الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كمال الجزولي : الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام
نشر في حريات يوم 06 - 07 - 2015


الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [1]
مَائَةُ عامٍ مِنْ عُزْلَةِ الدُّرُوسِ المُهْدَرَة
(مَبْحَثٌ فِي قِيمَةِ الاعْتِبَارِ التَّارِيخِي)
كمال الجزولي
………………………………..
الإهداء:
"إلى رُوحِ جَدِّي لأمِّي مُحَمَّد وَدْ عَبْدَ الكَريمْ الأَنصَاري الذي عَاشَ لأكثَرَ مِن نِصفِ قَرْنٍ بَعْدَ (كَرَرِى)، راكِلاً الدُّنيا بِمَا فِيهَا، ومُتَرَقِّباً القِيامَةَ، فِي كُلِّ مَرَّةٍ، يَومَ الجُّمُعَةِ القَادِمَةْ"!
………………………………
"الخَيرُ فى ما اختارَ الله .. إلاَّ نصرَة مَا فِي"!
- الأمير إبراهيم الخليل في اجتماع قادة التَّشكيلات عشيَّة كرري -
"كانوا أشجع من مشى على الأرض، دُمِّروا ولم يُقهروا بقوَّة الآلة"!
تشرشل في دفتر المراسل الحربي
"عَشَرةُ ألفِ شَهيدٍ وسِتَّةُ عَشرِ ألف جَريح تَنَاثَرُوا، شَظَايَا مِن اللَّحْمِ والعَظْمِ المُفتَّتِ، عَلى طَريقِ الصَّلَفِ الزَّاحِفِ مِن وَرَاءِ البِحَارِ باسْمِ المَدَنِيَّة والإِنسَانِيَّةِ، بَلْ وبِاسْمِ اللهِ نَفْسِهِ"!
………………………….
(1)
لست من أدعياء النُّبوءات لأزعم أنني، عندما فرغت من الصِّياغة الأولى لهذا المبحث، فجر الأحد 16 أغسطس 1998م، بين يدى مئويَّة كرري (2 سبتمبر 1898م 2 سبتمبر 1998م)، كنت قد نجَّمت، ورميت الودع، وقرأت الطالع، واستيقنت من أن عدواناً سوف يقع بصواريخ "الكروز" على "مصنع الشِّفاء" بالخرطوم بحري، في تمام السَّابعة والنصف من مساء الخميس 20 أغسطس 1998م! بل حتَّى الرَّعد والقصف تشابها علىَّ، للوهلة الأولى، فلم أميِّز بين هزيم وهزيم، ولا بلغت احتمالاتي الغافلة أبعد من هطول المطر في ساعة متأخِّرة من تلك الليلة! غير أن دوىَّ القصف ما لبث أن تميَّز وسط رعود لاهثة الإرزام، وتحت سماء متلاصفة الوميض. أما الكهرباء التي تبكيها، أصلاً، لمسة الرِّيشة، فقد تذبذب تيَّارها، هنيهة، ثمَّ ذوى، هنيهة، ثمَّ انقطع. ولمَّا عاد كانت كلُّ أجهزة الإعلام العالميَّة تبثُّ، بجميع اللغات الحيَّة، أن الرَّئيس الأمريكي بيلْ كلنتون قطع، فجأة، عطلته، وطار من منتجعه الرِّيفي النَّاعم إلى بيته الأبيض المتجهِّم، ليعلن، على رؤوس الأشهاد، أنه قد فرغ، للتوِّ، من تدمير مصنع لإنتاج الأسلحة الكيماويَّة في السُّودان، فتأمَّل!
دهشت، لا للخبر في حدِّ ذاته، فتلك أمور فقدت قدرتها على الإدهاش في عالم اختفى المكافئ لكفَّته الثَّقيلة، فاختلَّ ميزانه، وخيَّم عليه ظلام القطبيَّة الأحاديَّة، وإنَّما دهشت للتَّوقيت. فقد بدا لي العدوان احتفالاً آخر بالذكرى المئويَّة لكرري، لكن .. على الطريقة الإستعماريَّة! ولئن كانت التَّذكرة واستدعاء الدُّروس والعِبَر هي بعض أغراض الاحتفالات عموماً، فإن غرض ذلك الاحتفال كان تذكيرنا، على وجه الخصوص، بأن الشَّجاعة والجُّبن شىء، وأن النَّصر والهزيمة شىء آخر! وأننا نزحف، بهذا المعنى، لا نزال، في المربع الأوَّل لهزيمتنا، لم ننس شيئاً، ولم نتعلم شيئاً! وأنه لا يغيِّر من هذه الحقيقة، قليلاً أو كثيراً، كون تلك الهزيمة نفسها موشَّاة، للعجب، بآيات الشَّجاعة والإقدام! فلو أن الشَّجاعة وحدها تضمن النَّصر لكان ذلك قد تحقَّق، وأيْمُ الله، لأجدادنا الأماجد في كرري، ولما كان الآخر يرتع، ما يزال، في بحبوحة نصره المؤزَّر المدعوم بتفوقه الحضاري، دونما حاجة، البتَّة، لمثل هذه القيم، رغم اعترافه، بل وإشادته أحياناً بها إشادَتك برسومات الكهوف، واصطناع الفأس من الحجر، واستيلاد النَّار بفرك غصنين! فقد تصرَّمت أزمان مذ تعلم أن يركلها، ويستعيض عنها بثمار العلم والتكنولوجيا. ولعلَّ في ذلك شىء من المعنى الذي ذهب إليه الجنرال شوارسكوف، على أيَّام انشغاله بتحشيد التكنولوجيا العسكريَّة الحديثة عشيَّة "عاصفة الصحراء"، بعد زهاء القرن من كرري، عندما سأله الصحفيون عمَّا ستفعله قوَّاته عند الالتحام ب "النشامى"، وهو الوصف الذي راج، وقتها، في الدَّلالة على "رجولة" الجُّندي العراقي، فأجاب متسائلاً بدوره: "وما حاجتنا إلى ذلك إذا كان باستطاعة أيَّة مجموعة من المجنَّدين المثليين gays، أو المجنَّدات، حسم هذه الحرب لصالحنا، طالما كانوا يحسنون، أو كُنَّ يحسنَّ استخدام أجهزة التَّحكم النَّائي remote control والضغط على الأزرار"؟! ويا لها من "حقيقة" فاجعة، ولكنها "الحقيقة" على كلِّ حال!
ذلك ما خطر لي خلال الدَّقائق القصار اللاتي أعقبن الحدث، والإعلان الرِّئاسي الأمريكي عنه، مثلما خطر لي أن نفس هذا المبحث الذي كان جاهزاً، أصلاً، للنَّشر، قبل أيَّام من ذلك، ربَّما يصبح صالحاً، أيضاً، للإحاطة، على نحو ما، بالمناسبة الجَّديدة، في ما لو أجريت عليه تعديلات طفيفة لا تقلقل فكرته الأساسيَّة قيد أنملة، بل، على العكس، تكثِّفها، ففعلت. ولكنني آثرت إرجاء النَّشر ريثما يهدأ غليان المشاعر، فللصَّدمة والغضب وقت، وللتَّفكير والتَّدبير وقت!
(2)
وإذن، ومع أن النَّشر الحالي يجئ في مناسبة أخرى، هي الذِّكرى المائة والثَّلاثين لوفاة الإمام الثَّائر محمَّد احمد المهدي، متأثِّراً بحمَّى التايفويد بأم درمان، في الرَّابعة من بعد ظهر الإثنين الثَّاني والعشرين من يونيو 1885م، الموافق التاسع من رمضان 1302ه، إلا أن المبحث نفسه كان مكرَّساً، في أصله، للاحتفال بالذكرى المئويَّة لاستشهاد عشرة آلاف رجل، وجرح ستَّة عشر ألفاً آخرين، خرجوا، ضمن أربعين ألفاً، من بوَّابة أم درمان الغربيَّة، ثمَّ انعطفوا نواحي شمالها الشَّرقي، ليؤدُّوا صلاتهم الأخيرة ذات فجر ملبَّد بغمام خريف بعيد ما تزوَّدوا بغير "الحامض من رغوته"، كما في عبارة الشاعر محمد عبد الحي!
ستَّة وعشرون ألف صدر لم تنقصها البسالة أو الاستعداد للفداء والتَّضحية، لكنها أثقلت بهموم جبهة داخليَّة سرى إلى نخاعها الشَّوكي سوس الاستبداد بالسُّلطة، وصدَّعها، لحدِّ التآكل، قهر المظالم الاجتماعيَّة والجِّهويَّة تُباعد بين "أولاد العرب" و"أولاد البلد".
ستة وعشرون ألف عقل لم يَعُزْها الإيمان ولا الذَّكاء، غير أن العزلة الخانقة فرضت عليها ألا تبلغ من عِلم السِّلاح أكثر من بقايا مدافع هكس الجَّبليَّة قصيرة المدى، وبنادقه البطيئة ماركة "ريمنتون"، و"أبو صرة"، و"أبو روحين"، و"بيادة"، و"أورشليك"، و"خشخان"، وألا يطوف عليها ولو محض طائف من رشاشات "المكسيم"، أو دانات "المنثار SHARPHEL"، أو شظايا "الخراطيش CASE SHOTS"، أو بوارج الأساطيل المدرَّعة (ع زلفو؛ كرري، ص 359 360 412).
عشرة آلاف شهيد وستة عشر ألف جريح تدافعوا، كما الضَّواري الكواسر، وملء الصدور نشيد واحد ما أكثر ما دوَّى، في ذاكرة الثَّورة، عبر الوديان، والبراري، والصحاري، والجِّبال، والسهول، والغابات:
"في شان الله .. في شان الله"!
لكن قليلاً ما تهيَّأ له، في ذلك النهار الأغبر، التحام ينقع الغلة أو يجلو الشَّجاعة. فأذرع المدفعيَّة الطويلة، مفخرة العدوِّ التي لم تكن قد أتيحت لأولئك البواسل أدنى معرفة بها، ظلت، وعلى مدى ساعات أربع هنَّ عمر الموقعة، تحصد الصُّفوف المتراصَّة "لعظمة الرجولة الصامدة" (Churchill, W.S.; The River War, An Account of the Reconquest of the Sudan, London, 1949)، الصفَّ وراء الصفِّ، تماماً مثل إعمالك ممحاة على أسطر بقلم الرَّصاص فوق صفحة بيضاء، بينما الحناجر لا ينقطع صداحها بنداء الفرسان النَّبيل:
"سِدُّو الفرَقة .. سِدّو الفرَقة"!
عشرة آلاف شهيد وستة عشر ألف جريح تناثروا، شظايا من اللحم والعظم المفتَّت، على طريق الصَّلف الزَّاحف من وراء البحار باسم المدنيَّة والإنسانيَّة، بل وباسم الله نفسه! وسيِّدي الخليفة، في مثار النَّقع ذاك، منتصب على ظهر جواده الأشهب، فلكأنه "في عين الرَّدى وهو نائم"، لا ينفكُّ يسأل أمراءه البواسل فرداً فرداً:
"أوصيت بعدك منو في إمارة الرَّاية"؟
فتأتيه، على الفور، الإجابة الواثقة المطمئنَّة من فوق كلِّ دوىٍّ وقعقعة:
"سيدى خليفة المهدى مخيَّر، وإن كان ولا بُدْ ففلان ود فلان"!
لقد "كانوا أشجع من مشى على الأرض، دُمِّروا ولم يُقهروا بقوَّة الآلة"، هكذا دوَّن تشرشل في دفتر المراسل الحربي (Ibid). وكتب ستيفنس: "لقد بلغ رجالنا درجة الكمال، ولكنهم هم فاقوا حدَّ الكمال. كان ذلك أعظم وأشجع جيش خاض حرباً ضدَّنا .. حملة بنادقهم يحيط بهم الموت والفناء من كلِّ جهة، وهم يجاهدون عبثاً لإطلاق ذخيرتهم القديمة الرَّديئة عديمة الأثر في وجه أقوى وأحدث أسلحة التَّدمير" (مع كتشنر إلى الخرطوم، ص 211 ضمن: زلفو؛ كرري). وكتب فيليب وارنر، بعد زهاء السَّبعين سنة من كرري: "ربما وجدنا، إذا نقَّبنا في تاريخ الإنسان، جماعة ماثلت في شجاعتها الأنصار، ولكننا، قطعاً، لن نجد، مهما نقَّبنا، جماعة فاقتهم شجاعة" (قيام وسقوط إمبراطورية أفريقية، ص 9 ضمن المصدر). لقد كانت تلك حقاً "أفضل خصال البشر عندما يتجرَّدون .. في أعنف اختبار .. من كل ضعف وخور" (زلفو؛ كرري، ص 495). حتى عبد الرحمن ود احمد، شقيق الأميرين محمود وإبراهيم الخليل، مضى يشقُّ طريقه بثبات إلى الجَّبهة الأماميَّة، متلمِّساً لنفسه، وسط كلِّ ذلك الموت المصبوب على الرُّؤوس، مكاناً وسط الصَّخر بعصاه التي لا تفارقه، رغم معارضة الأمير يعقوب "جراب الراى" الذى كان يشفق على ذلك الفارس الأسطوري، كونه كان .. ضريراً! (نفسه، ص 418).
(3)
ومع ذلك، ما الذي كان يمكن أن تحقِّق كلُّ تلك الأرتال من الشَّجاعة، والبسالة، والفداء، والتَّضحية، دون منٍّ ولا أذى، مع جبهة داخليَّة أريد لها، من جهة، أن تعيش، بلا انقطاع، حياة الثُّكنة العسكريَّة القائمة في روح الطاعة، والانضباط، والاستعداد الدَّائم لخوض حروب تكاد لا تنقضي، بينما أعماقها تعلكها، من جهة أخرى، وتسرى بالوهن المميت في أوصالها، سياسات الارتداد عن الإقرار القديم بالتعدُّد، وحِدَّة الفرز الطبقي، والاستقطاب الجِّهوي، واستبداد النُّخبة الأوتوقراطيَّة بالأمر دون سائر الناس، الشىء الذي مهَّد لمختلف صور المظالم، وممارسات التَّقريب والإبعاد، والتَّناحر بين القادة المدنيين والعسكريين على السُّلطة والثَّروة، بكلِّ السُّبل والوسائل، المشروع منها وغير المشروع، مثلما كانت تهبط بقدراتها، من جهة ثالثة، عزلة "السِّتار الحديدي" عن عالمها المحيط، باستراتيجيَّاته العظمى، وقوانين حراكه التاريخي، وطبوغرافيا تناقضاته الرَّئيسة، قبل أن تكتب عليها تصاريف العصر الكولونيالي، أن تجابه، في نهاية ذلك المشهد الدراماتيكي، قمة تكنولوجيا الحرب وتكتيكاتها، في خواتيم القرن التاسع عشر، دون أن تكون قد سمعت، مجرد السَّمع، بشىء منها، بينما أبطالها ".. يجاهدون عبثاً لإطلاق ذخيرتهم القديمة الرَّديئة عديمة الأثر"؟!
ما الذي كان يمكن أن تحقِّق كلُّ تلك الشَّجاعة سوى أن تثبُت ، ألا تبهرج ، ألا تسوخ مفاصلها في التراب، بل وأن تقذف بنفسها في لجج دواس مأساويٍّ خاسر، حين الموت أدنى من شِراك النَّعل وأقرب من حبل الوريد، وأن تردِّد، من أعماق بطولتها الإنسانيَّة المُهدَرة، مع الفتى الرِّزيقي الذي أبرأته عبقرية المكان والزَّمان الأمدرمانيَّين من كلِّ وساوس العصبيَّة الجِّهويَّة، القائد الفذِّ لجيش "الكارا"، سيِّدي الأمير الشَّهيد إبراهيم الخليل:
"الخير في ما اختار الله، المهديَّة مهديَّتكم إلا نِحنا قدَّنا بنسدُّو .. المهديَّة مهديَّتكم إلا نصرة ما في"! (نفسه ، ص 263 410 411).
فإذا بتلك الصيحة تتماوج، بين غيوم يأسها الخانق وحُرقة غبينتها الغائرة:
"نصرة ما في .. نصرة ما في .. نص .."!
من "دهم" إلى "أبو سنط"، ومن "سركاب" إلى "أبو زريبة"، تترجَّع أصداؤها المرعبة من نواحي "الإزيرقاب" و"أم قرقور" و"راحة القلوب":
"نصرة ما في .. ما .. في .. ما .."!
لتخفق بها أجنحة الغربان تنذر بالاستباحة السَّاحقة، واليتم الماحق، والترمُّل الثقيل، ونعيقها، من على البعد، يستحث نساء المدينة المكلومة، وصبيتها، بما يستحثهم عليه مشهد الثُّقب الفاغر في سنام "القبَّة": أن اخرجوا أجمعين، أخرجوا .. أخرجوا، موشَّحين بتراب الكارثة، وبسخامها، ورمادها، كأكلح ما يكون احتفال عبوس بمقدم "سردار الشُّؤم" فى وضح نهار الثَّاني من سبتمبر 1898م؟!
(4)
ما من شكٍّ في أن فكرة "المهدي المنتظر" قد وفَّرت، خلال النصف الأوَّل من ثمانينات القرن التاسع عشر، أيديولوجيَّة النُّهوض الثَّوري اللازمة لعموم أهل السُّودان في وجه مظالم الحكم التركي. فهي، وإن لم تقض على الفروقات الاجتماعيَّة التي بقيت شاخصة في أفق الثَّورة، إلا أنَّها استطاعت أن تصوغ، بكفاءة نادرة، في مرآة الممكن التَّاريخي، صرخة الولادة الأولى للوعي القومي في مرحلة تكوينه الجَّنيني (م س القدال؛ تاريخ السُّودان الحديث 1820 – 1955م، ص 164). ولأنَّ بمقدور الأيديولوجيَّة، حين تتغلغل، عميقاً، في العقول والوجدانات، أن تحوِّل الجَّماهير إلى قوَّة ماديَّة لا تُقهر، فإن أكثر شعوب السُّودان قد تداعت، بمختلف لغاتها ولهجاتها، لدعوة "المهديَّة الثَّورة"، من كلِّ فجٍّ عميق، لا لتلغى تعدُّد كياناتها ".. فتلك النُّظم جزء من واقع لا يمكن إلغاؤه بالتعليمات" (الصَّادق المهدي؛ يسألونك عن المهديَّة، ص 236)، وإنَّما لتتجاوز، لأوَّل مرَّة، وإلى حدٍّ كبير، تنافر العنصرين المستعرب وغير المستعرب، ولتنتظم ، موحَّدة في تنوُّعها، ومتنوِّعة في وحدتها، خلف قيادة سيِّدي الإمام الفذَّة، وتحت راياته المتعدِّدة، صوب هدف واحد مشترك هو الإجهاز على الحكم الأجنبي، في تحالف عريض استطاع أن يستوعب، خلال مرحلة الثَّورة، كل أشكال التعدُّد الاجتماعي، والعرقي، والجِّهوي، والقَبَلي، والدِّيني، واللغوي، والثَّقافي، وأن يهيِّئ لعبقريَّات أبناء الشَّعب ".. الفقراء الذين لا يُعبأ بهم"، كما كان الإمام الثائر يصفهم، طريق التَّفتُّح في كلِّ مجالات الفكر العسكري، والإدارة السِّياسيَّة، والاقتصاديَّة، والماليَّة، والتَّعليميَّة، والقضائيَّة، وغيرها، في مسيرة واحدة قاصدة، تكاتف فيها التَّعايشي والمحسي، الحمري والرُّباطابي، المسيري والبديري، الدِّينكاوي والدُّنقلاوي، النُّوباوي والبجاوي، الكاهلي والعبَّادي، وغيرهم، وغيرهم. حتى القبائل التي تخلفت سروجها يوم الزَّحف لم تعدم بطوناً، أو أفخاذاً، أو حتَّى أفراداً من ذوى البأس انخرطوا في عصبة التعدُّد السُّوداني تلك، والتي راحت طاقاتها تتفجَّر، وتتدافع، كما الحمم البركانيَّة، وسط دوىِّ "النِّحاس" الهادر، وصفير "الأمباية" الصَّدَّاح، باتِّجاه "القمة المنطقيَّة لمواقع النموِّ في المجتمع" (نفسه؛ ص 236 237)، من معركة "أبا"، وتشكيل مجتمع "قدير"، إلى تحرير الخرطوم، وتأسيس أم درمان عاصمة للسُّودان الطالع بأسره، عنوة واقتداراً، من سخام القهر التُّركي، تاريخئذٍ، إلى طلاقة "الرَّايات" الزَّاهيات، و"التَّهاليل" الحُرَّة، و"الجُّبب" المرقَّعة حدائق أمل، وتفاؤل، واستبشار، وألوان عزَّة، وكرامة، واستقلال، فكيف استحال كلُّ ذلك إلى رماد يوم كرري؟!
(نواصل)
***


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.