باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    العربي يكسب الاتفاق في دورة الفقيد معاوية الجميعابي بالإنقاذ    قوات الدعم السريع تطلق سراح اثنين من أبناء شقيقة البشير اعتقلتهم من قرية صراصر    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    تقرير مسرب ل "تقدم" يوجه بتطوير العلاقات مع البرهان وكباشي    بعد الدولار والذهب والدواجن.. ضربة ل 8 من كبار الحيتان الجدد بمصر    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مَلامِحٌ مِن المُقدِّمَاتِ الفِكْرِوسياسيَّةِ لِحَفْزِ خَطَرِ النَّزْعَاتِ الانْفِصَاليَّة!
نشر في حريات يوم 07 - 10 - 2015


(1)
كانت، وما زالت، انتلجينسيا المستعربين المسلمين في السُّودان تتوزَّع، حتَّى منذ ما قبل الاستقلال السِّياسي عام 1956م، بين تيَّارين رئيسين ظلت عناصرهما هي الأكثر تصدِّياً لقيادة الحركة السِّياسيَّة في شمال البلاد: تيَّار "توحيدي" يضمر صون الوحدة الوطنيَّة، لكن أغلبه لا يرى شرطها الجَّوهري في المساكنة المتكافئة؛ وتيَّار "تفكيكي" على أتمِّ الاستعداد لإطاحة هذه الوحدة، حيثما شعر بأنها تمسُّ علويَّة superiority موقع المستعربين المسلمين، وسلطتهم المطلقة، في خارطة العلاقات الإثنيَّة.
وطوال ذلك التَّاريخ لم تكف هذه الفئة الاجتماعيَّة، وبالأساس تيَّارها "التَّوحيدي"، بمختلف مدارسه الفكريَّة، وانحيازاته السِّياسيَّة، عن اجتراح مختلف الطروحات حول قضيَّة الهُويَّة بالذَّات. لكن، لئن كان التيار "التَّفكيكي" لا يحفل، البتَّة، بمعرفة "الآخر" المُساكِن له في الوطن، فإن التَّيَّار "التَّوحيدي"، على اهتمامه بهذه المعرفة، غالباً ما يجابه، على صعيدها، صعوبات جمَّة تنجم، في العادة، من حواجز اللغة، والثَّقافة، والمعتقد، فتشكِّل إغواءً، حتَّى بالنِّسبة لهذا التَّيَّار "التَّوحيدي"، بالركون للشَّائع عن هذا "الآخر" في الذهنيَّة العامَّة، مِمَّا يُسْلِم طروحات معظمه، المرَّة تلو المرَّة، لاستسهال التَّفسيرات التي تصوِّرها كمجرَّد "حواجز صناعيَّة أقامها المستعمرون لتجزئة القطر الواحد" (محمد فوزى مصطفى؛ الثَّقافة العربيَّة وأثرها في تماسك الوحدة القوميَّة في السُّودان المعاصر، الدار السُّودانيَّة للكتب، الخرطوم 1972م)، أي كمحض مؤامرة استعماريَّة قطعت الطريق أمام التحاق الإثنيَّات غير المستعربة وغير المسلمة في مختلف أنحاء هذا القطر القارَّة، خصوصاً في الجَّنوب، بحركة الاستعراب والأسلمة التي استكملت نموذجها الأمثل، حسب زاوية النظر هذه، في الشَّمال وفي الوسط.
(2)
هكذا، وبإزاء مصاعب البناء الوطني، وبدفع من الجَّامعة العربيَّة والمنظمات الإسلاميَّة التي انتمى إليها السُّودان بعد الاستقلال ضربة لازب، والتي أناطت به مهمَّة تعريب وأسلمة الأفارقة على مبدأ القَّهر والغلبة (عبد الله على إبراهيم؛ الثَّقافة والدِّيموقراطيَّة في السُّودان، دار الأمين، القاهرة 1996م)، ولأن الاستسهال يقود للمزيد من الاستسهال، فقد أُفرغت معظم هذه الطروحات، على تنوُّع منطلقاتها، خصوصاً وسط القوى التَّقليديَّة التي ورثت السُّلطة عن الاستعمار، في برامج وسياسات رسميَّة اتَّسمت بطابع سالب من عدة أوجه، حيث:
أ/ أُعلنت "العربيَّة" لغة رسميَّة، في ما أسماه بعض نقاد هذه السِّياسة ب "الجَّبر اللغوي" (المصدر)؛ وقد شكَّل ذلك إهداراً لكلِّ ثراء البلاد من جهتي التَّعدُّد والازدواج اللغويَّين، إذ توجد في السُّودان ممثِّلات لكلِّ المجموعات اللغويَّة الأفريقيَّة الكبيرة ، ما عدا لغات الخويسان في جنوب أفريقيا (سيد حامد حريز ضمن عبد الله على إبراهيم؛ الماركسيَّة ومسألة اللغة في السُّودان، دار عزَّة، الخرطوم 2001م). وبحسب إحصاء 1956م فإن اللغات التي يتحدَّث بها أهل السُّودان تبلغ مائة وأربع عشرة لغة، نصيب الجَّنوبيِّين منها حوالي خمسين. ويتحدث 51% من جملة السكان البالغة آنذاك 10,262,536 اللغة العربيَّة، ويتحدث 17,7% اللغات النيليَّة "11% منهم بلغة الدينكا"، ويتحدث 12,1% بلغات غير العربيَّة في الشَّمال والوسط (المصدر). وقد صنَّف جوزيف غرينبيرج كلَّ المجموعات اللغويَّة الأفريقيَّة الكبيرة في أربع أسر. وباستثناء الأسرة الخويسانيَّة، كما سلفت الإشارة، فإن الأسر الثلاث الأخرى جميعها متوطنة في السُّودان، وهي: أسرة اللغات الأفريقيَّة الآسيويَّة، ومنها العربيَّة والبجاويَّة، وأسرة اللغات النيجركردفانيَّة، ومنها لغة النوبا الكواليب والمورو والفولاني، وأسرة اللغات النِّيليَّة الصَّحراويَّة التي يُعتبر السُّودان الموطن المثالي لكلِّ فروعها، وهى ميزة لا تتوفَّر في أي قطر أفريقي آخر. وينتمى إلى هذه الأسرة ما يربو على 70% من اللغات المحليَّة في السُّودان، بل ويتمتَّع بعضها بموقع معتبر في خارطة البلاد اللغويَّة من حيث عدد المتحدِّثين بها، فضلاً عن سعة انتشارها الجُّغرافي، كمجموعة اللغات النوبيَّة في جبال النُّوبا وشمال السُّودان وحلفا الجَّديدة، ومجموعة اللغات النيليَّة، ولغة الفور، ولغة الزَّغاوة، على سبيل المثال (الأمين أبو منقة الأضواء؛ 16 فبراير 2004م). وتزداد أهميَّة لغات هذه الأسرة بالنِّسبة للسُّودان لجهة اشتراكه، في عدد منها، مع جميع البلدان المجاورة، بل إن خارطته اللغويَّة تضم لغات نيليَّة صحراويَّة مهاجرة من أقصى غرب أفريقيا، كلغة صنغاي السَّائدة في مالي والنَّيجر، ولغة الكانوري السَّائدة في بلاد برنو "نيجيريا" والنَّيجر وتشاد. وتكمن أهميَّة هذه الحقائق في تأكيد عمق صلات السُّودان التاريخيَّة بجيرانه، وتشكيلها عنصراً مهماً في تواصله معهم (المصدر).
ب/ ومثلما جرى، في الشَّأن الدَّاخلي، استسهال رسم السِّياسات التي تتمحور، كليَّاً، حول مركز الدِّين الواحد "الإسلام"، واللغة الواحدة والثقافة الواحدة "العربيَّة"، مِمَّا أقصى كلَّ أقوام التعدُّد والتنوُّع الثقافي واللغوي، باعتبار خاصيَّة اللغة كحامل للثقافة، وأحال هذه الأقوام إلى محض أهداف للتَّعريب والأسلمة، فقد جرى ، في الشَّأن الخارجي، أيضاً، استسهال المراهنة، بعين البُعد الواحد، على إدراج السُّودان "بأسره" تحت شعارات "العروبة"، و"القوميَّة العربيَّة"، و"الوحدة العربيَّة"، وما إليها، واعتبار ذلك كله بمثابة "الممكن" التَّاريخي الوحيد المتاح لحلِّ مشكلة "الوحدة الوطنيَّة"، فإذا بمردوده العكسي الفاجع يتحوَّل، لدى الذِّهن "الآخر"، غير المستعرب وغير المسلم، إلى محض ترميز ناجز بنفسه للتَّيئيس من جدوى هذه "الوحدة"، وحفز الميل، من ثمَّ، ل "الانفصال"، الأمر الذي أثارت خطورته انتباه بعض المفكرين العرب، حتى مِمَّن يرون أن "القوميَّة العربيَّة .. ما تزال قوَّة حيَّة ومحرِّكة"، ودفعهم لأن يدقوا أجراس "الخاصِّيَّة القطريَّة .. في التَّفكير القومي العربي، وما تقدِّمه (له) من أمثولة هو بأشدِّ الحاجة إليها" (إيليا حريق مقدمة في: عبد الله على إبراهيم؛ الثَّقافة والدِّيموقراطيَّة ..). فوفقاً لهذا التَّيَّار عالج الفكر القومي العربي تلك المشكلة "بشيء من الخفَّة، إن لم نقل العداء .. (و) التَّجاهل أو التَّهوين .. مدَّعياً .. أن الأقليَّات لا تختلف في الرَّأي عن النَّهج القومي العام .. (لكن) الطريق القويم للقوميَّة العربيَّة اليوم .. هو احترام الفروق القائمة في المجتمع والدَّولة القطريَّة ومساعدتها على التَّكامل، والنُّموِّ، والازدهار، لكي تستطيع .. تشييد البناء القومي .. على قاعدة وحدات من الدُّول القطريَّة. (وإذن)، بدل أن نسعى إلى القضاء على الدَّولة القطريَّة، وعلى خاصيَّتها، فالأحرى بنا أن نعمل للاحتفاء بها، والاعتماد على مقدراتها، فهي الأساس الذي نرتقي منه نحو البناء القومي الأعلى" (المصدر).
(3)
لقد تبلورت أبرز المقدمات الفكريَّة التي استسهلت تصميم وإنفاذ سياسات التَّعريب والأسلمة تلك، قبل الاستقلال بوقت طويل، من خلال الاتجاهات والميول الفكريَّة والثَّقافيَّة الغالبة على حركة المستعربين المسلمين الوطنيَّة بوجه عام، ووسط إنتلجينسياهم بوجه مخصوص. ويتبدَّى قيض من فيض تلك المقدِّمات، مثلاً، في:
أ/ تكريس الشَّيخ عبد الله عبد الرحمن الأمين الضَّرير كتابه "العربيَّة في السُّودان"، عام 1921م، لإثبات "نقاء" اللسان العربي في السُّودان "كلِّه"!
ب/ انطلاق الشِّعر الذي كان يمثِّل، وقتها، صورة الفكر الرَّئيسة، في ذات الاتِّجاه، من فوق منابر الموالد، وفعاليَّات الخرِّيجين، والمناسبات الدِّينيَّة والاجتماعيَّة المختلفة. وربَّما تتجلى المفارقة، هنا، كأوضح ما تكون، في أنه، وعلى حين كان علي عبد اللطيف، نوباوي الأب، دينكاوي الأمِّ، يتزعَّم الحركة الوطنيَّة في عقابيل الحرب العالميَّة الأولى، كان شاعرها الأكبر خليل فرح، نوبىُّ الأصل، ينشد ممجِّداً أولئك الثُّوار الوطنيين بأنهم:
"أبناءُ يعربَ حيثُ مجدُ ربيعةٍ
وبنو الجَّزيرة حيثُ مجدُ إيادِ"!
ج/ تحديد محمد احمد محجوب، عام 1941م، وكان من أبرز مثقفي تلك الحقبة، ثم أصبح، لاحقاً، من أميز قادة الفكر السِّياسي، وأحد الزعماء المرموقين الذين تقلدوا الوزارة عن حزب الأمَّة، شروط المثل الأعلى للحركة الفكريَّة "في هذه البلاد"، على حدِّ تعبيره، بأن "تَحترِم تعاليم الدِّين الإسلامي الحنيف، وتكون ذات مظهر عربي في تعبيرها اللغوي" (ضمن: أسامة عبد الرحمن النور؛ موقع "ARKAMANI" على الشَّبكة). ولا نحتاج إلى فانوس ديوجينس، بطبيعة الحال، لنستنتج أن المحجوب لم يكن يرى، في طول البلاد وعرضها، سوى "ديانة" و"ثقافة" و"لغة" المستعربين المسلمين وحدهم! لذا تكتسي دلالة خاصَّة، في هذا السِّياق، عودة الصَّادق المهدي، إمام الأنصار ورئيس حزب الأمَّة، بعد ما يربو على نصف القرن، لينتقد ما أسماه، عن حق، ب "الأحاديَّة الثقافيَّة" لدى القوى السِّياسيَّة الشَّعبيَّة التي حكمت السُّودان بعد الاستقلال، مِمَّا أدَّى إلى استقطابات دينيَّة وثقافيَّة حادَّة (ورقة بعنوان "تباين الهويَّات في السُّودان: صراع أم تكامل").
(4)
ورغم أن "عروبة السُّودان" لم تكن قد حُسمت، بعد، ربَّما بسبب وضعه الطرفي (محمد عمر بشير، 1991م)، إلا أن العروبة والدِّيانة الإسلاميِّة ترسختا فيه، مع ذلك، رسميَّاً، لا ك "خيمة" كان يؤمَّل أن تسع قضيَّة "الوحدة" بقدر ما تسع حركة المثاقفة الطبيعيَّة بين مُكوِّنات التعدُّد السُّوداني، وإنما كأيديولوجيَّة قامِعة في أيدى النُخب المعبِّرة عن طبقات "الجَّلابة" السَّائدة اقتصاديَّاً وسياسيَّاً واجتماعيَّاً وفكريَّاً. هكذا تمدَّد تيَّار التَّعريب والأسلمة في جميع هذه الجَّوانب، جاعلاًً من نمط "تديُّنه" هو، لا من "الدِّين" في حدِّ ذاته، إطاراً وحيداً لمنظومة القيم في كلِّ البلاد، ومن العربيَّة وسيلة وحيدة للصَّحافة، والإعلام، والمعاملات الرَّسميَّة، ومناهج التَّربية والتَّعليم، مثلما جرى "تأطير المجتمع .. على تلك الأسس .. (مِمَّا) أعاق .. فرص الأقليَّات التي لا تتوافق مع النَّموذج السَّائد في مجالات التَّطوير الذَّاتي .. و .. تكوَّن حاجز نفسي/سلطوي .. في وجه أيَّة مراجعة .. للشَّأن الدَّاخلي يُظنُّ أنها قد تمسُّ جوهر الانتماء العربي" (يوسف مختار الأمين؛ موقع "ARKAMANI" على الشَّبكة).
زاد الأمر تعقيداً عجز هذه النُّخب الطبقيَّة التي تعاقبت على كراسي الحكم عن إنجاز أيِّ قدر من التَّنمية الشَّاملة، أو تأسيس النِّظام الذي يلبِّي طموحات الأغلبيَّة. كما راحت تتوسَّع تلقائيَّاً، في ظلِّ أوضاع التَّخلف، وتدهور الاقتصاد، والظروف المعيشيَّة، وارتفاع معدَّلات النُّموِّ السُّكاني، بؤر الصِّراع الإثني، والجِّهوي، والثَّقافي، مِمَّا تجلى، وما زال يتجلى، في مواقف مغايرة للسَّائد، في عرف المستعربين المسلمين، برفع السِّلاح في وجه السُّلطة المركزيَّة، وإشعال الحروب الأهليَّة، دَعْ الصِّراعات القبليَّة التي ما تنفكُّ أبعادها وآثارها تتفاقم يومًا بعد يوم (المصدر).
(5)
ولأن الثَّقافات "الأخرى" لا تنسجم في السِّياق، بل وقد تتسبَّب في إرباكه، فقد جرى إقصاؤها، عمليَّاً، أغلب الأحيان، كما في حالتي الدِّين واللغة، أو محاولة إدماجهاassimilation، قسريَّاً، في "أفضل!" الأحوال، على نهج الاستعمار الفرنسي (!) وربَّما يكفى أن نشير، من بين جمهرة النماذج الملموسة، والمُشاهدة، إلى نموذجين بسيطين ساطعين: أوَّلهما يتمثَّل في ما آلت إليه فرقة الفنون الشَّعبيَّة، منذ أيَّام النِّظام المايوي، حيث غالباً ما ظلت عروضها من الشَّرق والغرب والجَّنوب تتماهى مع إيقاعات وحركات الشَّمال والوسط، ترميزاً مزعوماً ل "وحدة" مدَّعاة، فتستحيل خشبة المسرح إلى "مولدٍ" سياحي "زائط" بالأزياء، والألوان، وجلود الحيوانات، على أجساد الرَّاقصين والرَّاقصات، وصنوف الخرز، والسُّكسُك، والسِّيور على الأعناق، والمعاصم، والأرجل! كان ذلك قبل أن يجري، منذ مطلع تسعينات القرن المنصرم، "تحجيب" الجَّميع بمقايسات "الزي الإسلامي"، أو "تغييبهم" بحظر عروضهم نهائيَّاً، وكفى الله المؤمنين القتال! أمَّا النموذج الثَّاني فيتمثل في شكلي "الأوركسترا القوميَّة"، من جهة، و"فرقة البالمبو"، من جهة أخرى. فأما بالنِّسبة للأولى فقد كفانا قائدها نفسه، د. الفاتح حسين، مؤونة التدليل على كونها لا تعكس جماع الثَّقافات الموسيقيَّة السُّودانيَّة، وبالتالي فهي لا قوميَّة ولا يحزنون (الصَّحافة، 18 أبريل 2004م). وأما بالنِّسبة للأخرى فقد كنت أبديت تخوُّفي، قبل أكثر من ربع قرن، في مقالة بعنوان "Avoiding Crusades"، على صفحات مجلة (SUDANOW, February 1980)، من خطة مدير معهد الموسيقى والمسرح الرَّامية، أوان ذاك، لتكوين أوركسترا "قوميَّة!"، كما وصفها، تتشكَّل من مجموعة آلات من مختلف أقاليم البلاد، حيث استندت إلى عِلم وخبرة الماحي إسماعيل، مدير قسم الموسيقى العربيَّة بإذاعة كولون، في التَّنبيه لكون هذه الآلات تنتمي، في الأصل، إلى بيئات ثقافيَّة مختلفة، وأنها، لهذا السَّبب، سوف تحتاج، بالضَّرورة، لإعادة دوزنتها، أي لانتزاعها، عمليَّاً، من قلب تُرْبَاتِها الثَّقافيَّة، تمهيداً لإرغامها على الأداء "المنسجم!" مع بعضها البعض، فيكون النَّاتج، بدلاً من جماع ثقافات، مجموعة أصفار كبيرة! ودعوت لتأمُّل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر فادحة على مستقبل حوار الثَّقافات، ومشروع تساكن القوميَّات، حيث سيستحيل ذانك الحوار والمشروع إلى محض تنضيد قسري لرموز، وإشارات، وأشكال تفتقر، أوَّل ما تفتقر، إلى الرُّوح. وقد أحزنني أن أرى تلك الخطة العقيم تُبعث مجدَّداً، في فرقة "البالمبو" الموسيقيَّة الغنائيَّة، بعد أن كانت قد قُبرت في مهدها كأوركسترا. فلئن كانت دعاوى "الوحدة في التَّنوُّع"، و"التنوُّع في الوحدة"، و"حوار المكوِّنات الثَّقافيَّة" هى سيرورات، في جوهرها، لا محض عمليَّات إجرائيَّة، فإن الفهوم الإداريَّة الميكانيكيَّة تهدر كلَّ معنى لها، حين تنتهي بها، وسط الضَّجيج و"الكَرْكَبَة"، إلى مجرَّد مسوخ شائهة تُخضِع ثقافات الجَّنوب، والشَّرق، والغرب، والجَّنوب الشَّرقي الموسيقيَّة لمقتضى دوزنات الشَّمال والوسط، فلا يُصار إلى أكثر من إعادة إنتاج الأزمة النَّاشبة بين "المركز" و"الهامش"، وإنْ في سياق آخر!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.