بلينكن عن التدقيق في مزاعم انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان: سترون النتائج قريبا    عام على الحرب فى السودان.. لا غالب ولا مغلوب    يمضي بخطوات واثقة في البناء..كواسي أبياه يعمل بإجتهاد لبناء منتخبين على مستوى عال    اللواء 43مشاة باروما يكرم المتفوقين بشهادة الاساس بالمحلية    السيارات الكهربائية.. والتنافس القادم!    واشنطن توافق على سحب قواتها من النيجر    الخطوة التالية    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كمال الجزولى : وعلى الأقباط السَّلام (3)
نشر في حريات يوم 26 - 08 - 2015


وعلى الأقباط السَّلام [3]
كمال الجزولي
بَيْنَ غطاسِ حَنَّا وبَرَكاتِ وَدَّ الأرباب
(مَبْحَثٌ حَوْلَ دَوْرِ المَسِيحِيَّةِ السُّودانيَّة فِي دَعْمِ الوُحْدَة)
الإهداء:
إلى روح صديقي سمير جرجس، شيخ قبيلة الأقباط السُّودانيِّين، بمناسبة الذِّكرى العَاشِرةِ لرَحيلِهِ، فقد ظلَّ ينافِحُ بالإظفر والنَّاب، عن كلِّ ما يجمع ويوحِّد، جَاهَدَ الجِّهادَ
الحَسَنَ، أكمَلَ السَّعيَ، حفِظَ الإيمانَ، وأَخيراً .. وُضِعَ له إكليلُ البِرِّ! تم الاكتتاب لإكمال مئذنة جامع أم درمان الكبير بفضل قصيدة الشَّاعر المسيحي صالح بطرس في الاحتفال برأس السَّنة الهجريَّة!
بإشراف الأستاذ سعد تادرس أنشئت إدارة بوزارة التَّربية والتَّعليم لتضمين الدِّين الإسلامي للتلاميذ المسلمين في المدارس المسيحيَّة والعكس صحيح!
ما تزال الذاكرة الأمدرمانيَّة تختزن "خلوة بولس" كملمح بليغ للتَّسامح الدِّيني وأثر شديد الإفصاح عن عبقريَّة المكان لم يستنكف الشيخ عوض عمر من العمل بمدرسة الكنيسة الأرثوذكسيَّة ولا الشيخ احمد بمدرسة الكنيسة الأنجيليكانيَّة ولا ابن الشيخ قريب الله مديراً لمدارس الأقباط!
***
نواصل من حيث أشرنا في الحلقة الماضية لمشاركة الشَّاعر القبطي المسيحي صالح بطرس في الاحتفال الذي أقيم بنادي الخرِّيجين بأم درمان بمناسبة العام الهجري الجَّديد 1341 ه، وهي من المناسبات التي درج الخرِّيجون، مسلمين ومسيحيِّين، على استغلالها لإشعال الحماس الشَّعبي ضد الاستعمار. اعتلى بطرس المنبر أمام حشد الضُّيوف الذين كان في مقدمتهم الشَّيخ إسماعيل الأزهري، مفتي الدِّيار، والشَّيخ أبو القاسم أحمد هاشم، شيخ العلماء، واستهل قصيدته مخاطباً "الهلال" بكل رموزيته الإسلاميَّة:
يا من رأى طوق الهلال وقد بدا
يُهدى لنا عاماً أغرَّ مُشهَّرا
ثم عرَّج على ذكر الأسلاف يمجِّدهم، ويحرِّض الشَّعب مستثيراً لوطنيَّته، ومستفزَّاً لنخوته:
ذهبوا وقد أدُّوا الأمانة حقها
ونما إليكم ذكرهم متعطِّرا
إنَّا قُبرنا بعدهم في هجعة
شتَّان ما بين الثُّريا والثَّرى
يا عام إنا آملوك لخيرنا
أملاً ينيل الحظَّ فيك موفَّرا
(المصدر ، ص 75 76)
ويستمرُّ راوية حسن نجيلة، في كتابه "ملامح .."، واصفاً كيف أن المزاج الجَّماهيري العام، القائم على التَّسامح الدِّيني والإلفة الوطنيَّة، جعل مشايخ الإسلام يحتضنون ويوقِّرون الفتى صالح بطرس الذي ".. يزايل المنصَّة ونحن نتبعه بالتصفيق والهتاف ، ويجلسه كبار العلماء بينهم فى إجلال وإكبار" (المصدر ، ص 76). ويضيف الراوية واقعة إسلامية أخرى كان صالح بطرس أيضاً بطلها: ".. فالذين عاشوا فى ذلك العهد يذكرون أن مسجد أم درمان الكبير .. ظل بناؤه ناقصاً لفترة طويلة ، وكانت التبرعات تجبى له فى كثير من البطء .. وأثار هذا الموقف المشين شاعرنا .. فبعث إلى "الحضارة"(1) بقصيدة ينعى فيها على المسلمين تباطؤهم فى إكمال مسجدهم. وقد كان لهذه القصيدة أثر كبير فى إزكاء حماس المسلمين لإكمال بناء المسجد:
"يا مسجداً مطلت بنوه بعهده
حتى غدا وهو الحسير المعدم
بدأوك جوداً بالصَّنيع وأحجموا
ما كان أولى أنَّ ذاك يُتمَّم
حتى يبلغ الأبيات:
أمنارة الدِّين الحنيف تحيَّة
من شاعر لك قد غدا يترحَّم"(2)
ويختم محدِّث حسن نجيلة روايته متساءلاً: "ترى هل يذكر المصلون في هذا المسجد اليوم أن الفضل في حثِّ المسلمين لإكمال بنائه لشاعر مسيحي" ؟! (المصدر، ص 76 77).
إن تلك المواقف وغيرها لتؤكِّد، حتف أنف أيَّة وقائع أخرى سالبة تسبَّبت فيها تاريخيَّاً تيَّارات الغلوِّ والتَّعصُّب، ومشروعات الاستبداد السُّلطويِّ والدَّولة الثِّيوقراطيَّة، أن الميل إلى "التَّسامح" ظلَّ يمثِّل القانون الأساسي لعلائق المسلمين والمسيحيِّين خلال مختلف فترات تاريخنا الوطني، فلكأنهم يجسدون أبيات أحمد شوقي:
نعلى تعاليم المسيح لأجلهم
ويوقِّرون لأجلنا الإسلاما
الدِّين للدَّيَّان جلَّ جلاله
لو شاء ربُّك وحَّد الأقواما
الواقعة الثَّالثة من مطالع حقبة الاستقلال:
وتتعلق بإدراج مادَّة الدِّين الإسلامي للتَّلاميذ المسلمين ضمن مناهج مدارس كمبوني، ومدارس الأقباط، والمدرسة التِّجاريَّة الأمريكيَّة "الإنجيليَّة" بأم درمان. ورغم اختلاف الرِّوايات بالنِّسبة لكمبوني، حيث يؤكِّد محمد سعيد محمد الحسن والمرحوم سمير جرجس(3) أن ذلك قد تم بمبادرة من السَّيِّد على الميرغني مع المطران باروني عميد كمبوني الأسبق خلال النِّصف الأوَّل من خمسينات القرن الماضي، على حين يُغلب عبد الله على إبراهيم، بالاستناد إلى على هريمي(4)، أن ذلك قد تمَّ إثر استجابةٍ من إدارة كمبوني عطبرة لمطالبة بهذا الشَّأن من اتحاد الطلاب تحت قيادة الجَّبهة الدِّيموقراطيَّة خلال النِّصف الأوَّل من السِّتينات، إلا أن ما يهمنا هنا، أيَّاً كانت الرِّواية، هو أن مرحلة ما بعد الاستقلال قد شهدت إدراج تعليم الدِّين الإسلامي للتَّلاميذ المسلمين ضمن مناهج المدارس المسيحيَّة، وكذا إدراج مادَّة الدِّين المسيحي للتَّلاميذ المسيحيِّين ضمن المنهج الحكومي، وقد عُهد، آنذاك، إلى سعد سليمان تادرس(5) بتأسيس إدارة خاصَّة لهذا الغرض بوزارة التَّربية والتَّعليم. وربما يكون ثمَّة مغزى خاص للإشارة هنا إلى عدم استنكاف مشايخ كثر، وأبناء طرق وبيوتات صوفيَّة، من العمل بالمدارس المسيحيَّة، كالشيخ عوض عمر الإمام بمدارس الأقباط التَّابعة للكنيسة الأرثوذكسيَّة بأم درمان، والشيخ أحمد بالمدرسة التِّجاريَّة الأمريكيَّة التَّابعة للكنيسة الإنجيليكانيَّة بأم درمان ، ومحمد الهادي بن الشَّيخ قريب الله الذي عمل، فترة من الزَّمن، مديراً لمدارس الأقباط.
ويجدر أن نذكر، هنا، أن ذلك قد شكَّل، على نحو ما، إعادة إنتاج لتجربة "خلوة بولس" التي ما تزال تختزنها الذَّاكرة الأمدرمانيَّة كملمح بليغ للتَّسامح الدِّيني، وأثر شديد الإفصاح عن عبقريَّة المكان. فأسرة بولس(6) القبطية الأرثوذكسية، النازحة من صعيد مصر، استقرت بأم درمان في "حوش بولس" المعروف على تخوم حي بيت المال وحي اب روف، حيث أنشأت "خلوتها" المشهورة ذات المساقين: تعليم الدِّين المسيحي لأبناء المسيحيِّين، والدِّين الإسلامي لأبناء المسلمين، علاوة على تقديم وجبة مجانيَّة لكلِّ التَّلاميذ أثناء اليوم الدِّراسي. ويهمنا، هنا، التَّشديد، بوجه خاص، على أن مسيحيَّة بولس وأسرته لم تحُل يوماً دون إلحاق المسلمين أطفالهم بهذه الخلوة طوعاً، بل وعن محبَّة وتقدير لصنيع أصحابها.
الواقعة الرابعة من خمسينات القرن العشرين:
وقد رواها لي المرحوم الشَّاعر "سر" أناى كيلويلجانق(7)، وفحواها أن الصَّبي الدِّينكاوي الفقير "بيتر" أناي، وكان ذلك اسمه الأصلي، لجأ في خمسينات القرن الماضي، إلى "سِر" الختم الخليفة، مدير التَّعليم بالمديريَّات الجَّنوبيَّة آنذاك، متوسِّلاً إليه أن يزيح من طريقه عقبة الرُّسوم الباهظة التي كادت تجهض حلمه بالالتحاق بمدرسة رُمبيك الثَّانويَّة، فاستقبله "سِر" الختم، على عكس توقُّعات الأهل والأقران، بحنان وأبوَّة أشاعا الطمأنينة فى نفسه، مسهباً في سؤاله عن أبويه وإخوته، صحَّتهم، القرية، الزِّراعة، الأمطار، مِمَّا أشعر الصَّبيَّ بتعاطف "الخال"، ثمَّ أمَرَ فأُعفي "بيتر" أناي من الرُّسوم، وأُعيد إلى مدرسته والأرض تكاد لا تسعه من الفرح. وما أن استقرَّ في رمبيك حتَّى سارع لإشهار إسلامه، وتغيير اسمه من "بيتر" أناي إلى .. "سِر" أناي!
الواقعة الخامسة من مطالع سبعينات القرن العشرين:
وتتعلق بالأداء السِّياسي للشَّهيد جوزيف قرنق، الجَّنوبي الكاثوليكي، إبان توليه منصب وزير الدَّولة بوزارة شئون الجَّنوب في حكومة مايو الأولى، حيث لم يستخدم نفوذه لمحاباة أهله أو قبيلته، بل رمى بثقله كله في خدمة قضايا الوحدة والسَّلام، فأعدَّ "بيان 9 يونيو 1969م" الذي تأسَّست عليه "اتفاقيَّة أديس أبابا 1972م"، مرتكزاً على الاعتراف المستقيم بالحقائق الموضوعيَّة للمشكلة القائمة، بالأساس، في الفوارق الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة الثَّقافيَّة التَّاريخيَّة بين الشَّمال والجَّنوب، وراسماً الأسس التي يمكن أن تنبني عليها الوحدة والسَّلام (راجع نصَّ البيان ضمن: محمد عمر بشير؛ مشكلة جنوب السُّودان، ترجمة هنري رياض والجِّنيد علي عمر، دار نهضة مصر ومكتبة النَّهضة السُّودانيَّة، القاهرة 1970م، ص 168 171). وقد روى لي صديقه ووكيل وزارته إبراهيم جاد الله(8) أنهم، عندما اقترحوا، ضمن ميزانيَّة التَّنمية في الجَّنوب، حفر أربعين بئراً أرتوازيَّة لمحاربة العطش في أعالي النِّيل، شطب جوزيف أربعاً وعشرين منها بلا تردُّد قائلاً: "في هذا ظلم كثير للنَّاس في كردفان ودارفور"!
الحقيقة الثالثة
تتمثَّل في المساهمات الواضحة للمجموعات المسيحيَّة السُّودانيَّة، منذ مطالع القرن الماضي وإلى عهد قريب، في شتَّى حقول النَّشاط المدني السِّياسي والثَّقافي والاجتماعي والرِّياضي. ويكفى أن نشير، مثلاً، إلى ملحظين بارزين في هذا الإطار:
الملحظ الأول: أن المكتبة القبطيَّة تعتبر أقدم مؤسَّسات المجتمع المدني السُّودانيَّة، حيث جرى إنشاؤها عام 1908م، قبل إنشاء سودان كلب Sudan Club نفسه، حالة كونه المنتدى الصَّفوي للإنجليز في الخرطوم. وتعتبر المكتبة من عيون الخزائن الجِّياد، إذ تحتوى على نحو من عشرة ألف كتاب في مختلف فروع العلم، والأدب، والفن، والثَّقافة العامَّة، علاوة على ثروة من الوثائق النَّادرة. وعضويَّة المكتبة مفتوحة لكلِّ السُّودانيِّين، بصرف النَّظر عن معتقداتهم الدِّينيَّة، ومن بين مؤسِّسيها وأعضائها علماء مسلمون مرموقون كمحمَّد إبراهيم أبو سليم، وزكى مصطفى، والمرحوم نجم الدِّين محمَّد شريف. كما وأن الكثير من أساتذة الجَّامعات وطلاب الدِّراسات العليا يستعينون بها في وضع بحوثهم ورسائلهم. ويكتسي دلالة خاصَّة أن لائحة المكتبة قد جرى تعديلها، ذات مرة، بقرار خاص من الجَّمعيَّة العموميَّة، استجابة لرجاء من أبو سليم، كي تسمح بإهداء ستَّة مجلدات قيِّمة من مجموعة المصرَّيات ضمن مخزونها إلى دار الوثائق السَّودانيَّة. كما يجدر أن نشير إلى أن المؤرخ يونان لبيب رزق، وبمساعدة من أبو سليم، قد عثر، لاحقاً، بين هذه المجلدات على الوثيقة الأساسيَّة التي حسمت النِّزاع لصالح مصر، في التَّحكيم الدَّولي بين مصر وإسرائيل، حول تبعية منطقة "طابا". وقبل ذلك كانت هذه المكتبة قد زوَّدت وزارة الثقافة المصريَّة، في عقابيل ثورة 23 يوليو 1952م، على نسخ نادرة، لأغراض إعادة الطبع، من "أصل الأنواع" لشبلي شميل، و"حرب النهر" لونستون تشيرشل، و"عشر سنوات في أسر المهديَّة" للأب جوزيف أهولدر، بعد نفاد الطبعات الأولى من هذه المؤلفات التي كانت قد صدرت من مطبعة بولاق بالقاهرة في أوائل القرن الماضى.
الملحظ الثانى: أن أروقة الأحزاب السِّياسيَّة، كجزء من مؤسَّسات المجتمع المدني، ظلت تضمُّ، دائماً، وعبر مختلف الفترات، عناصر مسيحيَّة ناشطة بين قياداتها وقواعدها، كتادرس عبد المسيح "عضو مجلس الشِّيوخ سابقاً"، وجوزيف صبَّاغ وإبنه لطيف في حزب الأمَّة، ووديع جيِّد، وعبد الله النَّجيب، وحنَّا يسا البيباض في الاتحادي الدِّيموقراطي، وموريس سدرة، وسمير جرجس، وميشيل اسطفانوس، وجوزيف قرنق، وجوزيف موديستو، وجرجس نصيف، في الحزب الشِّيوعي، على سبيل المثال.
(6)
في خلفيَّة هذه الحقائق وغيرها تتجلى المفارقة المأساويَّة بوضوح حين ننظر الآن في ما انتهى إليه هذا الحضور الرِّيادي، فلا نجد، إلا في ما ندر، غير ضعف مشاركة المجموعات المسيحيَّة، خصوصاً القبطيَّة، في الحياة العامَّة، بل غيابها شبه التَّام عن أنشطة المجتمع المدني، وانزوائها الكامل كما الجَّاليات المعزولة! وقد لا يحتاج الباحث إلى كبير عناء ليعود بتاريخ هذه الظاهرة إلى فترة أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضي، والتي شهدت بداية الإرهاص الجِّدِّي بتدشين مشروع الدَّولة الدِّينيَّة الذي أُنجز أولى حلقات تمظهره الكيفي بإصدار وتطبيق قوانين سبتمبر 1983م، باسم الشَّريعة الإسلاميَّة، ثمَّ عاد لاحقاً إلى مراكمة عناصر حركته بذات الاتجاه في ظل الظروف التي تمخضت عنها الانتفاضة الشَّعبية بين أبريل 1985م ويونيو 1989م، حيث استكمل خطوته التَّحويليَّة نحو حلِّ قضيَّة السُّلطة عن طريق الانقضاض المسلح على الدِّيموقراطيَّة الثَّالثة.
صحيح أن المسيحيِّين شهدوا، خلال هذه الفترة، من عنت المعاش والثَّقافة والاجتماع، ما لم يشهدوا طوال قرن بأكمله، بما في ذلك التَّشريد الذي طال أندر كفاءاتهم في سلك الإدارة والمصارف وخلافه. ولكن الصَّحيح، أيضاً، أن الكثير من المسلمين أنفسهم أضيروا، ربما بأكثر من المسيحيِّين، من مشروع التَّيَّار "السُّلطوي الاستعلائي". وليس سوى مكابر من ينكر أن هذا المشروع لم يعدم مساندة مسيحيِّين بين الجَّنوبيِّين الكاثوليك والأقباط الأرثوذكس. كما وليس سوى مكابر من لم يلمح، في ملابسات الحرب التي جرى تصويرها على أساس ديني، كيف أن المسلم قد قتل بيد المسلم، والمسيحي بيد المسيحي. لذلك ينبغي الكفُّ عن التَّرويج للمشكلة كما لو كانت قائمة بين المسيحيِّين ككتلة متجانسة، وبين المسلمين ككتلة متجانسة مضادَّة.
لقد بدت هذه الحرب اللعينة، أوَّل أمرها ، كانعكاس، بالفعل، لمشكلة وطنيَّة في ظروف التخلف ".. national question under backward conditions"، كما ذهب إلى ذلك جوزيف قرنق، مثلاً، في كتابه "The Dilemma of the Southern Intelligentsia" الصَّادر عن وزارة شئون الجَّنوب عام 1970م. وقد كان من الميسور، أوان ذاك، حساب التخلف الاقتصادي كأهمِّ أساس لها. ولكننا الآن، وفق ملاحظة د. محمد سليمان السَّديدة في كتابه (حروب الموارد والهُويَّة، دار نشر كيمبردج، لندن 2000م)، نكاد نكون قد نسينا الأسباب المباشرة والهيكليَّة للحرب، على حين تضخَّمت لدينا، مع مرور الزَّمن، إحدى أخطر "النتائج" المترتِّبة عليها، لتشكِّل بنفسها "مورداً" مستقلاً لتفاقمها، وهي منظومة المُدركات والفهوم السالبة perceptions التي تتخفى خلف التَّعبيرات الدِّينيَّة، في الغالب، كصورة للوعي الاجتماعي المقلوب (!) والذي لطالما غذَّته أيديولوجيَّة التَّسلط والاستعلاء، وعزَّزته الحربُ فى الذهنيَّة العامَّة. لذا، وبالمقارنة مع السَّلاسة النِّسبيَّة للحلول التنمويَّة التي كان من الممكن اجتراحها على كلا البنيتين التحتيَّة والفوقيَّة منذ مطالع الاستقلال، فإن هذه الحلول قد تستنفد منا اليوم أعماراً بأكملها ريثما تجدي فتيلا! ومع ذلك لا يبدو، لسخريَّة الأقدار، أن ثمَّة مخرجاً أمامنا سواها!
لقد ثبت أمام أعين الجَّميع أن فضل "الإيقاد" لا يتجاوز إسكات البنادق! أما كلُّ ما عدا ذلك، كتعميق الدِّيموقراطيَّة، وعدالة التَّنمية، ونبذ الاستعلاء بالدِّين، والثَّقافة، واللغة، والعرق، وخلافه، فإنه ما يزال من مهام المجتمع المدني، بما في ذلك الضَّغط على الدَّولة لتنفيذ ما يليها من واجبات. وغافل من يكِلُ عمل المجتمع المدني إلى الدَّولة، حتى بمشاركة الحركة الشَّعبيَّة في إدارتها! ومن نافلة القول أن أهم مهام المجتمع المدني، في هذا الإطار، هو ترميم اطمئنان المجموعات المسيحيَّة بالوطن، واستعادة دورها في ساحات النشاط السِّياسي والاجتماعي العام.
(انتهى)
الهوامش:
(1) جريدة (حضارة السودان) التي اشترك فى تأسيسها، عام 1919م، السَّيِّد عبد الرحمن المهدي، والسَّيِّد علي الميرغني والشَّريف يوسف الهندي، وكان أوَّل من تولى رئاسة تحريرها المرحوم حسين شريف.
(2) النصُّ الكامل للقصيدة منشور ضمن كتاب سعد ميخائيل، المسيحي أيضاً، والذي أصدره عام 1925م، بعنوان: (شعراء السودان، مطبعة رعمسيس بالفجالة بمصر، ص 140).
(3) صحفي مخضرم من أكثر الأقباط السُّودانيِّين انشغالاً بهموم السَّلام والوحدة الوطنيَّة والدِّيموقراطيَّة والتَّقدُّم، وأبرزهم في حقل النَّشاط السِّياسي والاجتماعي العام (من مقابلة شخصيَّة معه في منزله بالخرطوم، نهار الأحد 21 ديسمبر 2003م).
(4) رجل أعمال من خريجي مدرسة كمبوني بعطبرة أواسط السِّتينات، وكان عضواً في لجنة اتحادها.
(5) مسيحي من أبكار رجال التَّربية والتَّعليم، والد الضَّابط الشَّهيد ميلاد سعد سليمان الذي التحق بقوَّات المعارضة خلال تسعينات القرن الماضي، واستشهد في بعض ملابسات العمل العسكري بشرق البلاد.
(6) وفى سلالتها نفر من مشاهير الشَّخصيَّات السُّودانيَّة التي لعبت أدوار مهمَّة في شتَّى مجالات الحياة السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة في البلاد، كوديع حبشي، الخبير الزِّراعي العالمي، والوزير ومدير مشروع الجَّزيرة الأسبق، وأوَّل رئيس للنادي القبطي عند تأسيسه في 1978م، ونجيب يسا، مدير مصنع سكِّ العملة الأسبق، وسكرتير نادى المريخ الأسبق، وغيرهما.
(7) وقد سبق أن أوردت هذه الواقعة ضمن فصل (جنوبيُّون)، في كتابي (الآخر)، تحت عنوان (الثقب في سقف البيت).
(8) من محادثة هاتفيَّة معه عصر السَّبت 21 يوليو 2001م. وقد سبق أن أوردتها أيضاً ضمن (جنوبيُّون) تحت عنوان (جو: أىّ فتى أضاعوا).
**


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.