندما يتم تدويرها تقوم بكسر عضامه، الكرسي الحديدي المليء بالأشواك الحديدية المزروعة على المقعد وكل الجنبات الأخرى والذي كان يجلس عليه الضحية ويربط، مهشمة الرأس (Head Crusher) والتي كانت تستخدم للضغط على الجمجمة وغالبا ما كانت تؤدي الى كسر الجمجمة وعظام الفكين، والتعذيب عن طريق صندوق الفئران الذي تكون له فتحة واحدة بإتجاه جسم الضحية، وكان يتم تسخين الصندوق فلا تجد الفئران طريقا للهرب سوى عبر جسد الضحية، والدولاب الحديدي الذي يدخل فيه الضحية وتكون كل جوانبه مملؤة بالنتوءات الحديدية المسننه والتي كانت تحرك لتضغط اكثر حتى تخترق جسد الضحية أثناء الإستجواب، إستخدام الضواري كالأسود وغيرها من الات وأساليب التعذيب. كذلك في أروبا القرون الوسطى، وخاصة في ظل الحملة المنظمة التي قادتها الكنيسة الكاثوليكية ومحاكم التفتيش التابعة لها ضد المتهمين بالهرطقة، تحت القانون الكنسي، توسع إستخدام التعذيب بما جاوز كل الحدود التي حرمها القانون الروماني. ولأن تهمة الهرطقة كان إثباتها يكاد يكون مستحيلا دون الحصول على إعتراف، صار التعذيب هو الوسيلة المتبعة لإنتزاع إعتراف المتهم. كذلك شملت حملة الكنيسة الكاثوليكية ممارسة حرق الساحرات الشهيرة (Witchburning) والتي شملت حرق الاف النساء.وكانت تستخدم كعقوبة عادة بعد تعريضهن لمختلف أنواع التعذيب أثناء فترة التحقيق، بغرض الحصول على إعتراف بممارسة السحر. ويلاحظ هنا ان اكثر ممارسات التعذيب وحشية وقسوة قد واجهها ضحايا أبرياء،ليس بسبب جرائم ارتكبوها ولكن بسبب الأراء والمعتقدات التي يحملونها في ضمائرهم.
من القرن الثالث عشر وحتى القرن الثامن عشر كان التعذيب جزءا من الإجراءات الجنائية العادية للكنيسة اللاتينية وأغلب الدول الأوروبية. كذلك تم تقنين التعذيب وصار هناك نظام (Code of Practice) تتم إجراءات التعذيب وفقا له. نقرأ من تلك القواعد: "يجب الا يكون التعذيب وحشيا والا يؤدي الى الموت او العاهة المستديمة، ويجب ان يكون من النوع ((العادي))، يجب ان يتم في حضور شخص ذي خبرة طبية وفي كاتب يدون الإجراءات في محضر رسمي ((Langbein, Torture and the Law of Proof, 1977)). الملاحظ في التجربة الأوربية أن أغلب ممارسات التعذيب كانت توظف بغرض الحصول على إعتراف. ويرجع كثير من المحليين والكتاب ذلك الى سبب ان قوانين الإثبات الكنسية-الرومانية كانت تحصر مفهوم البينة في شهادة شاهدي عيان او الإقرار (قارن نفس القاعدة في الفقه الإسلامي). لذا وفي حالة عدم توفر شهود عيان يكون الوسيلة الوحيدة المتاحة هي الإقرار ولذلك كان يتم إستخدام التعذيب للحصول عليه. بالمقارنة فإن قبول القانون الإنجليزي من وقت مبكر للبينات الظرفية كطريق للإثبات أدى للتقليل من الإعتماد على التعذيب في إنجلترا مقارنة بدول مثل أسبانيا وفرنسا (The Oxford History of the Prison: The Practice of Punishment in Western Society, 1995 Oxford). سبب اخر هو شيوع إستخدام العقوبات الجسدية والإعدام في ذلك الوقت. لذا فان ظهور عقوبات جديدة كالسجن والأعمال الشاقة لاحقا ادى التقليل من الإعتماد على العقوبات الجسدية وخاصة الإعدام. من جهة أخرى يمكن إعتبار ظهور عقوبات بديلة غير جسدية كالسجن بات يشجع بعض المتهمين على الإعتراف طواعية دون حاجة للتعذيب. شيء أخر وهو ان التداخل بين حالات التعذيب بغرض الحصول على إعتراف والتعذيب كعقوبة (مثل ممارسة الكنيسة الكاثوليكية حرق الساحرات) يعود الى ان أوروباء القرون الوسطى لم يكن قد استقر فيها بعد مبدأ ان المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وانه لايجوز بالتالي أن توقع عليه عقوبة إلا بعد ثبوت إدانته وفقا للقانون.لذلك كانت مجرد الشبهة كافية لتعذيب المتهم كعقوبة تصل في حالات كثيرة الى الموت. في هذا الصدد، وخارج التجربة الأروبية، فإن أكثر العقوبات قسوة ووحشية التي صادفتها في بحثي في تاريخ التعذيب هي عقوبة الموت تقطيعا لألف قطعة (Death by a thousand cuts) التي كان معمولا بها في الإمبراطورية الصينية القديمة من القرن العاشر وحتى إلغاءها في عام 1905م (Timothy Brook & Others, Death by a Thousand Cuts,2008, Harvard UP).
التعذيب في الإسلام
خلافا لما كان سائدا في أروبا القرون الوسطى، فإن الراجح في الفقه الإسلامي إنه لايقبل الإقرار غير الطوعي الذي يتم الحصول عن طريق الإكراه. ترد على ذلك إستثناءات تمثل اراء فقهية أقلوية تجيز إستخدام الإكراه المادي والمعنوي للحصول على الإعتراف، او تجيز قبول الإعتراف المتحصل عليه بهذه الطريقة. ومن ذلك رأي إبن تيمية بجواز ضرب اللصوص لإستخراج الأموال منهم (السياسة الشرعية ص 58). أو قول الماوردي بجواز الضرب في حال قوة التهمة. فيما يتعلق بإستخدام التعذيب لأغراض سياسية أخرى غير الحصول على الإقرارات، نجد أيضا ان الراجح فقهيا هو أن الإسلام قد نهى نظريا عن التعذيب والمثلة.
لكن الجدير بالدراسة والتأمل ان هذا الحظر النظري للتعذيب في الإسلام لم يمنع الحكام المسلمين من ممارسة التعذيب عمليا على أرض الواقع. وبالنسبة لأغراض إستخدام التعذيب عند المسلمين الأوائل، نجد بالمقارنة وبينما كان استخدام التعذيب كان يتم في أروبا القرون الوسطى بشكل رئيسي لأغراض الحصول على إعتراف، فإن إستخدامه إسلاميا كان يتم غالبا لأغراض سياسية، بهدف إرهاب المخالفين السياسين ومنعهم من معارضة السلطة وتثبيت سطوة الحكم المطلق (وهو النهج الذي سار عليه أغلب حكام المسلمين الي اليوم). كذلك إستخدم التعذيب لغرض اخر وهو الجباية وذلك لإجبار الناس على دفع الجزية والخراج. وكان أول الولاة الذين استخدموا التعذيب كسياسة ممنهجة زياد بن ابيه في عهد معاوية. ويشير هادي العلوي في كتابه عن تاريخ التعذيب في الإسلام الى ان زياد هو أول من إخترع العديد من التدابير القمعية كحظر التجول والقتل على الشبهة وقتل النساء الذي لم تكن تألفه العرب، وقطع اللسان. واورد الطبري ان وكيل زياد على البصرة الصحابي سمرة بن جندب قام بقتل 8 ألف من سكانها على الشبهة. ثم جاء الحجاج بن يوسف الثقفي الذي استهل عهده بخطبته المشهورة: " اني ارى رؤسا قد اينعت وحان قطافها…" فطور من إرهاب زياد ووسعه الى حالة الإرهاب الشامل واليومي. ويقدر بعض المؤرخين عدد ضحايا الحجاج بن يوسف من القتلى ب 120000 قتيل خلال سنوات حكمه العشرين. والمعروف ان الحجاج بنى سجن الديماس المشهور والذي كان بدون سقوف تقي المساجين الحر او البرد او المطر. وعند وفاته وجد في هذا السجن 10 الف سجين. وتوسع الحجاج أيضا في حالات القتل على الشبهة لتشمل الالاف. والحجاج رمز بارز في سلسلة الساديين الكبار من لدن نيرون الى هتلر. ويورد العلوي قصة طريفة لأحد الفارين من بطش الحجاج حيث يقول: "هربت من الحجاج حتى مررت بقرية فرأيت كلبا نائما في ظل حب (زير ماء) فقلت في نفسي: ليتني كنت كلبا لكنت مستريحا من خوف الحجاج، ومررت. ثم عدت من ساعتي فوجدت الكلب مقتولا فسألت عنه فقيل: جاء أمر من الحجاج بقتل الكلاب".ويشير الطبري الى إستخدام الحرق في ولاية هشام بن عبدالملك مثل حرق الداعية الشيعي المغيرة بن سعيد العجلي. وفي عهد العباسين يروي الطبري ان عدد الذين قتلهم أبومسلم الخراساني بلغ 600,000 قتيل. وكانت التعليمات الصادرة كتابة لأبي مسلم الخراساني هي ان يقتل أي غلام يصل طوله الى خمسة أشبار إذا شك في ولائه. ويورد أبوالفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبين ان المنصور قتل بعض العلويين بدفنهم أحياء. وطور هارون الرشيد عقوبة قطع الأطراف لتصل الى تقطيع الضحية الى أربعة عشر قطعة مع إضافة شرط إستخدام سكين غير حادة. واضاف المعتضد بالله إختراع سلخ الجلود كما تم مع أحد قادة الخوارج ويدعى محمد بن عبادة الذي سلخ كما تسلخ الشاة (إبن الأثير، الكامل في التاريخ 7\151). ثم صار السلخ عادة مارسها أيضا الفاطميون والأتراك. كذلك مارس المسلمون التعذيب عن طريق الإحراق مثل إحراق المغيرة بن سعيد المشار اليه. وكان أول من أمر بذلك كما اورد الطبري (تاريخ الطبري ج2، ص 488-491) الخليفة أبوبكر الصديق، حيث اصدر أوامر بالإحراق في حروب الردة. ومن المشاهير الذين تم إعدامهم حرقا الكاتب عبدالله بن المقفع في عهد المنصور. ويورد العلوي ان العباسيين طوروا هذا الفن الى شي الضحايا فوق نار هادئة، كما حدث لمحمد بن الحسن المعروف بشيلمة، أحد قادة ثورة الزنج في البصرة، في عهد المعتضد بالله. ولم تقتصر مواهب المعتضد على ذلك، حيث يسرد الطبري كيف أمر بتعذيب إبن ابي الفوارس أحد قادة القرامطة: "قلعت أضراسه اولا. ثم خلعت أحدى يديه بشدها ببكرة متحركة. قطعت يداه ورجلاه في الصباح وقطع رأسه وصلب في الجانب الشرقي …الخ". ومن الطرائف التي يذكرها الطبري ان وزير الواثق محمد بن عبد الملك الزيات اخترع اله للتعذيب تسمى تنور الزيات لتعذيب العمال المختلسين. ووصفها شبيه بالكرسي ذي الأشواك الحديدية الذي كان يستخدمه الأوروبيون الذي اشرت اليه. الطريف ان إبن الزيات عذب بواسطة آلته التي إخترعها عندما إختلف معه الخليفة. ويورد الطبري الوصف التالي لتعذيبه: "حبس أولا ثم سوهر (منع من النوم) فوكل به سجان ينخسه بمسلة كلما اراد ان يغفو. ثم ترك فنام…… ثم اعيد الى المساهرة أياما نقل بعدها الى التنور (يقصد الآلة التي اخترعها بنفسه) حيث مكث أياما كلما اراد ان يغفو سقط على مسمار فانتبه…((تاريخ الطبري 7\340))". ومن طرق التعذيب التي ذكرها هادي العلوي في كتابه: نفخ النمل في بطن الضحية، التعطيش، التبريد بعد الجلد، تكسير العظام بالعيدان الغليظة، قرض اللحم بالمقاريض، إخراج الروح من الدبر (هذه كانت من إبتكارات المعتضد وكان يدفن الضحية ورأسه في أسفل الحفرة ويبقى نصفه الأسفل خارج التراب، ثم يداس على التراب ظنا ان الروح ستخرج من دبره بدلا من فمه)، قلع الأظافر، الإغتصاب كما في واقعة الإغتصاب الجماعي لنساء المدينة المنورة التي أباحها مسلم بن عقبة المري ثلاثة أيام لجنودة بأمر يزيد بن معاوية، فيما عرف بواقعة الحرة. وتشير بعض المصادر الى ان عدد المغتصبات وصل 7000، وذلك من واقع إحصاء الولادات غير الشرعية. بالإضافة لموضوع التعذيب نواجه في الفقه الإسلامي بمشكلة العقوبات البدنية المثيرة للجدل، والتي ما تزال تطبق في بعض البلدان. ويشمل ذلك عقوبات قطع الأطراف والصلب والرجم والجلد، وكذلك المماثلة في القصاص. وهي تعتبر من العقوبات الوحشية او الحاطة من الكرامة الإنسانية حسب المعايير العالمية حقوق الإنسان المعاصرة، ويشملها ذات الحظر الذي يشمل التعذيب.
خلاصة نجد إن ظاهرة التعذيب شكلت سياسة منهجية مارستها السلطة المطلقة منذ ان افرزها التطور الإجتماعي التاريخي. في الحالة الأوربية، أدت التطورات التقدمية إبتداءا من الإصلاح الديني وعصر الأنوار وكذلك ظهور أشكال الدولة الديمقراطية الحديثة الخاضعة لسيادة حكم القانون وإستقلال القضاء وصولا الى سيادة مباديء حقوق الإنسان الى تراجع إرهاب الكنيسة وإرهاب الدولة معا. انتهى هذا التطور بالحظر الشامل للتعذيب وغيره من صنوف المعاملة الوحشية. ترد على ذلك إستثناءت معاصرة مثل حملة التعذيب النازية خاصة إستخدام أفران الغاز. كذلك الإضطهاد والتعذيب ومختلف أشكال المعاملة الوحشية التي كان يتعرض لها السود في الولايات المتحدة لوقت قريب. وكذلك إستخدام التعذيب ومختلف أشكال المعاملة الوحشية والحاطة من الكرامة من قبل الدول الأوربية المستعمرة (بكسر الميم) ضد سكان المستعمرات. بالمقارنة فإن توظيف التعذيب إستمر كسياسة منهجية في معظم الدول ذات الغالبية المسلمة الى يومنا. تلك الدول التي لاتعترف أغلب أنظمتها بكرامة او حقوق البشر الأساسية، وإنما حافظت بحرص، طوال تاريخها، على دستور الحجاج بن يوسف الذي يعطي الحاكم المطلق ليس فقط حق تعذيب مواطنيه وإنما إبادتهم بالالاف (كما يحدث الآن في السودان وسوريا) من أجل ن يبقى وجه الحاكم وحده لاشريك له. إسلاميا كذلك، وبالإضافة الى إرهاب الدولة، نجد إرهاب الجماعات المتطرفة من لدن الحشاشين الى داعش والتي تتبنى رأي الأقلية المتطرفة من الفقهاء الذي اشرنا اليه، والذي يجوز إستخدام التعذيب ويمجد العنف. إن فهم هذه الخلفيات التاريخية يعيننا على فهم الجذور التاريخية لظاهرة التعذيب المستمرة تاريخيا دون إنقطاع والمنتشرة إسلاميا. مثلما تعين دراسة التجربة الأوروبية على فهم كيف استطاعت أوربا ان تنجز القطيعة التامة مع تاريخ التعذيب ومحاكم التفتيش.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.